عدم الاستقرار السياسي يتعمّق في تونس

سارة فوير

في 15 تموز/يوليو، استقال رئيس الوزراء التونسي إلياس الفخفاخ بعد مرور أقل من شهر على تورطه في قضية تضارب في المصالح تتعلق بأنشطته في مجال الأعمال. وفي وقت سابق، بدا عازماً على البقاء في السلطة، حيث أعلن في 13 تموز/يوليو عن نيته إجراء تعديلات في حكومته وتلقى على ما يبدو دعم الرئيس قيس سعيد للقيام بذلك. ولكن عندما صوّت 105 نوّاب على حجب الثقة عنه، وهو عدد التواقيع الضرورية لذلك في مجلس النواب، لم يكن أمام الفخفاخ خيار سوى تقديم استقالته. وفي خطوة انتقامية لتراجع دعم الحزب الإسلامي البارز، حركة “النهضة”، له، أقال الوزراء الستة من ذلك الحزب أيضاً.

أمام الرئيس سعيد الآن شهراً واحداً لتكليف رئيس وزراء جديد بتشكيل حكومة، وبعد ذلك ستكون هناك أربعة أشهر أمام خلف الفخفاخ للحصول على موافقة مجلس النواب على تشكيل حكومة جديدة لتجنيب البلاد انتخابات جديدة. وفي غضون ذلك، سيترأس الفخفاخ حكومة تصريف أعمال في وقت تواجه فيه تونس تحديات اقتصادية واجتماعية وأمنية خطيرة.

جذور الأزمة الحالية

لم يتجاوز عمر حكومة الفخفاخ الخمسة أشهر، بعد أن أدتّ اليمين الدستورية في 27 شباط/فبراير في أعقاب أزمة سياسية طويلة. وأسفرت انتخابات تشرين الأول/أكتوبر عن قيام مجلس تشريعي منقسم جداً، مع عدم حصول أي حزب أكثر من 20 في المائة من الأصوات. وفازت حركة “النهضة” بأكبر عدد من المقاعد (52 من أصل 217)، وأعقبها منافسها الرئيسي حزب “قلب تونس” الشعبوي الذي فاز بـ 38 مقعداً. ولم يكن مفاجئاً فشل جهود تشكيل حكومة لعدة أشهر. وفي النهاية، تشكلت حكومة الفخفاخ – وهو وزير سياحة ومالية سابق من حزب علماني صغير لم يفز بأي مقاعد – الذي ترأس تحالفاً غير متوقع بين 6 وزراء من حركة “النهضة” وتسعة وزراء من مجموعة من الأحزاب العلمانية ذات اتجاهات سياسية مختلفة، وسبعة عشر وزراء مستقلين.

وبعد أربعة أيام من أداء هذه الحكومة الجديدة اليمين الدستورية، أكّدت تونس تسجيل أول إصابة بفيروس “كوفيد-19″، وسرعان ما أصبح الوباء أكثر أهمية من معظم الأولويات التشريعية الأخرى. وساهم الحجر الصحي الذي فُرض في جميع أنحاء البلاد في 20 آذار/مارس في السيطرة على عدد الإصابات – وبحلول الوقت الذي تم فيه رفع الإغلاق الكامل في 8 حزيران/يونيو، وصلت الحالات المؤكدة إلى 1،087 مع 49 حالة وفاة (من بين عدد سكان البلاد البالغ عددهم 11 مليون نسمة).

ولكن لطالما كانت أسس تحالف الفخفاخ متزعزعة نظراً للخلافات السياسية العميقة بين أعضائه، ولا سيما في القضايا الاقتصادية. وتوقع المراقبون أن تتجنب الحكومة الجديدة إجراء إصلاحات اقتصادية رئيسية وتركز على المجال الوحيد في السياسة الذي يحظى بتوافق الآراء، وهو: مكافحة الفساد. لذلك، فمن المفارقات أن فضيحة فساد هي التي أدّت إلى إثارة تفكك الحكومة.

وفي 23 حزيران/يونيو، قدّم عضو مستقل في البرلمان وثائق تثبت أن الفخفاخ كان يمتلك أسهماً في العديد من الشركات التي مُنحت عقوداً حكومية، من بينها شركتان تم التوقيع معهما على مثل هذا العقود بعد أن عُيّن الفخفاخ رئيساً للوزراء ولكن قبل أن يؤدي اليمين الدستورية. ويحظر القانون التونسي مثل هذا التضارب في المصالح، وأثارت القضية انتقادات شديدة من قبل أعضاء مجلس النواب ومنظمات الرقابة المحلية – على الرغم من تعهد الفخفاخ بأنه سيتخلى عن أسهمه ويتنحى عن منصبه إذا وَجَد التحقيق أدلة على ارتكاب مخالفات.

وسرعان ما تحوّلت الأنظار إلى رد حركة “النهضة”. فعلى الرغم من استياء الحزب من عدد الحقائب الوزارية التي حصل عليها، ومن العلاقات المتوترة بين الفخفاخ وزعيمها راشد الغنوشي وفقاً لبعض التقارير، إلا أنه امتنع في البداية عن الانضمام إلى الأصوات المنادية بالتصويت على حجب الثقة. وقد تراجع التأييد الشعبي الذي تحظى به الحركة بسبب انتشار التيار الشعبوي في تونس، وازدياد المعارضة في مجلس النواب لسياساتها. وينبع جزء من هذه المعارضة من وجود مشرّعين جدد مناهضين للإسلاميين بقوة، بمن فيهم شخصيات من الحزب الحاكم التابع للنظام السابق الذين استغلوا الاستياء من أداء حركة “النهضة” في الحكومة منذ عام 2011.

