من تل أبيب إلى حيفا: “هل ترى أن هذه نهاية إسرائيل”؟

جان ستيرن‏‏*     ترجمة: علاء الدين أبو زينة

بعد ستة أشهر من بدء الحرب في غزة، يبدو الرأي العام الإسرائيلي مطاردًا بهاجس بالخوف، ويتساءل عما سيحدث تاليًا في بلد يحرض فيه اليمين المسياني المتطرف لصالح التطهير العرقي للفلسطينيين. أما اليسار، فيجد صعوبة في العثور على طريق، في حين تخضع الحريات العامة للفلسطينيين الإسرائيليين لقيود صارمة. ‏

*   *   *

مضايقة الطلاب الفلسطينيين في إسرائيل‏

‏منذ بداية الحرب التي تشنها إسرائيل على غزة، اتصل 124 طالبا و36 جامعة وكلية في إسرائيل بمركز “عدالة” من أجل الحصول على مساعدة قانونية للتعامل مع الشكاوى المرفوعة ضدهم بشأن نشاطهم على الشبكات الاجتماعية. وقد ساعدت المنظمة ‏‏غير‏‏ الحكومية خمسة وتسعين منهم حتى كتابة هذه السطور، وقدمت هذه الأرقام المحدثة بشكل حصري لمجلة “أوريان 21” في 12 نيسان (أبريل) 2024. وهناك ثلاث ملاحظات بشأن هذه الأرقام: أن غالبية هؤلاء الطلاب كانوا من النساء؛ وأن العديد من هذه الحالات تضمنت إيقاف الطلاب عن الدراسة؛ وأن هذا الإجراء يعرض مستقبلهم التعليمي لخطر شديد.‏

وأضاف محامي الطلبة: “إن ما هو على المحك هنا هو مبادئ الحرية الأكاديمية وحقوق الطلاب. من يستطيع أن يقرر ما الذي يحق للمرء أن يقوله في المجال الأكاديمي؟‏”.

تمارس الحكومة الإسرائيلية ضغوطًا شديدة على أساتذة الجامعات والكليات للتأكد من “ولاء” الطلاب. ويحاول وزير الداخلية فرض معايير وقيود على الشبكات الاجتماعية. ويجري اتخاذ إجراءات قانونية لخدمة الدعاية السياسية للدولة. ويقول أستاذ إسرائيلي يعمل في جامعة بن غوريون في النقب إنه “قلق بشأن الحريات العامة والحرية الأكاديمية، لأن المناخ العام غير موات ولا يفضل المناقشة”. وهو يعتقد أن خياره الأكثر حكمة هو نصح طلابه بإبقاء أفواههم مغلقة، على الأقل على الشبكات الاجتماعية، حتى لو أن آراءهم حول الوضع في غزة لا علاقة لها بمناهجهم الجامعية. وكانت إحدى زميلاته في الجامعة العبرية في القدس، نادرة شلهوب كيفوركيان، قد أمضت للتو 24 ساعة في الحبس الاحتياطي بعد طردها من جامعته بسبب انتقادها الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة.‏

الرقابة، والاعتقالات، والتهديدات هي الممارسة الشائعة ضد الناشطين المعارضين للحرب. “السلطات تصاب بالجنون بسبب التضامن مع غزة. لدينا فقط مظاهرات صغيرة، الناس يخشون أن يتم إطلاق النار عليهم”، يقول مجد كيال، الكاتب في حيفا الذي يدير موقع “كتابة عبر الإبادة” Passages Through Genocide، المخصص لترجمة نصوص مؤلفين من غزة من كلا الجنسين ونشرها بعشرات اللغات.‏

‏”المشكلة هي بلدنا”‏

‏بالنسبة لعدي منصور، الشيء الرئيسي هو منع الناس من التعبير عن ما هم عليه فعلياً: كونهم فلسطينيين: “كل هذا يعمل على تكميم فم المجتمع الفلسطيني. يجب أن يشعر كل عربي بالحرية والأمان في إسرائيل. لكن هذا يصبح أقل صحة يومًا بعد يوم، وهو تحد آخر لليسار الإسرائيلي: عدم ترك الحرية الشخصية للناس تذهب هباء”.‏

بالنظر إلى الحصيلة الوحشية التي تنتجها حرب لا يمكن لأحد أن يرى نهاية لها في الأفق -أكثر من 35.000 قتيل، وما لا يقل عما تقدر كلفته بخمسين مليار دولار من الدمار في غزة- وبالنظر إلى أن هجوم الإبادة الجماعية هذا لا يعطي أي علامات على التوقف، فإن المستقبل يبدو قاتمًا فحسب.‏

‏تقول ناشطة في تل أبيب:‏

‏”ما عرفناه وقبلناه لسنوات عديدة، حتى لو اختلفنا، تسرَّب الآن إلى جميع السكان. العنصرية، الفكرة العامة عن، ’التخلص من العرب‘، تجرنا نحو اختفائنا الخاص المحتمل.‏

‏”قد نسأل أنفسنا ما إذا كانت نهاية إسرائيل مسألة وقت أم مسألة دعم”، يتساءل مفكر من نابلس. نهاية إسرائيل؟ ويقدر دبلوماسي: “إنها نهاية نموذج، ليس هناك شك في ذلك، ولكن ليس نهاية بلد”. وكان المتظاهرون في تل أبيب والقدس يطرحون السؤال في 1 نيسان (أبريل): “ما الذي سيحدث في اليوم التالي”؟ وقالت لي غابرييل في القدس: “المشكلة ليست في اليمين ولا اليسار، إنها في بلدنا نفسه”، وطالبت بوجود بقوة شرطة دولية في غزة وإنهاء الاحتلال في الضفة الغربية. وأضافت: “هذا لا يمكن أن يستمر لفترة أطول! يجب أن يكون لهم (الفلسطينيون) بلد”! ويقول الجنرال غولان متنهداً: “نحن في حاجة إلى التحلي بالشجاعة والوضوح”، مضيفًا أن هذه الحكومة لا تمتلك أياً منهما.‏

في هذه الأثناء، بالنسبة لمثقف فلسطيني في حيفا:‏

“نحن على بعد ساعتين فقط من غزة، وكل شيء يبدو طبيعياً تماماً. إنني أجد أنه من الجنون أن تتمكن إسرائيل من خلق حقيقتين مختلفتين؛ هنا وفي غزة. في القدس وفي المناطق الفلسطينية. إنني أتابع عن كثب كل ما يحدث في غزة، وأفكر فيه طوال الوقت، وهذا يدفعني إلى الجنون، هناك إبادة جماعية تجري هناك ولا أحد يفعل أي شيء لوقفها”.‏

أمسيتي الأخيرة على شرفة نصف فارغة في ديزنغوف في وسط تل أبيب. ثمة سبعة رجال فاجرين كما يبدو يجلسون حول طاولة، يشربون الخمر، ويصخبون. اثنان منهم على الأقل مسلحان، تبرز مسدسات مدسوسة تحت أحزمتهما أسفل ظريهما. وينبعث عبق ياسمين لطيف صاعدًا من الحدائق؛ إنه فصل الربيع في الشرق الأوسط. المدينة هادئة جداً. يسألني أحد الرجال الجالسين إلى الطاولة، بنبرة عدوانية بطريقة ما، من أين أنا. ثم السؤال الذي لا مفر منه: ما رأيي في الحرب؟ ولكن يبدو أنه قرأ رأيي ومن دون انتظار إجابتي قال: “عليكم أن تثقوا بنا… وإلا فإن البلد يكون قد انتهى”. من الواضح أن الموضوع مطروح على الطاولة.‏

