قانون الدولة، وثقافة اللا نظام والفوضى

نبيل عبد الفتاح

نشأت القوانين، وتبلورت مع الحضارات القديمة، الفرعونية والصينية، وفى بلاد الرافدين – شريعة حمورابى-، وتطورت مع القانون الرومانى، ونظام الشريعة الإسلامية، والجذور الفلسفية  والتاريخية التى تأسس عليها القانون الرومانى، وتحول إلى المرجعية التاريخية، والفلسفية للنظم والثقافات القانونية الأوروبية الحديثة، التى تطورت فى إطار الدول القومية مع نشأة الرأسمالية الأوروبية، والحركات القومية، وبناء الدولة الأمة، ثم مع الثورات الصناعية من الأولي إلى الرابعة مع تحولات فلسفية وسوسيولوجية وثقافية إلا ان القانون الروماني لايزال الأساس والمصدر التاريخي لها.

عديد من الفلسفات  والنظريات القانونية، أثرت وتأثرت بالقانون، ومنظوماته المتعددة وتعتبر فلسفة القانون فلسفة الفلسفة – وفق الفقيه المصري الكبير ثروت انيس الأسيوطي -، سواء القانون العام، والخاص، بل إن القانون الدولى، ومفاهيمه بعضها مستمد من التقاليد القانونية الحديثة ومواقع القوة في عالمنا ، بقطع النظر عن تبلوره المعاصر، منذ نهاية الحرب العالمية الأولى والثانية، وظهور التنظيم الدولى المعاصر، أيا كانت مثالبه، وأعطابه، وفاعليته وتطبيقه بلاتحيز فى ضبط العلاقات بين الدول وأشخاص القانون الدولى العام وتطبيقه علي كافة أشخاص القانون الدولي في مساواة .

مفهوم القانون، ومنظوماته المختلفة، وفلسفاته ترتكز على تكريس مفهوم النظام، لضبط العلاقات داخل المجتمع، وتنظيمها، فى إطار الصراعات الاجتماعية والسياسية حول المصالح الاجتماعية والسياسية المتغياه والمطلوب حمايتها من السلطة الحاكمة ، والدفاع عنها ، وحماية ما يطلق عليه النظام العام، والآداب العامة .  المفهومين يتسمان بالعمومية الشديدة، والسيولة، والتغير في تفسيرهما من سلطات الدولة مع التطورات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، والثقافية . من ثم خضع هذين المفهومين القانونيين فى تفسيرهما للسلطة السياسية الحاكمة -أيا كانت طبيعتها ديمقراطية أو استبدادية أو تسلطية – وأيضا إلى التفسيرات القضائية فى كل مرحلة من مراحل تطور هذه السلطات القضائية ، ومدى استقلاليتها، فى كل النظم السياسية أيا كانت طبيعتها ، علي نحو مايظهره التباين بين القضاء الأوروبي والأمريكي وبين غالبُ السلطات القضائية العربية .

القانون كان صنّوَ النظام فى كل مراحل تطوره التاريخى، فى الحضارات القانونية القديمة الفرعونية، والصينية، وبلاد الرافدين – ميزوبوتاميا- والرومانية، حتى الدولة/ الأمة فى ظل التطورات في بنية الرأسمالية، والثورات الصناعية المتعاقبة. كان القانون ولايزال يرمى إلى الضبط الاجتماعى وإقرار شرعية النظام ، وتنظيم الصراعات الاجتماعية، والأهم هو استقرار النظام فى مواجهة كافة الظواهر والسلوكيات الاجتماعية الخارجة على قواعده، وذلك حماية للملكية العامة، والخاصة، وتحقيق الاستقرار للنظام وللسلطة السياسية الحاكمة -أيا كان شكلها وطبيعتها-، ومن ثم يتم استخدام القوانين من السلطة الحاكمة من أجل تقنين بعض المصالح والقيم الاجتماعية، وأيضا من أجل أحداث التغيير الاجتماعى المطلوب، ليتواكب مع تطورات الصناعة، والاقتصاد، والسياسة، وخاصة فى ظل التحديث، والحداثة القانونية والسياسية والثقافية.

من هنا كان القانون هو ذروة التعبير والتجسيد لمفهوم النظام ، وهو الذى يحدد معالمه.. ويكرس ذلك فى تفسيرات القضاء فى كل دولة من الدول الحديثة، وما بعد بعدها، وإلى الآن . أن تحديد النظام ومكوناته، وأجزاءه، وعناصره تخضع للسلطة الحاكمة والقيم والتقاليد والأعراف، والدين فى بعض الدول العربية والإسلامية . غالباً ما يكون النظام- مجموعة من العناصر التى تشكل كلا واحداً، وترتبط ببعضها بعضا -تعبيراً عن تصورات وفلسفة قانونية، والثقافة السياسية السائدة، ومصالح وأفكار السلطة الحاكمة، ومصالحها وقواعدها الاجتماعية.

أحد أهداف أى نظام قانونى وسياسى واجتماعى، هو مواجهة القوى اللا نظامية، وأشكال السلوك الاجتماعى والسياسى والاقتصادى المضادة للنظام، والأخطر الحيلولة دون أن تتحول إلى ظواهر اجتماعية، واسعة النطاق فى مرحلة تاريخية ما، وتغدو حالة من الفوضى disorder وفقدان النظام، ومن ثم إلي تفكك الترابط بين قواعده القانونية والسياسية، والاجتماعية ، والسلوكية، وعدم قدرة النظام والسلطة الحاكمة على فرض القوانين، ولا مبالاة المواطنين بها، والخضوع الطوعى لها، وأيضا مراعاة فرض احترامها، بحيث يتحقق الأمن والسلامة، دونما خرق لها سواء عبر أعمال العنف وأشكالها سواء فردية أو جماعية او منظمة من خلال جماعات مسلحة، أو من خلال تجاوز الأنظمة القانونية، عبر أشكال من السلوك الاجتماعى الجانح، كآليات الرشوة والفساد الإدارى والسياسى داخل أجهزة الدولة والمواطنين…الخ!

