يأتي التفجير الذي استهدف، أمس الثلاثاء، دورية روسية – تركية مشتركة على طريق “ام 4” في محافظة إدلب السورية، وأسفر عن إصابة 3 جنود روس، ليزيد العوامل التي تدفع نحو تجدد العمليات العسكرية في المحافظة، التي تشهد وقفاً نسبياً لإطلاق النار يتواصل منذ توقيع اتفاق موسكو في 5 مارس/ آذار الماضي، بين الروس والأتراك.
ويؤكد التفجير هشاشة الوضع الميداني، خصوصاً أنه يتزامن مع حشود واتهامات متبادلة بين طرفي الصراع، تصاعدت وتيرتها في الفترات الأخيرة. فقد واصلت قوات النظام السوري إرسال تعزيزات عسكرية ضخمة إلى ريف حماة وإدلب، استعداداً للقيام بما وصفته وسائل إعلام مقربة من النظام بـ”عملية عسكرية كبرى”، تستهدف، وفقها، السيطرة على طريق “ام 4” بالقوة، مع خلق “هامش أمان” لا يقل عن 5 إلى 10 كيلومترات إلى الشمال من الطريق، بذريعة فشل الجانب التركي في إجبار الفصائل المسلحة على إزالة حواجزها عن الطريق الذي من المفترض فتحه أمام حركة نقل الركاب والحركة التجارية. في المقابل، تواصل القوات التركية تعزيز مواقعها في سورية بشكل شبه يومي.
وذكرت مصادر محلية لـ”العربي الجديد”، أن الدورية المشتركة، ورقمها 21، والتي استهدفها التفجير بين بلدتي أورم وأريحا، أمس، سارت على الطريق الخارج عن سيطرة النظام بشكل كامل ولأول مرة، ووصلت إلى منطقة سيطرة النظام في ريف اللاذقية عند قرية عين الحور في منطقة كنسبا في ريف اللاذقية الشمالي الشرقي المتاخم لناحية بداما وجسر الشغور في ريف إدلب الغربي. وأعلنت وزارة الدفاع الروسية في بيان، أن استهداف الدورية بعبوة ناسفة لدى مرورها على طريق “ام 4” تسبّب بإصابة “ثلاثة جنود روس بجروح طفيفة”، وجنود أتراك لم تحدد عددهم. وإثر ذلك، “تم إجلاء الجنود وتعليق الدورية”، بحسب البيان. لكن أنقرة لم تتحدث من جهتها عن إصابات في صفوف قواتها، بل إن وكالة “رويترز” نقلت عن مصدرين أنه لم يسقط جرحى أو قتلى أتراك جراء الهجوم.
وجاء الانفجار الذي وُصف بالضخم، على الرغم من عمليات التمشيط المكثفة التي قامت بها القوات التركية على مدار الساعات الـ24 السابقة للانفجار. ونشرت قنوات إخبارية على “تلغرام”، تسجيلاً أظهر لحظة وقوع الانفجار الذي كان أقرب إلى الدورية الروسية. وعقب الانفجار، شنّ الطيران الحربي الروسي غارات على مناطق في جبل الأكراد في ريف اللاذقية، شمال غرب سورية. وقالت مصادر محلية لـ”العربي الجديد”، إن الطيران الروسي قصف مواقع في جبل الأكراد في ريف اللاذقية الشمالي الشرقي حيث تسيطر مجموعات من الفصائل المتشددة المنتمية لغرفة عمليات “فاثبتوا” المنحلة، مضيفة أن معظم الضربات تركزت في منطقة تلال الكبينة، من دون اتضاح حجم الخسائر الناتجة عنها. فيما ذكر المرصد السوري لحقوق الإنسان، أن القوات النظام نفّذت أيضاً قصفاً صاروخياً، تسبّب بإصابة خمسة مدنيين بجروح بينهم أطفال، في أريحا. وتبنّت مجموعة تطلق على نفسها تسمية “كتائب خطاب الشيشاني”، في أول ظهور لها، استهداف الدورية. وقالت في بيان نشرته على قناتها على “تلغرام” التي أُنشئت قبل شهر إن “الروس وأذنابهم لا يفهمون إلا لغة النسف والقصف، هذه جاءت بمثابة تحذير والقادم أدهى وأمرّ”.
ويأتي تسيير الدوريات المشتركة تطبيقاً للاتفاق بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، في 5 مارس/ آذار الماضي، الذي نصّ على إنشاء “ممر آمن” على طريق اللاذقية – حلب (ام 4)، وتسيير دوريات مشتركة روسية – تركية على الطريق، على أن تكون المناطق الجنوبية لطريق “ام 4” من الممر الآمن تحت إشراف الروس، والشمالية تحت إشراف الأتراك. وبدأ تسيير الدوريات عقب الاتفاق، إلا أنها كانت مختصرة في البداية بين قرية ترنبة وبلدة النيرب، بسبب اعتصام مدنيين على الطريق لمنع مرور الروس، قبل زيادة المسافة في الدوريات اللاحقة، عقب فض الاعتصام. ولم تسلم الدوريات التركية من هجمات سابقة مشابهة، ما أسفر في مارس الماضي عن مقتل عدد من الجنود الأتراك، واتهمت أنقرة آنذاك “فصائل راديكالية” بالمسؤولية عن تلك الهجمات، وتبع ذلك قصف تركي لمواقع تابعة لتنظيم “حراس الدين” واشتباك مع عناصره.
