ريما بالي كاتبة حلبية سورية متميزة. مستقرة في اسبانيا. قرأت لها رواية خاتم سليمى ورواية ناي في التخت الغربي. وكتبت عنهما.
غدي الأزرق رواية ريما بالي التي اكتب عنها تتحدث عن ذات الموضوع في رواياتها السابقة: السوريون الذين هُجّروا من بلادهم نتاج عنف النظام ووحشيته رغما عنهم. ووصلوا إلى دول العالم قاطبة. هناك حيث يعيدون سرد حياتهم السابقة في سورية. وما حصل معهم من متغيرات عبر سنين من الغربة والاستقرار، واندماجهم في مجتمعاتهم الجديدة، بحيث يصبحوا جزء من نسيج هذه المجتمعات وبنيتها.
غدي الأزرق تتناول حياة ندى الشخصية المحورية في الرواية. المرأة الحلبية التي غادرت حلب الى فرنسا، بعد سنوات على الثورة السورية التي حصلت في ربيع عام ٢٠١١م، وعيشها ما فعله النظام بوحشيته بحق السوريين، والتبعات القاسية على حياتها في سورية. كما تتحدث ندى عن عملها في مركز لرعاية المسنين هناك وتسرد حكاية أختين توأم اسبانيتين وتطوراتها…
نحن في هذه القراءة سنعتمد على التحدث عن حياة ندى أولا ثم ننتقل للحديث عن حياة الأختين الاسبانيتين، ضمن السرد. ونختم بالعقيب….
تبدأ الرواية من تواجد ندى الحلبية التي غادرت سورية منذ فترة عبر مساعدة ابنة خالتها المستقرة وعائلتها منذ عقود في فرنسا، والحاصلين على الجنسية الفرنسية. حيث ساعدتها في العمل في مركز لرعاية المسنين لتؤمن لقمة عيشها هناك. ندى الحاصلة على الشهادة الجامعية باللغة الفرنسية. والوحيدة أهلها والتي تربت في مدرسة جان دارك للراهبات في حلب. حيث كان معها في المدرسة نبيل ابن مديرة المدرسة. وكانا متلازمين منذ الصغر. والد نبيل ووالدته بعثي ممن ركبوا موجة النظام واصبحوا من جوقة الانتهازيين الذين ارتزقوا من النفاق له والعمل في خدمته. الام تدرجت في مديرية التعليم حتى أصبحت وزيرة التعليم لعشرة سنوات متواصلة. أما والد ندى فهو بعثي سابق رافض للنظام ورافض نبيل وعائلته. لم يكن يرتاح لعلاقة ابنته بنبيل.
كبرت ندى ونبيل ودخلوا الجامعة هي التحقت بقسم اللغة الفرنسية وهو التحق بقسم الصيدلة. واستمرت علاقتهم. ولكن اكتشفت ندى بعد نضجها وتطور احساسيها الجسدية وكذلك نبيل ان الانجذاب المتبادل زاد. لكن اكتشفت ان نبيل لم يكن مخلصا لعلاقة الحب التي اعترفا بها لبعضهما. لذلك وصلت ندى الى قرار قطع علاقتها بنبيل قبل التخرج من الجامعة بسنة ونصف تقريبا. والسبب علاقاته النسائية وعدم وفائه لحبهما. وهو ابتعد عنها مكتفيا بعلاقاته المتعددة. لكن عاد اليها اخيرا وصارحها بأنه لن يستطيع الابتعاد عنها، إنها حب حياته وطلبها للزواج، وهذا ما كانت تأمله وتنتظره ندى، التي كانت قد اعتادت نبيل وأصبحت لا ترى حياتها بعيدة عنه. وهكذا تزوج نبيل وندى وعاشوا حياة متقلبة واستمر نبيل على علاقاته ولو بشكل سري. وندى تحملت وضعه هذا بعدما حملت بولدها “غدي” الذي ستنجبه ويصبح نور حياتها وصديقها الصغير ثم يكبر أمام عينيها وقد تشبّع بالقيم الانسانية وبعيدا عن والده وانتهازيته …
عندما حصلت الثورة السورية عام ٢٠١١م. انقسمت العائلة، ندى وابنها غدي انتموا نفسيا وواقعيا للثورة ولحق السوريين بالحرية والعدالة والحياة الأفضل. بينما التحق نبيل بنظرية النظام عن المؤامرة الكونية وأن سورية ونظامها المقاوم مستهدفة واننا يجب ان نقف في صف النظام وندعمه لمواجهة اعدائه الكثر. تطور موقف الابن غدي بحيث التحق بالهلال الأحمر السوري ليقوم بأدوار اغاثية للشعب السوري خاصة بعدما استوحش النظام بحق الشعب قتل واعتقال وتهجير للناس وتدمير للبلد. رغم كون الهلال الأحمر السوري تحت سيطرة النظام ومراقبته. لكن بعض كوادره كانوا منتمين للثورة ولحقوق السوريين المهضومة. لذلك كان يعتقل النظام بعض كوادرهم. وقد يقتل البعض. وهذا ما سيكون مصير غدي وآخرين كانوا في طريقهم الى دير الزور. في ثلاث سيارات للهلال الأحمر السوري حيث أغارت عليهم الطائرات الحربية السورية و قصفتهم، مات الأغلب وكان من بينهم غدي. كان موت غدي بالنسبة لندى امه الكارثة التي قطعت آخر رابط بينها وبين زوجها الذي اعتبر ان من قتل ابنه هم الإرهابيين. وتاجر بذلك ووصل الى مرحلة اصبح وزيرا في حكومة النظام. لذلك قررت ندى ان تتطلق من زوجها. لكن الكنيسة مانعت وهو رفض. لذلك لجأت إلى خالها وابنته المستقرين في فرنسا. وحصلت على فيزا للذهاب إلى فرنسا وغادرت تحمل طيف ابنها المقتول غدرا من النظام…
وصلت ندى الى فرنسا وهناك عملت في مركز رعاية المسنين. وبه تعرفت على واقع حال الأختين الاسبانيتين ايفا ومارتا المعمرتين وتابعت حكايتهما. وهما اختين من قرية صغيرة في اسبانيا جاءتا إلى فرنسا قبل عقدين من الزمن تقريبا. مصابتين بالايدز. إحداهما مشلولة بالكامل تقريبا، تسمع بأذنها فقط. والأخرى وضعها افضل. سمعت قصتهما وانهما من تلك القرية والدهما ووالدتهما يعملان بالزراعة عند مالك اغلب القرية وعندما دخلتا في سن المراهقة كان باولو ابن المالك يحتال عليهما ويمارس الجنس معهما دون معرفة كل منهما بحال اختها وبالسر. وبعد سنتين عرفت الأختان بواقعهم هذا وقد شجعهم باولو على تعاطي الحشيش المخدر وكان يمدهم به. وبعد ذلك أصبح يعطيهم الهيروين وزاد ادمانهما. واكتشفت إحداهما حملها. واكتشفت ايضا انها مصابة بالايدز. وتبين أن أختها مصابة بالإيدز أيضا. وعندما علمت الاخت الحامل وضعها قررت الهرب بحملها لتنقذ ابنها من قرار باولو بإجهاض طفلها. هربت حتى وصلت إلى فرنسا. وتواصلت مع اختها وشجعتها على الهرب والالتحاق بها لتتعالج ايضا. وبالفعل هربت لكن بالتنسيق مع باولو الذي ادعت انها تحبه ولا تستطيع مخالفة أوامره. وصلت إلى فرنسا والتحقت باختها. وأخبرت باولو بموعد الولادة وجاء الى المشفى وسرق الطفل بعدما دفع رشوة الى بعض المسؤولين. وقيل إنه قتله، وسجل في قيود المشفى أن الطفل قد توفي.
لم تنتهي الحكاية هنا تابعت ندى الموضوع وأدركت أن هناك احتمال أن يكون الطفل على قيد الحياة…
قررت ندى بالتعاون مع بوريس الشاب الإنجليزي الذي جاء لتعلم الفرنسية وتعرف على ندى واعجب بها وأصبح يلازمها. وأخبرته بحكايتها كاملة وتضامن معها. واحبها. رغم فارق السن بينهما وهو تقريبا بعمر ابنها. لكنه لم يكن يعترف إلا بمشاعره الفياضة اتجاهها. واستمر قريبا منها يقنعها اولا بأول بعواطفه. وهي وجدته الصديق الوفي الذي تحتاجه. ذهبت هي وهو الى قرية الاختين الاسبانيتين، حيث كانت قد أخبرته بحكايتها كاملة. وهناك اكتشفوا أن باولو قد مات بسبب المخدرات والايدز. وان له ولد دخل عمر الشباب هو ابن إحدى الأختين المتواجدتين بمركز الرعاية بفرنسا. عادت ندى وبوريس الى فرنسا تحملان الاخبار السارة للاختين التين تجاوزتا كراهيتهما لبعضهما بسبب ما حصل بالماضي. ماتت الأخت المقعدة واستمرت الاخرى تعيش مع صور الابن الذي أصبح شابا…
اما ندى فقد توطدت علاقتها ببوريس لكن لم يتركها نبيل الوزير الموالي للنظام في اي يوم. بل استمر يتابعها ويرسل لها التهديدات. بأنها له وان يجب ان تعود وتتوب عن أفعالها كلها. خاصة بعدما مات والده وأرادها أن تحضر عزاء والده وهو الوزير و بصفتها زوجته. رفضت ولم تذهب. وكذلك واجهها بعلاقتها مع بوريس وأنه لا يحق لها فهي له ولن يتخلى عنها…
تطورت علاقة ندى ببوريس من اعجاب إلى احساس الامومة، الى تقبل الحب، الى الحب وما يصاحبه من علاقة جسدية كاملة، وجدت ندى بعلاقتها مع بوريس انها ولدت من جديد. وان نبيل أصبح من الماضي، لقد انفصلت عنه جسديا ونفسيا وعلى كل المستويات. لكنه استمر يهددها دائما ويطالبها بالعودة الى سورية. وكان آخر ما فعله هو أنه اعتقل امل الفتاة التي كانت تعمل في بوتيك تملكه ندى في حلب وطلب منها الحضور ليخرجها من المعتقل. بالفعل قررت العودة لتنقذ البنت المظلومة. لكن البنت ماتت في المعتقل بسبب مرض قلبها. وهكذا لم تعد ندى الى حلب. لكن نبيل استمر يطاردها واستمرت تنتظره…
تنتهي الرواية عندما يقرع جرس بيت ندى في فرنسا ، تفتحه وتجيد نبيل أمامها…
في التعقيب على الرواية اقول:
للرواية محاور عدة عملت عليها الكاتبة ريما بالي بدقة وعناية.
اولها :سورية وثورة شعبها. مشروعية الثورة في مواجهة مظالم استمرت لعقود في سورية. وكيف واجه النظام الشعب السوري بوحشية لا نظير لها. وكيف تعامل مع الشعب على انهم اعداء قتل واعتقل وهجر الملايين من السوريين ودمر اغلب سورية وحولها الى بلاد محتلة من امريكا وروسيا وإيران والميليشيات الطائفية حزب الله وغيره و الانفصاليين الكرد حزب العمال الكردستاني وقوات سورية الديمقراطية و الحماية الشعبية الكردية…
لم يكن أمام السوريين إلا أن يبحثوا عن النجاة بأرواحهم والانتقال إلى دول العالم قاطبة للبحث عن فرص عيش بديلة…
كما تسلط الكاتبة الضوء على واقع الانتهازيين من كل الفئات السورية الذين يبيعون ضميرهم ومواقفهم للنظام مقابل مكتسبات من مال أو سلطة. موقف نبيل الذي تاجر بدم ابنه واصبح وزيرا يتبجح كاذبا عن موت ابنه على يد العصابات المسلحة…
كما توضح الكاتبة أن النظام لم يسقط بعد وان اياديه طويلة قد تأذي السوريين خارج سورية وهذا صحيح… لذلك كانت ندى تنتظر نبيل في فرنسا لينتقم منها ويعيدها عبدة عنده كل الوقت…
ثانيا: الرواية تعود الى مظلومية المرأة الممتدة لقرون وإن اختلفت من زمان لزمان. لكن المرأة كانت دائما ضحية مظلومية مجتمعية من الرجال والعادات والتقاليد وأن البشرية لن تتقدم إلا بتحرر المرأة وحصولها على حقوقها الإنسانية كاملة…
كما تعود ريما بالي لتعطي الحب بين الرجل والمرأة دور الضوء الذي ينير حياة المحبين والامل لهم بتقبل الحياة وتجاوز صعابها…
الحب هو المنقذ حيث لا منقذ…
ثالثا: عمدت الكاتبة ريما بالي على الغوص عميقا في حياة الأختين الاسبانيتين وسردت تفاصيل حكايتهما ومآلها. حتى توصل لنا رسالة مفادها أن الظلم معمم في العالم. وان المرأة إحدى أهم ضحاياه. وان الأمومة أهم ما يعتلج داخل المرأة سواء عند الاختين او ندى المفجوعة بولدها غدي. الذي لم يكن يغادر أحلامها و كوابيسها…مرة اخرى الرواية ممتلئة بما يجعلنا نحتاج أن نقرأها لنستمتع ونستفيد ونتّعظ…
رواية “غدي الأزرق” للروائية السورية الحلبية “ريما بالي” قراءة جميلة وتعقيب موضوعي من الكاتب “احمد العربي” الرواية تتحدث عن السوريون المهُجّرين من وطنهم بسبب عنف ووحشيته النظام، ووصلوا لدول العالم ليعيدوا سرد حياتهم السابقة بسورية. وما حصل معهم من متغيرات عبر سنين الغربة والاستقرار، واندماجهم في مجتمعاتهم الجديدة.