عدم قدرة أي نظام سياسي أو قانوني أو اجتماعي أو اقتصادي علي التعامل مع مصادر عدم التكامل والأنضباط داخل النظام ، والقوي والجماعات والأفراد المحركين للخروج علي سراط النظام والقانون يؤدي إلي توسيع نطاق الفوضى . هذا النمط من السلوكيات والأفعال يتمثل في إشاعة وممارسة القيم السلبية المضادة للنظام والقانون ، من مثيل الأهمال وعدم العمل الجاد والكفء، والصالح العام، والانتماء الوطني العابر لكل الانقسامات الداخلية، والانتماءات الدينية والمذهبية والعرقية والقبلية والعشائرية في غالبُ المجتمعات العربية ..الخ . لاسيما في البلدان التي لم تتبلور فيها شرائط بناء وطنيات وأمم علي المثالين المصري والمغربي التاريخيان. قيم اللانظام تتمثل أيضا في الأثرة الشخصية السلبية ، والأنامالية ضد قيم التعاضد والتضامن الاجتماعي ، وغياب النزعة الغيرية ، واللامبالاة ، وانتهاك المال العام، وعدم الحفاظ عليه .الخ.

لاشك أن تراكم السلوكيات الاجتماعية المضادة للنظام العام، وقانون الدولة ، وانتشارها علي مدي زمني طويل، يؤدي إلي هيمنة ثقافة اللانظام والفوضي والأضطراب .

أن ثقافة الفوضى ناتجة عن الفجوات السوسيو- نفسية بين قانون الدولة، والنظام السياسى، ونخبته الحاكمة، وبين غالبية المواطنين، وخاصة القوى الاجتماعية الشعبية، والانحياز لمصالح طبقية محددة، على نحو ما نرى فى عديد البلدان العربية، وهو ما أدى إلى تمدد ثقافة الفوضى، من خلال القيم السلبية المضادة لأحكام القانون، والسلوكيات الاجتماعية الجانحة الحاملة لهذه القيم المضادة.

تمدد الظواهر الاجتماعية للفوضى المضادة للقانون، والنظام أدت فى بعض المجتمعات العربية إلى حالة اللا نظام.  ثمة سياسات وتقاليد دولتية عربية تحاول الضبط  والسيطرة علي غالبها، من خلال السياسات الأمنية، إلا أن فاعليتها نسبية، وتنطوى على مشكلات، بالنظر إلى الانفجار السكانى وكبر حجم المجتمع إزاء أجهزة الدولة، وعسر الحياة، وتفاقم المشكلات الاقتصادية، والاجتماعية، وانفصال بعض السياسات الأمنية عن السياسات الاجتماعية فى ظل سيطرة فكر النيوليبرالية الاقتصادية واللامبالاة بأنعكاساتها علي الطبقات الشعبية المعسورة وماوراء خط الفقر .

لا شك أن شيوع النزعات الاستهلاكية المفرطة بين كافة الشرائح الاجتماعية، أدت إلى إنتاج الشخص المستهلك المفرط، الذى يعتبر وجوده الإنسانى، وقيمه، وسعادته، مرتبطين بحجم استهلاكه من السلع، والخدمات على نحو أدى إلى  تمدد السلوك الاستعراضي ، وتحول الاستهلاك المكثف إلى قيمة مركزية فى الوعى الاجتماعى الفردى، والجماعى. من ثم أدى ذلك إلى حالة هوسيّة من الولع الاستهلاكى، وخروج بعض الفئات الاجتماعية، على القيم الاجتماعية الإيجابية، وعدم احترامها، واتخاذ قيم الاستهلاك المفرط، وإشباعه بكافة الطرق والوسائل المشروعة، واللا مشروعة أيا كانت، على نحو يؤدى إلى انتهاك القوانين، وقيم النظام -أيا كانت طبيعتها السياسية والاجتماعية وانحيازاتها- على نحو يكرس ثقافة اللا نظام والفوضى.

ساهمت الحياة الرقمية، ووسائل التواصل الاجتماعى، فى انفجار قيم الأستعراض الرقمي والفعلي ، ومن ثم إلي الاستهلاك، والأنانية، والسلبية، والنقد المجانى السلبي لكل مكونات النظام والقانون ، -وأحيانا إيجابى- والخروج على بعض ما كان يشكل ما يطلق عليه الآداب العامة، فى اللغة، والسلوك الرقمى سعيا وراء التفضيلات، والحصول على المال من الشركات الرقمية. أدت وسائل التواصل إلى انفجار الولع بالاستهلاك المفرط، وتحقيقه بكافة الوسائل والطرق فى الواقع الفعلى.

لا شك أن ثقافة الفوضى واللا نظام تشكل سمت الحالة الاجتماعية فى عديد من المجتمعات العربية، وتحتاج إلى معالجات شاملة، لاستعادة التوازنات الاجتماعية بين المصالح الاجتماعية المتصارعة ومفهوم النظام وثقافته.

المصدر: الأهرام

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى