عن أوهام الانسحاب الروسي من سورية؟

أحمد مظهر سعدو

لابد من التـأكيد على أهمية الفرق بين الوجود الروسي الاحتلالي في الجغرافيا السورية عن صنوه الإيراني في مسائل عديدة، لعل أهمها أن التدخل الروسي الاحتلالي الذي بدأ منذ أواخر شهر أيلول/ سبتمبر ٢٠١٥ بني على أساسات مصلحية نفعية براغماتية روسية/ بوتينية، تتطلع إلى مناكفة ومواجهة الوجود الأميركي ومقارعته بشكل سياسي وكذلك جيوسياسي، ومن ثم تحقيق الوصول إلى الإطلالة الروسية مجددًا على المياه الدافئة، أي البحر الأبيض المتوسط، وهو حلم طالما ناوش المخيال الروسي الاتحادي الناشئ على أنقاض الانهيار الكبير والمدوي للاتحاد السوفياتي السابق الذي جرى مع مطلع تسعينيات القرن الفائت، ولعل انبثاق البوتينية الجديدة، المتطلعة إلى إنفاذ المصالح الاقتصادية الروسية وسواها، وتحقيق المزيد من النفوذ الذي سبق وخسرته روسيا بعد كل ما حصل إبان  ظاهرة (البيريسترويكا) والانسحابات العسكرية والامتدادية المهمة، لدولة كانت يومًا ما عظمى، تواجه حلف (الناتو) وهي التي كانت على رأس حلف (وارسو) لتجد نفسها مثل ريشة تقاذفها الرياح، يرافق ذلك انهيارات اقتصادية هائلة، واضمحلال كبير للنفوذ الذي كان. فكانت فرصتها الجديدة مع الرئيس بوتين (الصاعد بسرعة البرق) أن تصل إلى سورية كموقع جغرافي استراتيجي، وفق استراتيجيات مصالح روسيا أولًا، وليس من أجل إعادة قيام النظام السوري، الذي وصل به الحال إلى حافة الانهيار، مع بدايات عام 2013 ثم استمرارًا بهذا الانهيار، الذي أصبح قاب قوسين أو أدنى من التلاشي التام، ليتوجه (قاسم سليماني) الذي كان يقود المليشيا الإيرانية في سورية، إلى موسكو حاملاً رسالة طلب النجدة من بشار الأسد حيث توسل فيها القدوم العاجل للقوات الروسية الى دمشق، حرصًا على عدم انهيار النظام السوري، وتحقيقًا للمصالح الروسية، عبر وعود كبيرة لإنجاز مصالح روسية تفيد بشكل مباشر الاقتصاد الروسي المتهالك في حينها، وإعادة بناء هذا التموضع الروسي بالمنطقة، في مواجهة أميركا ومصالحها الممتدة والمتواصلة.

بينما كان الوجود العسكري الإيراني الاحتلالي في سورية الأقدم، وهو الذي سارع إلى الولوج في المسألة السورية، منذ بدايات انطلاق الثورة السورية أواسط شهر آذار/ مارس 2011 ضمن سياسات إيرانية أرادت إنجاز وإنفاذ مشروع فارسي طائفي، بأطماع مباشرة من قبل نظام إيراني، يود الوصول إلى أكبر وأوسع مساحة ممكنة من العالم العربي، ومن ثم تحقيق المصالح الكبرى لمشروعه (الحلم الامبراطوري) الذي أعلن عنه مبكرًا (آية الله الخميني) مع بدء انتصار ثورة الشعوب في جغرافية إيران السياسية، مع نهايات سبعينيات القرن المنصرم.

لقد كانت الفروق جمة وكبيرة بين التواجدين الإيراني والروسي على أرض وجغرافية سورية، فالإيرانيين يمتلكون المشروع الفارسي طويل الأمد بأطماع كبرى لا تنتهي، إلا بتحقيق الإمبراطورية الفارسية/ الحلم، وإعادة بناء صرح إمبراطورية (كسرى أنو شروان) المنهارة على يد العرب والحضارة العربية الإسلامية.

أما الروس  فكانوا يمسكون بمصالحهم التكتيكية والاستراتيجية دون أن يحملوا المشروع الروسي للمنطقة، أو لروسيا الكبرى، وهم في ذلك كانوا دائمًا يعبرون عن أنفسهم بين الفينة والأخرى، عندما يتحدثون لبعض أطراف المعارضة السورية التي يلتقونها، في أنهم ليسوا متمسكين بنظام بشار الأسد، ولا يهمهم كثيرًا بقاءه من عدمه، بل الأهم لديهم هو الاستمرار في إنجاز مصالحهم الكبرى في المنطقة، ويبدو أن هذه المصالح أضحت أكثر إلحاحًا وضرورة، مع بدء الحرب بين الروس والغرب في أوكرانيا، والاستمرار في سياسات الغرب عبر إغراق الروس أكثر وأكثر في الوحل الأوكراني، الذي لا يبدو أن له نهاية في المستقبل القريب.

