هربت عائلة فرانك اليهودية من ألمانيا بعد عامين من استيلاء النازيين على السلطة فيها، وتزايد العنف ضد اليهود. الابنتان آن ومارغو فرانك ووالداهن استقرّوا في أمستردام، على أساس أن العاصمة الهولندية سوف تحميهم. عاشوا أربع سنوات هناك بصورة طبيعية. وبعدها، ارتفع نشاط الشرطة السرّية النازية (الغسْتابو) ضد اليهود، فاضطرّت العائلة للاختباء في أحد الملحقات التابع لمكتبة عامة يعمل فيها الأب أوتو، سمّتها آن فرانك “الملحق السرّي”. وكان برفقتهم أربعة يهود آخرون هربوا مثلهم من ألمانيا. ولكنهم اضطروا كلهم للانتقال إلى مخبأ آخر، بعدما احتلت ألمانيا أمستردام، وشعرت العائلة بخطر ترحيلها إلى معسكرات الحرق. فكان المخبأ الثاني مخزناً للمواد الغذائية. يساعدهم مواطنون هولنديون، يمدّونهم بالطعام والحاجيات الأساسية، وينذرونهم بالأخطار اليومية.
في النهاية، اكتشفت “الغسْتابو” مخبأ العائلة، بفضل معلوماتٍ أبلغ عنها جيران هولنديون، وذلك قبل عام من توقف الحرب. فنُقل جميع أفرادها إلى معسكر الحرق، في أوشفيتز، في بولونيا، ثم نقلت الأختان آن ومارغو إلى معسكر برجن – بلسن المخصّص أيضا للحرق. وعشية تحرير هذا المعسكر النازي، توفيت آن فرانك وأختها من وباء التيفوس. وفي الوقت نفسه، ماتت الأم في أوشفيتز، وبقي الأب على قيد الحياة، وقد حرّرته القوات السوفييتية المشارِكة في الحرب ضد النازية. وهو إذن الناجي الوحيد من العائلة.
في بداية المخبأ الهولندي، حيث لجأت العائلة الهارِبة، وبمناسبة بلوغها الثالثة عشرة من عمرها، تلقَّت آن فرانك هدية، هي دفتر “بمربّعات حمراء وبيضاء”، كما تصفه. وقرّرت، منذ تلك اللحظة، أن تحوّله إلى دفتر يومياتها. كتبت في أولى صفحاته، وكأنها توجّه كلماتها إلى الدفتر نفسه: “آمل أن تكون محل ثقة، أن تستقبل كل ما لا أستطيع ان أقوله لغيرك. وآمل أن تواسيني وتدعمني”.
ملأت آن فرانك هذا الدفتر بشؤون العائلة المختبئة وشجونها. بيومياتها، علاقتها بأهلها وصحبهم، وأفكارها ومخاوفها وتجارب السرية والاختباء والإنذارات الكاذبة والصادقة، والخوف في كل لحظة من انكشافها. ومشكلاتها مراهقةً تتوق إلى الحب، إلى مستقبل زاهر، وتطمح بأن تصبح يوماً ما صحافية، أو كاتبة. تكتب عن أمها بكلماتٍ قاسية، تفاجأ هي نفسها بعنفها. فتعدّلها، وتقول إنها تخلصت من البكاء عند كل كلمة تقولها، وإن علاقتها بها تحسّنت: “أصمت عندما أنزعج منها، وهي أيضا تصمت. هكذا يحصل التفاهم بيننا”. تلخّص علاقتها المعقّدة بأمها: “أحتاج لأمي مثالاً بوسعي تقليده (…) ولكن أمي من نوع النماذج التي لا أريد أن أتبعها”.
تعود إلى لحظة وصولهم إلى هولندا هرباً من ألمانيا: “كنّا نمشي كلنا تحت المطر الغزير (…) كل واحد منا يحمل كيساً ممتلئاً بكل أنواع الأشياء التي رميناها فيه كيفما اتفق. كان يمكن أن نقرأ على وجوه المارّة عبارات الشفَقة علينا، وكم هم متأسّفون لأنهم عاجزون عن المبادرة إلى أخذنا معهم، فالنجمة الصفراء المجلْجلة (المعلّقة على صدورنا) تتكلّم بنفسها”.
هكذا، ألّفت آن فرانك كتابها، بعنوان دفترها العزيز “دفتر يوميات آن فرانك”. والدها، أوتو فرانك، الوحيد الذي بقي على قيد الحياة، هو الذي اهتم بجمع أوراق هذا الدفتر بمساعدة صديقة العائلة مياب جيز، وهي أيضاً صاحبة الفضل بإيجاد المخبأ السري وحمايتهم وتزويدهم بالطعام.
بعدما طبع الكتاب، أمضى أوتو فرانك بقية حياته وهو يروّجه، وبحيث تحوّل إلى كتاب – أيقونة عن الهولوكوست. تُرجم إلى عشرات اللغات، وخرج إلى المسرح والسينما ونال جوائز عديدة. تحوّل مخبأ العائلة إلى متحف يروي تفاصيل قصة العائلة. يجاوره نصبٌ تذكاري لضحايا اليهود من الحي، الذين لجأوا إلى هولندا وتمكّن منهم النازيون وأرسلوهم إلى المحرقة، ويتجاوز عددهم الثلاثة عشر ألفا. وفي العام 2009، ارتفع تمثالٌ لآن فرنك في وسطه. وأصبح النصب مزاراً للسياح الراغبين باستعادة التاريخ.
هذا التمثال، منذ أيام، تعرَّض لهجمة رمزية، هي كلمة كُتبت عليه برَذاذ من اللون الأحمر: “غزّة”. وهذه “عملية” ليست خارجة عن سياقها، فبعد مجازر غزّة، وكلما تصاعدت أعداد ضحاياها، كانت النصب التذكارية لضحايا الهولوكست تتعرّض لـ”اعتداء” من هذا القبيل، في أوروبا والولايات المتحدة. موجة من اللاسامية، في تلك البلدان، لا تنفصل عن موجة الإسلاموفوبيا والعربوفوبيا والفلسطينوفوبيا. ومعنى رمزيتها أنها ليست قاتلة للجسد، لا تسيِّل دماء، وحتى “الخراب” الذي تتسبّب به موضعي ويمكن إزالته. ولكنها، بالنسبة لأهلها، تنال من روحهم وذاكرتهم، تسخّفها، تُنْكرها، كأنها تود لو ترميها في النسيان. أي عكس المقصود من قيامها أصلا.
من الذي ارتكب هذه الجريمة الرمزية؟ بالتأكيد ليس اليمين الهولندي المتطرّف الذي اخترق البرلمان الأوروبي بنسَب تاريخية، فهذا اليمين نازي وعنصري، تتساوى كراهيته اليهود مع كراهيته الفلسطينيين والعرب وكل أصناف المهاجرين إلى هولندا.
والتخمين التلقائي أن الذي فعلها هو من “مناصري الفلسطينيين” (برو – فلسطيني)، كما يسمّونهم هناك، أي أنه قام بها انتقاما لضحايا غزّة. ولكن هذا ليس مؤكّدا أيضا، ويقع في باب الترجيح. ولكن المؤكد أنها (الجريمة) ربطت بين اليهود والفلسطينيين، وهي آتية في السياق نفسه لعمليات مشابهة في بقية القارّة الأوروبية، كما سلفت الإشارة أعلاه، حيث كان النيْل من نصب وتماثيل لشخصيات يهودية أوروبية، أو معابد يهودية، أو مبانٍ حيث تطبع نجمة داود على جدرانها… إلخ.
