صوّت حوالي 12 مليون ناخب فرنسي لحزب التجمّع الوطني، اليميني المتطرّف، وقد دفعت هذه النتيجة الكبيرة القوى السياسية الفرنسية الى الاستنفار والدعوة الى الاتحاد لمواجهة خطر وصول اليمين المتطرّف إلى السلطة، لما سيكون لذلك من تأثيرات خطيرة على السلم الاجتماعي وتوجهات السياسة الخارجية الفرنسية، حيث لم يخف الحزب نياته في تغيير المعادلات القائمة على الصعيدين، الداخلي والخارجي
لا يخفي “التجمّع الوطني” توجهاته العنصرية الصريحة التي تعطي للفرنسين “الأصليين” الأفضلية في كل شيء، بدءا من العمل وصولاً إلى التقديمات الاجتماعية التي تعتمد عليها شرائح كبيرة من اللاجئين والمهاجرين، بالإضافة إلى سياسات تمييزية ضد المسلمين في العمل والدراسة، لكن أخطر ما في برنامجه سيكون منح البوليس صلاحياتٍ كبيرة لمواجهة من يعدّهم “مخلّين” بالأمن، وهم، في الغالب، من المهاجرين سكان الضواحي، حيث يرفع جوردان بارديللا شعار الأمن قبل كل شيء، في وقتٍ يريد فيه حرمان هذه الشرائح من أولوية العمل والحق في الدراسة ونزع الحجاب في الأماكن العامة.
حسمت الجولة الأولى مصير 75 مقعدا من أصل 577 هو العدد الإجمالي لمقاعد الجمعية الوطنية الفرنسية (البرلمان) حاز “التجمّع الوطني” على 39 مقعدا وتحالف الجبهة الشعبية (من اليسار والاشتراكيين والخضر) على 32 مقعداً، ما يعني أن الصراع في الجولة الثانية المقرّرة الأحد المقبل سيكون على 502 مقعد، وقد توصلت الأطراف المنافسة لـ”التجمّع الوطني”، الجبهة الشعبية وحزب النهضة (ماكرون) إلى استراتيجية جديدة لكسر تقدّم “التجمّع الوطني” تقوم على انسحاب المرشّح الثالث لمنح أصواته للمرشّح الذي ينتمي لها في مواجهة مرشّحي “التجمع …”، بالإضافة الى تكتيكات التخويف من وصول “التجمّع” إلى السلطة.
نظريا، ربما تؤدي هذه الإجراءات إلى تحقيق نتائج عملية لصالح منافسي “التجمّع الوطني”، نظراً إلى نسبة المقاعد الكبيرة التي يجري التنافس حولها، بالإضافة الى أنه، وبحساب نسبة الأصوات التي حصل عليها منافسو الجبهة مجتمعين، فإن النتيجة ستكون خفضاً معتبراً في حصيلة المقاعد التي سيحصل عليها “التجمّع الوطني”، وبالتالي حرمانه من تحصيل الأغلبية النسبية (289 مقعدا) التي تتيح له تشكيل الحكومة من لون واحد، أو الأغلبية المطلقة (أكثر من 300 مقعد) التي تتيح له الحكم بأريحية وإصدار تشريعات القوانين التي يرغب في إقرارها لما يعتبره إصلاحا للسياسات الفرنسية.
من الناحية العملية، تبدو الأمور أكثر صعوبة، فالتحالف المنافس لا يجمعه سوى خوفه من وصول حزب التجمّع الوطني إلى السلطة، ومن دون ذلك تختلف مكونات هذا التحالف بأشياء كثيرة، منها مسائل إستراتيجية خطيرة، مثل الموقف من الاتحاد الأوروبي والحرب الأوكرانية والبرامج الاقتصادية، وهو ما سينعكس على موقف الناخبين المحسوبين على أحزاب هذا “التجمّع”، وإذا كانوا معبئين ضد “التجمّع الوطني”. وبالتالي، لن يمنحوه أصواته، الا أنهم قد يمتنعون عن التصويت الصالح تحالف سياسي لا ينطوي على انسجام واضح، كما أنه سيتفكّك حتما فور انتهاء الانتخابات، الأمر الذي يحمل في طياته تشويشا كبيرا للجمهور القلق على مستقبل البلاد وسلامتها.
في المقابل، يعتقد الوسط الناخب ل”التجمّع الوطني” أنه أمام معركة مصيرية لتحقيق ذاته فيما يعتبره صراع الهويات وحقّ الفرنسيين في التمتع بثرواتهم بدل صرفها على المهاجرين والحرب الأوكرانية، وخاصة وأن أوساط ناخبي التجمع الوطني هم في الغالبية من الفقراء والفلاحين، وهؤلاء يعتبرون أن برنامج التجمع الوطني وسياساته ستكون منصفة لهم بعد أن عانوا ما يصفونه بسياسات الاحتقار والإهمال أثناء مرحلة حكم الرئيس مانويل ماكرون والرؤساء الذين سبقوه وانحازوا للطبقات العليا ولبرامج الإتحاد الأوروبي التي عادت بالضرر على المزارعين لصالح منتجات دول الاتحاد.
يُضاف الى هذه الشرائح الطبقة الغنية، التي ترى في برنامج زعيم حزب فرنسا الأبية، جان لوك ميلانشون، والجبهة الشعبية المنافسة في الانتخابات، خطراً على مصالحها، جرّاء الضرائب الكبيرة التي يتوعد بفرضها في حال تشكيله الحكومة المقبلة. وبالإضافة إلى هؤلاء، تأتي الجالية اليهودية التي تعد حوالي 600 ألف، والتي لها تأثير كبير، وخصوصاً في الإعلام والاقتصاد، والتي تعتبر ميلانشون عدوّها الأساسي بسبب مناصرته القضية الفلسطينية ووصف إسرائيل بنظام الإبادة الجماعية والدعوة الى مقاطعته ووقف تصدير الأسلحة له.
على ذلك، ثمّة مصاعب كبيرة تواجهها القوى الفرنسية المتخوفة والرافضة وصول اليمين المتطرّف إلى السلطة، وأولى هذه المصاعب جذرية مؤيدي اليمين المتطرّف وتماسكهم وقدرتهم على صياغة خطاب شعبوي يرضي اليائسين من أوضاع اقتصادية متردية تغرق فيها فرنسا ويشد عصبهم حول هويتهم التي يعتبرون أنها في خطر جراء الهجوم الإسلامي الناتج من هجرة المسلمين من شمال أفريقيا والدول الإسلامية التي كانت محكومة في السابق من فرنسا، مثل السنغال ومالي وتشاد والنيجر وسواها، ويعتبرون أن هذا التدفق مخطط له ويهدف الى إعادة تشكيل الهوية الفرنسية في ظل إصرار هؤلاء المهاجرين على التمسّك بهويّتهم ومعتقداتهم وممانعتهم للاندماج بالمجتمع الفرنسي.
وفي ظل وجود نزوع لدى فرنسيين كثيرين إلى تجريب ما هو جديد، نتيجة إفلاس الأحزاب السياسية الموجودة على الساحة، وعدم قدرتها على إخراج البلاد من أزماتها العديدة، يبدو أن فرنسا سائرة نحو حكم اليمين المتطرّف، ولن تنفع الاستفاقة المتأخّرة التي تبديها الأحزاب التقليدية، لقد فات الأوان.
المصدر: العربي الجديد
هل إستفاقت فرنسا أخيراً بعد فوز حزب التجمّع الوطني بالإنتخابات البرلمانية بالجولة الأولى ، مما يرشحه الوصول للسلطة؟، المجتمع الفرنسي منقسم بتوجهاته ، ولكنه يتفق على عدم وصول المتطرفين للسلطة، فهل فات الآوان أمام الأحزاب التقليدية بإستفاقتها المتأخرة بمنع وصول “لوبان” للسلطة، الجولة الثانية ستكون حاسمة.