فضلاً عن ذلك، أدّى انتخاب الغنوشي رئيساً لمجلس النواب إلى تعزيز المخاوف من إخفاء حزبه طموحات أكبر تتمثل بالهيمنة على النظام السياسي وبدعم أجندة إسلامية. وقد أساء الغنوشي إلى صورته حين تلقى – هو وليس الرئيس سعيد – في نيسان/أبريل مكالمة هاتفية من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي يُعتبر على نطاق واسع من أكبر المؤيدين للإسلام السياسي في المنطقة. وفي السياق نفسه، فإن معارضة “النهضة” لمشروع قانون يدين التدخل التركي في ليبيا المجاورة تضع الحزب في خلاف مع بعض شركائه في التحالف.

وهكذا، في الوقت الذي اندلعت فيه فضيحة الفخفاخ إلى العلن، كانت حركة “النهضة” أساساً في مهب رياح سياسية عاتية، واعتقدت على الأرجح أن سحب دعمها لرئيس الوزراء قد يساعدها على زيادة أرصدتها المناهضة للفساد وكسبها قدراً من الاستياء السياسي. ومع ذلك، يواجه الغنوشي نفسه حالياً دعوات للتنحي بناء على اتهامات بأنه تجاوز صلاحياته وتدخل بشكل غير قانوني في قضايا السياسة الخارجية؛ وكانت عريضة في مجلس النواب لسحب الثقة عنه قد حصلت على توقيعات كافية لإجراء التصويت. ومع إقالة وزراء حركة “النهضة” من الحكومة، يتوجه الحزب إلى الأشهر المقبلة من المفاوضات في موقف ضعيف ظاهرياً.

التحديات المستقبلية – وأين يمكن أن تساعد واشنطن

مهما كانت نتيجة المفاوضات، فمن الممكن أن يؤدي التقلب الحالي إلى تقويض قدرة تونس على التعامل مع المشاكل الملحة الأخرى. فقد ثبت تسجيل 300 إصابة إضافية بفيروس “كوفيد-19” منذ أن أعادت البلاد فتح حدودها في 27 حزيران/يونيو، لذلك لا يمكنها تحمّل حوكمة غير مترابطة وسط موجة ثانية محتملة [من الفيروسات التاجية الجديدة].

بالإضافة إلى ذلك، من المرجح أن يرفع الوباء معدل البطالة من نسبة 15 في المائة قبل فيروس كورونا إلى أكثر من 20 في المائة، في حين من المتوقع أن ينكمش الاقتصاد بنحو 7 في المائة هذا العام. وكانت حكومة الفخفاخ قد خصصت حزمة مساعدات عامة بقيمة 876 مليون دولار للتخفيف من الأضرار، كما أن “البنك الدولي” و”صندوق النقد الدولي” و”الاتحاد الأوروبي” قد منحوا مجتمعة مبلغاً بقيمة 1.4 مليار دولار إلى تونس بعد تفشي الوباء. غير أن الآثار الاقتصادية للإغلاق الكامل أججت الاستياء الشعبي، وازداد عدد الاحتجاجات بنسبة 80 في المائة بين أيار/مايو وحزيران/يونيو.

وفي غضون ذلك ، استقطب النزاع في ليبيا قوات تركية وروسية وإماراتية ومصرية، بالإضافة إلى آلاف المرتزقة، مما زاد بشكل كبير من خطر امتداد القتال إلى الأراضي التونسية. وتتواجد حالياً جميع البعثات الأجنبية تقريباً إلى ليبيا في العاصمة تونس، لذلك يمكن أن يؤدي عدم الاستقرار هناك إلى تقويض الجهود الدبلوماسية لحل النزاع المستشري في البلد المجاور أيضاً.

ونظراً لهذه المخاطر، يتعين على واشنطن ألا تغض الطرف عن الصعوبات المتزايدة التي تتخبط بها حليفتها – خاصة وأن بكين ترسل مساعدة جديرة بالملاحظة تتعلق بـ “كوفيد-19” إلى تونس (على سبيل المثال، طائرات بدون طيار مجهزة بأجهزة استشعار درجة الحرارة)، مما قد يسهل وجود صيني أكبر في شمال أفريقيا في المستقبل. وبغية التصدي لهذا التأثير ومساعدة تونس على الخروج من العاصفة الحالية سالمة، على إدارة ترامب والكونغرس الأمريكي التواصل بهدوء مع الجهات الفاعلة الرئيسية في مجلس النواب التونسي وتذكيرها بمدى الضرورة الملحة للتوصل إلى تسوية سياسية على وجه السرعة. يجب على الكونغرس الأمريكي أيضاً زيادة (أو على الأقل الحفاظ على) المستوى الحالي للمساعدة الأمريكية، وإعادة توازن هذا المستوى لإعطاء الأولوية للمساعدة الاقتصادية. وأخيراً، يتعين على الإدارة الأمريكية أن تحض “صندوق النقد الدولي” على النظر في تخصيص دفعات طارئة أخرى قصيرة الأمد لتونس. وإلّا، قد تجد واشنطن بعد أن تنتهي من جولتها الانتخابية الخاصة في تشرين الثاني/نوفمبر، أن الديمقراطية العربية الشاملة الوحيدة في العالم لم تعد متماسكة وفاعلة.

سارة فوير هي زميلة مشاركة في معهد واشنطن.

 

المصدر: معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى