افتقدنا منذ سنوات نوعيّة الحضور الذي كان للفلسطيني المرحوم بلال الحسن (1939 – 2024)، فقد توقَّف عن زيارة الرباط وقضاء جزءٍ من عطلة الصيف فيها منذ سنوات، بعد أن استأنسنا بحضوره وابتسامته وصمته وكلامه بيننا كلّ مساء، في تسعينيّات القرن الماضي وبدايات الألفية الثالثة. كنّا مجموعةً قليلةً من الأصدقاء، نسعدُ يومياً بمجالسته وحواره، مُتحدّثاً مبتسماً وصامتاً… مجموعة ذات هواجسَ وهمومٍ وأسئلةٍ مشتركةٍ، والجامعُ الأكبرُ في كلّ ما ذكرتُ يتعلّق بالأوضاع العربية وتحوّلاتها، ويتعلّق بمسارات القضية الفلسطينية، والمشروع الوطني الفلسطيني، إضافةً إلى العديد من الأسئلة المُرتبطة بالثقافة والتاريخ والتغيير والإصلاح. أمّا الصورة التي ترسَّخت في ذهني عن نمط حضوره معنا، فتتمثّل في صمته وابتسامته، وكذا جُمله القليلة عندما يتحدّث.
كان أغلب المشاركين في جلساتنا المسائية الحرّة يعرفونه، ويعرفون الأدوار التي لعبتها أُسرتُه في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية، داخل منظّمة التحرير الفلسطينية، وفي أجهزتها، كما كانوا يعرفون أدوار خالد الحسن، وهاني الحسن، وعلي الحسن، وانخراطهم جميعاً منذ بداية العمل الوطني من أجل التحرير، في الصورة التي تبلوَر وتطوَّر بها في ستينيّات القرن الماضي وسبعينياته، وكثيرٌ منهم يعرف الأدوار التي قام بها المرحوم وهو ينخرط في كثير من الجهد في تطوير وتأسيس منابرِ إعلامية كثيرة. يعرفون بداياته في “المُحرِّر” مع غسّان كنفاني، ثمّ في “الحرّية” مع القوميين العرب، كما يعرفون الدور الذي لعبه مع المرحوم طلال سلمان (1938 – 2023)، وهما يُؤسّسان صحيفة السفير سنة 1974. يعرفون أيضاً، مجلة اليوم السابع التي كانت تصدر من باريس، وكان مُديراً لها.
يجلس بلال الحسن بيننا مبتسماً أو حزيناً، صامتاً أو متكلّماً، ينتقد ثقافة الاستسلام، يدعو بجرأةٍ وقوّةٍ إلى عدم التفريط في الحقوق الفلسطينية كاملةً. سَلِيلُ الحركة الوطنية يخاف من ثقافة الاستسلام، ولهذا كنّا نحدّثه عن مخاوفنا الجديدة، وعندما غاب عن مجلسنا منذ سنوات، كنّا نَحِنُّ إلى صمته، ونتطلَّع إلى إمكانية لقائه، خاصّة عند عودة المقاومة الفلسطينية، وعودة شعار التحرير، شعار المشروع الوطني الفلسطيني. غيَّبه المرضُ ومنعه من زيارتنا ومُجالستنا، ومنعنا من الاستماع إليه صامتاً ومبتسماً.
أتصوَّر أنّ بلال الحسن الإعلامي كان سعيداً بـ”اليوم السابع”، فقد استطاع، بحسّه السياسي والثقافي، أن يُحقّق منجزاً مُهمّاً في دائرة الإعلام الثقافي العربي. بدأت المجلة في الصدور سنة 1983 وتوقَّفت سنة 1991، وفي رحلتها القصيرة، بلورت خياراتٍ ومواقف، وانخرط في تحرير أبوابها ومقالاتها طلائع المُثقَّفين العرب. وقد راهنت على إيجاد صلاتٍ من الوصل داخل دائرة المحيط العربي، صلات من الوصل بين المشرق والمغرب العربيَين، كما تميَّزت بشكلها وإخراجها، والنوافذ التي كانت توفّرها صفحاتُها للمساهمة في بناء ثقافةٍ عربيةٍ جديدةٍ. أذكر أنّه عندما كان بعضنا يُحدّثه عن بعض مزايا “اليوم السابع” وأدوارها في حقل الإعلام الثقافي، وفي الثقافة العربية المعاصرة، يشعر بقليل من الراحة، تعكسه تعبيرات وجهه بكثير من الخجل، خجل الكبار عندما يعملون، مواقف الإعلامي الذي لا يميّز، بطريقة سطحية، بين الثقافي والإعلامي وأسئلة التاريخ في مجتمعات مهزومة لم تستكمل تحرّرها وتحريرها بعد.
تمنَّيتُ، منذ توقّفه عن زيارة الرباط، أن أراه وأجالسه، كم تمنَّيتُ أن يكون حاضراً ومُتحدّثاً طوال أشهر العدوان الصهيوني المتواصل على فلسطين! كنّا نريد صوتَه، وأن يواصل نقدَه ثقافة الاستسلام. وإذا كان قد شخَّص في كتابه “ثقافة الاستسلام”(دار رياض الريّس للكتب والنشر، بيروت، 2005) مجمل مواقفه من خيارات السلام، ومن الخداع الإسرائيلي، موضّحاً خطورتهما على مشروع التحرير وعودة اللاجئين، وكذا مشروع الإبادة المتواصلة اليوم، والمُعلَنة من الكيان الصهيوني، وبدعمٍ مكشوفٍ من الغرب الإمبريالي، والتابعين له في المحيط العربي، في زمن لم تعد فيه القضية الفلسطينية قضيةً عربيةً. توقَف عن الكتابة، ودفعه المرضُ إلى العزلة القهرية، لكنّه ظلَّ بيننا مبتسماً ومتفائلاً تفاؤل الوطنيين وقت الشدَّة، وقت ترقُّب عودة المقاومة.
عندما نتأمّل المسارَ الحافلَ والصانعَ لبعض المهام والأدوار التي أنجزَ في مجال الإعلام العربي الملتزم والمسؤول، ونتأمّل مواقفَه السياسية، ندرك أنّه كان مُنخرطاً في السياقات التاريخية المؤطِّرة لحياته، فقد نشأ في قلب أسئلة المشروع الوطني الفلسطيني، في منظّمة التحرير أولاً، ثمّ في حركة القوميين العرب والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. ووسط هذه المؤسسّات، بما كانت تعبّر عنه كلّه من طموحاتٍ، وما تحمله من شعاراتٍ، نجد أنّه انخرط في العمل الصحافي، وركّب المواقفَ المرتبطةَ بخياراته السياسية بكثير من الاعتدال، الذي لا يقبل أبداً التفريط في المبادئ الكًبرى للحقّ التاريخي الفلسطيني في الأرض وفي التحرير. تعلّم هذا واستوعبَ أخلاقه السياسية مُبكّراً، ويعرفه الذين تابعوا مساراته الصحافية والسياسية. وعندما كانت تواجهه مُتغيّرات الوضعَين الفلسطيني والعربي، كان يتوقَّف عن الكتابة والكلام، لأنّه كان يؤمن أنّ ثقافة الاستسلام لن يكون بإمكانها أنّ تُعطِّل إرادةَ المقاومة، إرادة استعادة الحقّ الفلسطيني اليوم أو غداً. ويجب ألا نُغفل الإشارة هنا، ونحن نتحدث عن السياقات المواكبة لمساره، أنّ الرجل ظلّ طيلة عمره متنقّلاً بين دمشق وبيروت وعمّان، ثمّ تونس وباريس، ثمّ الرباط، ولم يكن انتقاله بين الحواضر التي ذكرنا مقروناً باختياره، بل كان نتيجةً للتحوّلات التي يعرفها المسار العام للقضية الفلسطينية.
نتذكر اليوم، ونحن نسمع خبر رحيل بلال الحسن، مقالاته في مجلَّة الحرّية، كما نتذكّر نوعيةَ الحضور الإعلامي الذي رسمته “السفير” في تاريخ الإعلامَين اللبناني والعربي، كما نتذكّر مقالاته في صحيفتَي الحياة والشرق الأوسط، إلّا أنّ إشعاعه الأكبر رسمت ملامحَه الكُبرى جهودُه وجهودُ جوزيف سماحة، مع فريق العمل في أسبوعية اليوم السابع، بكلّ ما كانت تُقدّمه من موادَّ متنوعةٍ، وبمختلف الأسئلة والقضايا التي كانت تتناولها أقلام مجموعة من الباحثين والإعلاميين من مختلف البلدان العربية. وهنا، لا بدّ من تذكّر مقالات هشام جعيط وأنور عبد المالك وطارق البشري وغيرهم، وتذكّر حوار “مشرق/ مغرب” الذي رتّب أعماله فيصل جلّول، وأنتج الحوار الشهير بين محمّد عابد الجابري وحسن حنفي، إذ أثمر هذا الحوار مُصنَّفاً مُهمَّاً بأسئلته وخلاصاته، وبمختلف الأسئلة التي ما زال يثيرها في الثقافة العربية.
المصدر: العربي الجديد
الله يرحم المناضل الفلسطيني بلال الحسن الكاتب والسياسي ، قراءة بمسيرة نضاله منذ نشاطه مع حركة القوميين العرب الى وفاته (1939 – 2024)