على هذا الأساس والأرضية يمكن فهم تصريحات (سيرغي ريابكوف) عندما قال ” نحن نعمل على مساعدة الحكومة السورية في الحفاظ على مؤسساتها، لكنها باتت غير متعاونة بالفعل، وهذا ما يثقل كاهل روسيا، ويعزز احتمالية الانسحاب للتركيز في الجبهات الأوربية وخاصة أوكرانيا”.  وأن ” الحكومة في دمشق باتت ضعيفة للغاية بعد حرب دامت لأكثر من ١٣ عامًا ضد (الإرهاب)، وذلك بسبب الفساد المستشري في المؤسسات التي تتحكم بها عدة دول إقليمية مثل إيران”.

هذا التصريح والكثير غيره يؤكد أن الروس يحاولون في ذلك الضغط على نظام بشار الأسد والتهديد بالتخلي عنه دون أن يكون ذلك جديًا أو واقعيًا بل من أجل تحقيق مصالحهم بشكل أوسع وأسرع حينما يجدون هذا التنافس الكبير مع الإيرانيين في سورية، والارتهان الأكبر وبيع السيادة من قبل أجهزة نظام بشار الأسد لصالح دولة إيران/ الملالي، بعد أن تغلغلت أدوات إيران ومخابراتها، بشكل كبير في جميع مفاصل الدولة والحكومة والسلطات في سورية، من عسكرية وأمنية واقتصادية وتغييرات ديمغرافية، وهو ما يفسر صمت الروس وإشاحة النظر عن كل ما يجري في الجنوب السوري، بعد انتفاضة السويداء السلمية التي أقلقت كثيرًا النظام السوري ومازالت، حيث شكل الجنوب السوري وخاصة السويداء حالة قلق جدية لنظام بشار الأسد ومليشيات إيران المتواجدة هناك.

ليس في الواقع المتابع من مؤشرات جدية أو حقيقية تدعونا للقول إن انسحاب الروس من سورية بات قريبًا، ولا توجد متغيرات إقليمية أو دولية توحي بقرب ترك الساحة السورية من قبل الروس للإيرانيين، بل لعل ما بعد العدوان على غزة يؤكد ان التموضع الإيراني في سورية، هو الأقرب للتقليص والانحسار، عن سورية،  وفق الاشتغال الأميركي الحثيث، والطلب الإسرائيلي أيضًا،  إلا إذا تعهدت إيران بحماية أمن إسرائيل، بالتعاون مع نظام بشار الأسد، الذي طالما كان حاميًا لأمن إسرائيل، منذ توقيع اتفاقية (فض الاشتباك) بين إسرائيل وحافظ الأسد حيث وقع عليها عام ١٩٧٤، عندما ضمنت إسرائيل نظامًا أسديًا يحميها بدعم إيراني، وتحالف معه، ضمن ما يسمى محور (المقاومة والممانعة).

ويبدو أن إيران باتت قريبة من ذلك وفق تفاهمات مع الأميركان. وتبقى مسألة الوجود الروسي في سورية قابلة للأخذ والرد، دون إمكانية الحديث الجدي عن انسحاب روسي من سورية، حتى لو بقينا نسمع بين فترة وأخرى تصريحات مباشرة أو بالوكالة، تشير إلى ذلك. حيث ما برح الصراع الروسي الأميركي على أشده في الإقليم، وأيضًا في العالم. إلا إذا حدث انزياحًا ما في السياسة الأميركية، مع اقتراب أفول عهد (جو بايدن) واحتمالات عودة (دونالد ترامب) إلى البيت الأبيض، الذي يَعِد الأميركان والعالم، بتغيرات سياسية جمة في العلاقة مع روسيا.

لعل استقراء الواقع السوري المتداخل يشير إلى احتمالات تغييرية كثيرة، بعد حرب غزة، وتموضعات عديدة، ضمن هذه السياقات الدراماتيكية، لكن ذلك أيضًا مرهون بما يمكن أن يحدث في الإقليم من تغيرات سياسية، وكذلك في الإدارات الأميركية المتعاقبة، وفق مصالح الأميركان بالضرورة، وليس من أجل عيون الشعب السوري، أو شعب فلسطين المنكوب، والذي يعاني في غزة والضفة الغربية، ضمن حالة الخذلان والتخلي العربي والإسلامي.

المصدر: الوعي السوري

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. سورية تقع تحت خمسة جيوش إحتلالية، ولكن الأبرز منها هي بمناطق سيطرة نظام دمشق، الإحتلال الإيراني الأقدم، وهقبل الثورة السورية وتدخل لمساعدة النظام بمحاربة الثوار منذ بدايات الثورة أواسط آذار 2011 ضمن أجندتها لإنجاز مشروعها الفارسي، وكان التدخل الروسي جاء بمبادرة المحتل الإيراني اواخر أيلول ٢٠١٥ وكانت أيضاً لمصلحة روسية بوتينية، وهما أهم دعامات إستمرار نظام دمشق، لذلك لن تكون هناك مسرحية رحيل الإثنين إلا ضمن براغماتية دولية جديدة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى