توالى على المغرب، منذ تاريخ اغتيال عمر بنجلون في 18 ديسمبر/ كانون الأول 1975، جيلٌ كاملٌ من العاملين، وغير العاملين، في مختلف مجالات الحياة، لم تعد لهم فيما يبدو، في مدى أربعين سنة فقط، أيُّ رابطة ما (نفسية، عاطفية، أخلاقية، سياسية…) تُؤلّف بينهم، ولو في مستوى التذكّر، وبين مرحلة مُلتهبة تميّزت بالاستبداد والتخلّف والتبعية الاقتصادية، وسواها من الأوضاع والتوجّهات التي طبعت الحياة السياسية، وكانت عنواناً للممارسات السلطوية المختلفة منذ استقلال 1956 تقريباً. ولم تتبدَّل الأوضاع تدريجياً، في الأقلّ من جهة التأريخ، إلا باعتماد الانتخابات الجماعية في 1976، والتشريعية في 1977، قاعدةً شعبيةً وتشريعيةً لما سيُعرف فيما بعد بـ”المسلسل الديمقراطي”، الذي لم تكن له في الحقيقة أيُّ مشروعية، لأنّه صدر أصلاً من تصوّر أبوي تربوي ذي نزعة دينية مُستحكِمة في التفكير والاعتبار، يُقرُّ بالدّونية في مجال التدبير السياسي والمؤسّساتي، ولا يهدف، من خلال التحكّم المطلق وتطويع الاستبداد لآليات العمل الشرعي، إلا إلى ضمان الاستقرار المطلوب بعد قلاقل الانقلابَين الفاشلَين (1970 – 1971).
ويمكن اعتبار اغتيال عمر بنجلون، أحد أكثر النشطاء التقدّميين الداعمين للقضية الفلسطينية أهمّيةً، نهايةَ ذلك الحلم الوطني الذي راهن على الإصلاح في وجه الملكية المطلقة، وقواها الاجتماعية المحافظة، وعلى التقدّم الاقتصادي بديلاً من مختلف التبعيات التي فرضها النظام الرأسمالي على ظروف العمل والإنتاج والمبادلات، ونقطة ارتكازِ كثيرٍ من التحوّلات الفكرية التي أصابت العقائدَ الأيديولوجية، ونظرية الثورة نفسها، في مجتمع متخلّف، فصار من التبرير السياسي والأيديولوجي لواقع الصراع في المجتمع أن تعمل مُختلف القوى على هَدْي تصوّرات براغماتية (نفعية) أسقطت بها مختلف الشعارات التي كانت من قبل، بفضل روافدها التنظيمية والتعبوية، أسلوب نضالها العام من أجل الإصلاح أو التغيير. وبذلك أيضاً، صار من المُؤكَّد أنّ القمعَ المباشرَ (بما يعنيه أيضاً من تصفية أو اغتيال أو سجن أو نفي، أو تفكيك للبنى التنظيمية كذلك)، الذي تبلور في سياق الاستبداد، قد أفلح في ترسيم الأمن العام أو تزكيته، وأفسد ودَسَّى، في المقابل، مطامح التغيير والثورة بصفة نهائية تقريباً.
ما يُراد بهذا، القول إنّنا في المغرب أصبحنا، منذ منتصف السبعينيّات من القرن الماضي، أمام مُتَغَيّرٍ جديدٍ (باراديغم) سيصبح، فيما بعد، أساساً عاماً لمختلف الممارسات السياسية، وغير السياسية، في ما يسمّيه كاتب هذه السطور “المجال الشرعي”، الذي جعلت منه ستّة دساتير ممنوحة في مدى زمني يقارب نصف قرن (1962 – 2011)، مناطَ التوافقات الخاصّة (الملكية “الدستورية”، السوق “التبعية”، الصحراء “المغربية”، الدين “إسلام المذهب المالكي”…)، التي استقرّت عليها السياساتُ والتوجّهاتُ المختلفةُ، رسمية وحزبية ومدنية، وشعبية كذلك. أما ما تفاعل في هذا النطاق من أوضاع وتحوّلات، ومؤامرات كذلك، فكان في اتجاهه العام في تعارض مطلق مع المرحلة التي سبقت 1975، أي في تعارض أيضاً مع “الحلم الوطني”، الذي واجه في المرحلة الاستقلالية، منذ حالة الاستثناء في 1965، وربّما قبل ذلك، عثراتٍ أطاحته، ثمّ قوّضته ودجَّنَت قِواه، بصورة تبدو الآن تامّة ونهائية. وفي هذا الإطار يعتقد كاتب هذه السطور أنّ عمر بنجلون، القتيل أو الشهيد، عندما تكلَّم على القضية الفلسطينية، في تلك المرحلة المضطربة من مراحل سنة 1972، أي قبل اغتياله بثلاث سنوات، وسنة فقط على تعذيبه وسجنه على إثر أحداث الكفاح المسلّح التي تفجّرت في الأطلس في 1973، وبعض شهور معدودات بعد المؤتمر الاستثنائي، الذي غيّر مسار الحزب المُنشقّ عن الاتحاد الوطني للقوّات الشعبية مُعلناً “الاشتراكية العلمية” منهجاً يُحْتَذى في النضال والبناء، فكأنَّما كان يتكلَّم على نهاية مرحلة وبداية أخرى. لأنّ اغتياله، من الناحية الرمزية والتقدير التاريخي، كان اغتيالاً للفكر الذي جعل من القضية الفلسطينية قضيةً مركزيةً في مصافّ القضايا الوطنية، التي تستوجب النضال والتضامن والمقاومة، مثلما جعل من التحرير الوطني، من خلال مواجهة الطبقة الحاكمة، وهو التعبير الذي يصف نظام الحكم السائد، في مجمل الاختيارات التي رسمتها وحدَّدت أهدافها للتطور السياسي والاجتماعي والاقتصادي في البلاد. فالتغيير، من هذا المنظور، كان مطلباً وطنياً شمولياً مسطوراً ومُقرَّراً قبل نهاية الحرب العالمية الثانية، والعمل الإصلاحي في تعالق معه، وقد بُني على مفهوم التدرج، جعل “الاختيار الديمقراطي” أسلوبه وطريقه، غير أنّ قِواه وحَمَلةَ وَعْيِه، بما في ذلك قوى الوعي الثوري وحملته، الذي كان توجّهه انقلابياً أو جذرياً، لم يكونوا على دراية، أو دون الوعي المطلوب، بالمخطَّطات التي جعلت الاستقلال (رغم أنّ بعضهم نعته بالشكلي) مَطِيَّةً للمطامح والأطماع الجديدة، التي تقرَّرت بصورة فعلية في إطار ما سمّي منذ تلك الفترة بـ”الاستعمار الجديد”، ثمّ كانت تجلّياته في مختلف المجالات والقطاعات، من خلال برامج وتصاميم اقتصادية ظرفية، دعامةً لترسيخ المنظور الجديد للسوق في إطار الرأسمالية التبعية الاستغلالية. وقد ترافق هذا مع إبطال العمل بالدستور الممنوح، وهو الذي كان من المفروض، في 1962، أن يضع الأسس المقبولة لقيام ديمقراطية معينة، “تضبط” الصراع المجتمعي والسياسي بين الفرقاء الساعين للسيطرة على مقاليد الأمور، في الدولة وفي المجتمع على السواء، في ضوء الحسابات التي تصوّروها للانتصار، قبل الهزيمة التي ألحقتها بهم جميعاً ملكيةٌ طموحةٌ لا تقبل إطلاقاً غير الحلفاء الموالين أنصاراً خاضعين.
هذا هو الإطار العام، وهو المسمّى “النطاق الأيديولوجي” أيضاً، الذي يُبرِزُ بجلاءٍ الطرحَ الذي بلوره عمر بنجلون، بعد ذلك بأقلّ من سبع سنوات، حين جعل القضية الفلسطينية سياقاً له، والموقف من التحرير عنواناً بارزاً لعرض موقفه منها. أقصد أنّه زاد على ذلك بأن رأى أنّ الارتباط بين الصراع القائم على الصعيد الوطني يمكن أن يُرَى أيضاً من زاوية تفاعله مع الحرب التحريرية التي يخوضها الشعب الفلسطيني. وتحليلي هنا أنّ المشكلة الجوهرية، القائمة في التصوُّر، كانت تعني أنّ الحرب التحريرية في ما يخص الشعب الفلسطيني ما زالت متواصلة، في حين أن النضال الوطني المغربي لم يعد له المعنى المُقاوِم نفسه في مواجهة النظام السياسي القائم، بل من واضح الدلالة أن نقول إنّه تهاوى في مدى قرابة أربعة عقود، بفضل كثير من المتغيّرات، وبأشكالٍ موازيةٍ من القهر والتفتيت والريع، التي فعلت جميعاً، بدرجات متفاوتة، في مختلف البنيات سياسية واقتصادية، وفي المستوى الأيديولوجي، وفي الذهنيات كذلك، فتغيّر كلّ شيء في ضوء التناول البراغماتي، الذي ألهى النُّخَب الوطنية – الديمقراطية، ودجَّن الفئات الاجتماعية التي كانت تُناصرها.
فيكون في المعادلة أنّ المراهنة على الصراع، بمختلف أشكال النضال العاملة في سبيل التغيير، يجب أن تتعلَّق بالنموذج التحريري من باب تعلق المُنَاصِر المغربي بالسنَد الفلسطيني، لأنّ الجامع الذي يمكن أن يجمع بين الطموح التحريري والنضال الديمقراطي الوطني مترابط في أهدافه لا في أسلوبه، قائم في اختياراتٍ مُتقاربةٍ بين منظّمة التحرير الفلسطينية وحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية (قبل وبعد أن أصبح يُسمَّى بالاتحاد الاشتراكي).
سيُحَمِّل عمرُ بنجلون المثقَّفَ المغربي دوراً تعبوياً حين ألزَمَهُ، وكان هو الأسلوب المُتَّبَع في السياق النضالي لتلك المرحلة بديلاً من أساليب تكتيكية للتوعية والتجنيد، بالعمل على إبراز نظرة واضحة وشاملة نحو القضية الفلسطينية، قضيةَ تحرير ونضال ضدّ الصهيونية (بوصف الأخيرة) جهازاً تابعاً وموازياً للإمبريالية، ثمّ ألحق بذلك الحَدّ الآخر في المعادل النضالية، أي “المساهمة من طرف شعبنا، المساهمة الملموسة والعملية، في تعارض مع سلبية الحاكمين ببلادنا ومبادراتهم المناهضة لمصلحة الثورة الفلسطينية، ووجود شبكة صهيونية قوية الجذور والموارد ببلادنا”، لأنّ الموقف “بالنسبة للقضية الفلسطينية، فكرياً وعملياً، لا ينفصل بالنسبة لقضايا التحرير، عن الكفاح ضد الوجود الإمبريالي وعملائه بصفة عامة، وذلك ابتداء من مشكلة تحرير المغرب نفسه”.
نذكّر هنا، بسرعة وباختصار، أنّ هذا هو التوجّه العام الذي سار عليه المهدي بن بركة، نظرياً وعملياً قبل اغتياله في باريس في 1965، منذ سَجَّل على نفسه، وعلى الحزب الذي كان من قُوَّاده، تلك الأخطاء الثلاثة القاتلة: القبول بالاستقلال الشكلي الناتج عن اتفاقية إيكس ليبان (ضرورة استمرار الكفاح وتوسيعه مغاربياً)، والقبول بالتسوية السياسية (في الصراعات الرهيبة التي خيضت في الفترة الاستقلالية، واعتُبِرت بمثابة توقّف مرحلي في مسيرتنا الثورية)، وأخيراً عدم تبيان واضح، من طرف القوة الثورية الجديدة، لمعالم المجتمع الجديد الذي نسعى إلى بنائه، أي ما كان يعني، في وقته، كما يقول: “استبداد القوى الرجعية بكلّ شيء”.
المصدر: العربي الجديد