وتنتشر في إدلب عدة تنظيمات جهادية رافضة إجمالاً لكل اتفاقيات التسوية في إدلب، إلا أنها ظلت عموماً منضبطة تحت عباءة “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقاً) التي تتمتع بمرونة سياسية أكثر من بقية التنظيمات. ويبقى تنظيم “حراس الدين” أبرز هذه المجموعات الجهادية، وظهر إلى العلن للمرة الأولى في نهاية فبراير/ شباط 2018، ويضم بشكل عام الرافضين لما يعتبرونه نهجاً براغماتياً مراوغاً لـ”تحرير الشام” في مسايرة الضغوط الدولية وفك الارتباط بتنظيم “القاعدة”. ويُعرف “حراس الدين” بسرية العمل والهيكلية العسكرية والأمنية الصارمة. كما يلف الغموض قائده أبو همام الشامي، ولا بيانات كثيرة لهذا التنظيم، ولا مكان ثابتاً لوجود عناصره. أي أن التنظيم لا يسيطر على قرى أو بلدات بعينها، إنما يتوزع جغرافياً في عدد من قرى إدلب وقريباً من ريف اللاذقية الشمالي. وليس لدى التنظيم وفرة بالسلاح الثقيل، وتشير التقديرات إلى أن عدد عناصره بين ألف و1500 عنصر، يقودهم عسكرياً أبو همام، وشرعياً سامي العريدي.
وكان “حراس الدين” أول فصيل يرفض اتفاق سوتشي حول إدلب الموقّع بين روسيا وتركيا، لكونه يقدّم نفسه كممثل عن تنظيم “القاعدة” في سورية، وبهدف إحراج “تحرير الشام” التي لم ترحب بالاتفاق ولكن لم ترفضه رسمياً. ويُعتبر “حراس الدين” تحت المجهر الدولي والإقليمي لعدة أسباب، منها انتشاره في مناطق حساسة بالنسبة لجميع الأطراف الإقليمية، وعلى رأسها روسيا وتركيا، مثل منطقة ريف اللاذقية، إضافة إلى أنه يضم عدداً كبيراً من المصنّفين على أنهم من أخطر الجهاديين في العالم، فضلاً عن ارتباطه الصريح بـ”القاعدة”. ووجّهت الولايات المتحدة ضربات جوية للتنظيم أكثر من مرة، أدت إحداها في 31 أغسطس/ آب العام الماضي إلى مقتل أربعين على الأقل من قيادات وعناصر التنظيم.
ومن التنظيمات الأخرى المنتشرة في المنطقة “جبهة أنصار الدين”، التي تأسست في سبتمبر/أيلول 2014 بعد اندماج أربعة فصائل أغلبها من “المهاجرين”. يضاف إليها “الحزب التركستاني في بلاد الشام”، الذي يُعتبر من أكثر المجموعات المقاتلة الأجنبية حضوراً على الساحة السورية، وكان له دور بارز في العديد من المعارك التي شهدها الشمال السوري. وفي مارس/ آذار 2018، أعلن عن تشكيل عسكري جديد في محافظة إدلب باسم “أنصار التوحيد” بقيادة أبو ذياب سرمين. وبحسب مصادر مطلعة، فإن هذا التشكيل يضم بين 300 و350 مقاتلاً، وكان ينتشر في كل من سرمين والنيرب وجبال اللاذقية.
وعموماً تضم تلك الفصائل نسبة كبيرة من المقاتلين الأجانب، ومعروف عنها شراسة القتال، لكن “تحرير الشام” تمتاز بقوة التسليح من مصادر متعددة، أبرزها ما حصلت عليه من المعارك مع النظام خلال السنوات السابقة والفصائل العسكرية التي حاربتها. وتسيطر “تحرير الشام” على مدينة إدلب وجسر الشغور وحارم وسلقين وسهل الروج وجبل الزاوية، فيما تنتشر بقية الفصائل في المناطق ذاتها، ويتركز ثقلها في منطقة عرب سعيد، غرب مدينة إدلب، وفي ريف اللاذقية الشمالي.
ويُتوقع أن تترتب على انفجار الأمس ضغوط جديدة على الهيئة لتشديد رقابتها على الفصائل المتشددة في تلك المنطقة، استتباعاً لضغوط روسية متوقعة على تركيا للوفاء بتعهدات سابقة قضت بمحاربة واستئصال تلك الفصائل والتي تدرج روسيا من ضمنها “هيئة تحرير الشام”، وهو ما يتلاقى مع مسعى الهيئة للاستفراد بالساحة، وتحييد أو إضعاف خصومها، واحتكار السلطة، لتقديم نفسها كطرف “معتدل” يمكن أن يكون له دور في مستقبل البلاد. ويرى مراقبون أنه على الرغم من التصريحات المناهضة للاتفاق الروسي التركي من قبل “تحرير الشام”، إلا أنها على أرض الواقع تلتزم به.
وسبقت التفجير محادثات هاتفية، الإثنين، بين الرئيسين الروسي والتركي حول الوضع في إدلب وسبل دفع التسوية السياسية في سورية، بالتزامن مع تزايد تحذيرات المستوى العسكري الروسي من تفاقم الوضع في إدلب، بسبب ما تصفه موسكو محاولات المتشددين القيام بأعمال استفزازية. وكانت وزارة الدفاع الروسية قد أعلنت أن لديها معطيات عن عزم “مجموعات متشددة” على نقل عبوات لأسلحة كيميائية إلى المنطقة، تحضيراً لاستخدامها واتهام قوات النظام بذلك، وهي ذرائع استخدمتها موسكو سابقاً لتبرير عمليات عسكرية تخطط لشنها.
المصدر: العربي الجديد