د.مصطفى حجازي من أهم علماء النفس العرب، له إنتاج كثير في موضوع علم النفس الاجتماعي، بدءا من كتابه التخلف الاجتماعي سيكولوجية الإنسان المقهور، وصولا الى كتابه المكمل؛ الانسان المهدور، الى إطلاق طاقات الحياة الذي كتبنا عنه.. الخ، يرصد حجازي الحالة النفسية الفردية والاجتماعية للانسان العربي، لقد غطى حجازي بانتاجه مجالا مهما في علم النفس الاجتماعي العربي.
اولا: لماذا كتب هذا الكتاب ؟.
يبرر د. حجازي كتابة هذا الكتاب، لانه يرى ان اغلب من اهتم بالدراسة النفسية العربية، كان يأخذ بالمناهج الأوروبية، التي تتعاطى مع الحالة النفسية للإنسان الأوربي من خلفية نظرتها اليه فرديا، و ضمن منظومتها الفكرية الليبرالية، وواقعه كإنسان يعمل لبناء حياته منطلقا من فرديته ومصالحه الخاصة. بينما يختلف واقع الإنسان العربي، الذي ينطلق من كونه جزء من بنية اجتماعية ودينية وعصبية تؤثر عليه وتطبع شخصيته بحيث يكون ابن مؤثرات كبرى ثلاثية: العصبيات بانواعها، والاصوليات بأنواعها، والاستبداد المجتمعي او السياسي بانواعه، وانه دون دراسة هذه المؤثرات على الإنسان العربي والجماعة التي ينتمي لها، لن نستطيع معرفة واقع هذا الإنسان علميا، وإدراك مشاكله وحلولها.
الكتاب محاولة للجواب عن هذه التساؤلات .
ثانيا: اللاوعي الثقافي الجمعي وتجذر الاستبداد.
يتحدث د. حجازي عن البعد النفسي عند الإنسان العربي، سواء بوعيه المباشر المعاش أو لا وعيه الذي يكمل التعريف بشخصية الإنسان ويقف خلف سلوكياته ويفسرها، حيث يتجاوز مقولة اللاوعي الفردي على طريقة متابعة الإنسان الغربي، ابن شروطه الاجتماعية ، فرص عمله، وعلاقاته، ووعيه الحقوقي، وظروفه الخاصة والعامة. اما انساننا العربي فإن لاوعيه ليس فرديا، بل هو جزء من لا وعي ثقافي جمعي، نتاج تراكم ما انزرع في ذاته وعبر الأجيال من مواقف وخلفيات وسلوكيات، هذا اللاوعي الجمعي الذي، يلغي ذاتية الفرد وتلحقه بحقله الاجتماعي، فهو ابن بلد معين، و دين وطائفة و قبيلة او عشيرة، يتمايز بها عن الآخرين، ويعيش ولاء لها، يصل الى درجة امحاء الهوية الشخصية بأحد هذه الولاءات او أغلبها. إن هذه الهويات التي ينتمي اليها الانسان العربي، هي التي تعطيه اعتباره، وهي قد تكون مصدر فخر او تسلط او مظلومية، حسب واقع الدولة والمجتمع الذي يتواجد به هذا الإنسان، فمثلا في الدولة الاستبدادية يكون الانتماء الطائفي او الديني او العشائري او المناطقي لأي إنسان، بمثابة وضع يقوي حضوره وامكانياته ان كان قريبا من السلطة أو من عصبيتها السياسية او الطائفية، او ضحية لها بسبب ولائه الديني او السياسي او المناطقي. إن الانتماء الديني او الطائفي في لبنان مثلا، يجعل كل احد يصطف مع طائفته او جماعته الدينية، دون النظر الى حقيقة هذا الولاء الذي صنعته ظروف حرب اهلية مدعومة من أطراف خارجية لها مصلحة بها، و تؤبد سطوة حالة من التقاسم السياسي والاجتماعي بلبنان، على قاعدة توافقات اتفاق الطائف وما بعدها، متجاوزين الدستور اللبناني و متقاسمين كإقطاعيات سياسية مجتمعية، السلطة والمصالح في لبنان، والمواطن اللبناني يصطف اعتباطا الى جوار ابن طائفته او منطقته، من دون أن يكون لهذا الاصطفاف أي جدوى او فائدة حقوقية، ولكونه فقط جزء من عصبته الدينية او الطائفية او المناطقية. هكذا امتلأ الوجدان واللاوعي الجمعي عند اغلب اصحاب الطوائف والأديان والعصبيات، بما يجعلهم يتمثلون هذه النحن، لكن دون ان تكون ذات فائدة لهم بل قد تكون محرقة لهم كما حصل في الحرب الاهلية اللبنانية، التي استفاد منها كل القوى اللبنانية الفاعلة، وأضرّت بالشعب اللبناني، وانعكست اخيرا بميثاق المحاصصة في الطائف الذي ابّد تقاسم السلطة في طبقة سياسية، و متجاوزا للدستور، وبقي الشعب اللبناني ضائع بين ولاءات لا تنفعه وتجعله ضحية كل الوقت.
ثالثا: العصبيات الاصولية والطائفية.
يتعمق د. حجازي في مفهوم العصبية مستعيدا المفهوم من ابن خلدون الذي طرحه مفسرا نمط الترابط الاجتماعي في المجتمع ما قبل الحديث، الذي لا يزال حاضرا بقوة وعمق عند اغلب الشعب العربي، ويحدد تنوعها، من عصبية عشائرية او قبلية الى عصبية طائفية او دينية، الى عصبية سياسية، وان كانت لأهل الحكم فهي عصبية الاستبداد السياسي، لفئة الحكم ومن والاه ومن تماهى معه.
وفصل د. حجازي في تعريف العصبية الاصولية، التي تنطلق من رؤية مغلقة تمامية دينية، الى الكون والحياة والمجتمع، معتقدة انها تقدم الجواب النهائي الصحيح لكل اسئلة الحياة، رابطة نفسها بيقين مطلق عن صحة ما تطرحه، وناظرة إلى غيرها من العصبيات من موقع التخطيء والتكفير، وقد يصل الى استباحة دم الاخر المختلف، ويجب ان ندرك ان الأصوليات الدينية والطائفية كثيرة ومختلفة و متناحرة، وهي بسلوكها تكون وقودا للحروب الأهليه او الصراعات العابرة للاوطان، كما حصل مع القاعدة و داعش، من الاصولية السنية، او الميليشيات الشيعية كحزب الله وغيره من الاصولية الشيعية. وبكل الاحوال تكون ارتكازات هذه العصبيات الاصولية على اجتهادات وتصورات لا تصل الى درجة اليقين المطلق، فهي تشوه الدعوى الدينية او الطائفية التي تدعي حملها، وتضر بالناس الذين تكسبهم لهذه العصبية، او تجعلهم ضحيتها. وقد يكون لبعض العصبيات تمظهرات استفادت من التطور ووسائل التواصل الإجتماعي والنت والعلم و أدواته، لكن كل ذلك لا يزيد عن استثمار معاصر لعصبية موغلة في التخلف والانغلاق والضرر على أصحابها وعلى بقية الناس المحيطين بهم. فالعصبية الطائفية لحزب استبدادي ما كما في لبنان مثل حزب الله الشيعي، جعلت هذا الحزب مهيمنا على الطائفة ويستخدمها في استحقاقاته السياسة الداخلية اللبنانية، و مصادرا حق الدولة في موضوع الصراع مع العدو الصهيوني، و متدخلا ضد الثورة السورية وداعما لعصبية استبدادية سياسية طائفية سورية، العلوية البعثية، التي هدرت الاوطان وقتلت وشردت الانسان.
رابعا: العصبيات وهدر الاوطان.
يركز د حجازي كل الوقت على العصبيات الطائفية والقبلية والأصولية والاستبداد، معتبرا أنها تتآذر في عملية هدر الانسان والاوطان، وان هذه العصبيات بصفتها لا تتعامل عقليا وموضوعيا وعلميا مع واقع الحياة، فهي غالبا تكون اداة في يد قادة هذه العصبيات لمصالحهم الخاصة، ولو على حساب ارواح الناس من كل العصبيات، او عبر هدر وجودهم واوطانهم، هذا غير الدور الاسوأ الذي تقوم به النظم الاستبدادية التي تهدر الانسان والاوطان. وقد تكلم د . حجازي عن نموذجي ليبيا القذافي ونموذج العراق صدام حسين، وتحدث عن لبنان ايضا، واكد كيف أن النظم الاستبدادية تستخدم العصبيات التي تهيمن عليها، ادوات ضد بقية المجتمع، وتجعل الكل تحت رحمتها قاتلا ومقتولا، تخلق صراعات وترعاها داخلا وخارجا، تهدر امكانيات البلد وتجعل الشعب في مستوى حياة قاسية، كما ليبيا او ضحايا حروب عبثية ومجد كاذب زائف كما العراق. وهكذا نجد ان الاستبداد عندما يهيمن على العصبيات ويسخرها لمصلحته، تضيّع الأوطان والإنسان، وكذلك عندما تهيمن العصبيات وتتصارع، تتحول البلاد إلى صراعات أهلية تفني الجميع وتهدر الأوطان والانسان كما النموذج الليبي واليمني بعد ضرب واغتيال ربيعهم الذي مُنع أن يُثمر حرية وكرامة وعدالة وديمقراطية وحياة افضل.
١. ٦. ٢٠٢٠م
كتاب “العصبيات وآفاتها – هدر الأوطان واستلاب الإنسان” قراءة القسم الأول من الكتاب من تأليف “د.مصطفى حجازي” اقرارة جميلة وتعقيب موضوعي من الكاتب “احمد العربي” الكتاب يرصد فيه الحالة النفسية الفردية والاجتماعية للانسان العربي، وفق العناوين اولا: لماذا كتب هذا الكتاب ؟.ثانيا: اللاوعي الثقافي الجمعي وتجذر الاستبداد.ثالثا: العصبيات الاصولية والطائفية.رابعا: العصبيات وهدر الاوطان.