هل كان على المتعاطفين مع القضية الفلسطينية أن يدينوها؟ أولا: لا إشارة واحدة في يوميّات آن فرانك إلى ما يشبه الصهيونية، أو الالتحاق ببقية اليهود المهاجرين إلى فلسطين. كل ما تكشفه عن أحلامها المستقبلية أن تصبح صحافية أو كاتبة عندما تكبُر، وأن تخرج هي وعائلتها من المخبأ إلى الهواء الطلق. عائلة فرانك كلها كانت تعتبر عائلة “مندمجة” في ألمانيا، أي أنها لم تعرف البوغرومات والغيتوات، ولا البروباغندا الصهيونية، ولا فِرَق الهجرة إلى فلسطين. أما والدها، أوتو، فعاش في أمستردام بعد رحيل العائلة، وأنهى حياته في سويسرا. بقي أوروبيا، ولم يبال بالنداءات الصهيونية التي تدعوه للهجرة إلى فلسطين.
… ثم: السجال حول الفرق بين اللاسامية واللاصهيونية: في بداية الحرب على غزّة، انفجرت اللاسامية في أنحاء أوروبا وأميركا. وتعرّض اليهود لأفعال وأقوال تدين اليهود بوصفهم أبناء دين. وهذا لم يُضعف الإسلاموفوبيا، وكل الفوبيات المتعلقة بنا، العربية الفلسطينية، بل أعطاها زخما جديدا. وضاعت في هذه المعْمعة الفروق الجوهرية بين اللاسامية واللاصهيونية، وخيضت نقاشات كثيرة، بلورتها. والمنظمات اليهودية المعادية للصهيونية، المشتركة في تظاهرات ضد الحرب في غزّة، كان لها الدور الأول في إقامة هذا الفرق. وخلاصة فكرتها أن الصهيونية هي الإيمان بأن لليهود الحق بإقامة دولتهم في وطن أسلافهم. أما اللاصهيونية فهي، ببساطة، النقيض التام لهذه الفكرة.
تعرض بعض هذه الجمعيات أشكالاً من العداء للصهيونية: تستوقفها تلك التي تدعو إلى قتل كل اليهود، أو طردهم، أو إرغامهم على العيش مواطنين درجة ثانية تحت حكومة إسلامية. يعطون مثلا عن هذا النوع من العداء: مدرّج مار داغستان، العام قبل الماضي، هجوم الآلاف عليه بعدما سمعوا بخبر نزول طائرة قادمة من إسرائيل ترانزيت. كانوا يركضون غاضبين، يصرخون “الله أكبر!”، وينوون قتل الركاب المسافرين على متن هذه الطائرة.
التعلق بفكرة اللاسامية الرائجة بيننا، ولدواعٍ مفهومة، ولكنها غير صحيحة… هو تعلّق بجوهر أي شعب أو جماعة. بأن شرّها مطلق، عابر للزمان والمكان، للتاريخ والجغرافيا. مثل إنكار الهولوكوست، ومفاده أن اليهود لم يتعذّبوا، لم يضطهدوا، لم يكونوا يوماً ما ضحايا. وبهذا لا يمكن إقامة سلام معهم، صهاينةً كانوا أو غير صهاينة. إنها الحرب الأبدية، “بيننا وبينهم”، منذ بدء الخليقة وحتى القيامة.
أذكر، خلال القصف “الرسمي” العنيف على حلب، منذ عشر سنوات، أن فتاة سورية، بعمر آن فرانك، وبتشجيع من والدتها، كانت تكتب لياليها ونهاراتها المرعبة. لم تخرُج هذه اليوميات إلى النور. وأندم اليوم أنني لم أحفظ اسم هذه البنيّة، وأتساءل كل يوم أين أصبحت هي وأمّها، على أي أرض؟ وأفكّر بأن فتيات غزّيات كان يمكن لهن أن يكتبن يومياتهن لو حصلن على بقعة يجلسن عليها، ينفردن بأنفسهن، يترقّبن لحظات الوحي… ولكن هذا مستحيلٌ في غزّة، حيث يهجر أهلها من خيمةٍ إلى أخرى، والخيم ليست مخبأ. إنها فضاء مفتوح على الموت. هو يخيّم في قلبها.
المصدر: العربي الجديد