جمال زحالقة: “الجميع أو الجميع تقريبًا يفكرون بنفس الطريقة: اقتلوهم! دمروهم”!‏

‏جمال زحالقة، الذي كان زعيما لحزب “بلد” ‏‏ونائبًا‏‏ عن “القائمة العربية الموحدة”، هو عضو رئيسي في اليسار العربي في إسرائيل. في سن 69، يعلق على الوضع لمجلة “أوريان 21”:

‏”نحن هنا نواجه مباشرة مدنيين إسرائيليين وسياسيين إسرائيليين ومثقفين إسرائيليين، كلهم، أو كلهم تقريبًا، يفكرون بنفس الطريقة: ’اقتلوهم! دمروهم‘! إن ما نواجهه هنا هو وحشية الصهيونية نفسها. خذ طيارًا إسرائيليا يصعد إلى مقاتلته النفاثة، ويضغط على زر، ويقتل مائة شخص، ثم يعود إلى المنزل ليستمع إلى سيمفونية لبيتهوفن أثناء قراءة كافكا. هذه المسافة بين الضحية والقاتل تجعل الحرب تبدو أنظف بالنسبة لهم.‏

يواجه الفلسطينيون الذين يعيشون في إسرائيل صعوبة في التحدث في البداية لأنهم يرون ما يحدث في غزة كل يوم. لكن لديهم مشاعر مختلطة لأن إسرائيل لم تتمكن من تحقيق نصر في غزة. حتى لو شعر الفلسطينيون بأنه تم التخلي عنهم، فإن مظاهرات التضامن في كل مكان تقريبًا في العالم تثلج قلوبهم. يفهم الناس هنا أن التمييز والفصل العنصري والاستعمار كلها تعني الشيء نفسه. وقد فهم معظمهم أيضًا أن إسرائيل لديها جانبها المظلم.‏

لا أحد على الساحة السياسية الإسرائيلية مستعد لتقديم تنازلات. الأميركيون لن يتزحزحوا، والأوروبيون غير قادرين على فعل شيء، والروس والصينيون يراقبون. الحالة متقلبة جداً. “حماس” لا تريد التخلي عن غزة، و”السلطة الفلسطينية” لا تستطيع أن تفعل أي شيء في غزة من دون موافقة “حماس”. يجب أن تكون هناك حكومة تكنوقراط ومفاوضات لأن مفتاح كل شيء هو الوحدة الفلسطينية. وينبغي أن يأتي الهجوم المضاد الحقيقي من فلسطين موحَّدة.‏

اقتصاد متماسك‏

‏في سياق سياسي وعسكري وأخلاقي فوضوي بكل وضوح، يبدو الاقتصاد في إسرائيل متماسكًا. تم الاكتتاب في أربعة قروض حكومية بقيمة 8 مليارات دولار لكل منها، لكنَّ الحرب قد تكلف إسرائيل 14 نقطة من ‏‏ناتجها القومي الإجمالي‏‏، وهو مبلغ كبير. قطاع البناء بعيد كل البعد عن المضي بسلاسة، سواء في تل أبيب أو في المستعمرات. صناعة الأسلحة تعمل بأقصى سرعة. كما تلقت إسرائيل أيضًا عشرات المليارات من المساعدات ‏‏الأميركية‏‏ في شكل ذخائر وأسلحة، وفي الائتمانات: أكثر من 14 مليار دولار في الآونة الأخيرة.‏

تسببت التعبئة العسكرية الكبيرة هذا الشتاء في إصابة قطاع التكنولوجيا الفائقة بالشلل. ويمثل هذا القطاع 10 في المائة من نشاط البلاد -لكنّ 20 في المائة من جنود الاحتياط في الجيش يأتون منه. ومع ذلك، تمتلك هذه الصناعة صلات على نطاق واسع مع جميع أنحاء العالم لدرجة أن التشنجات في البلاد لا تؤثر عليها كثيرًا. وتجدر ملاحظة أن هذا القطاع بالغ الحساسية يقف في طليعة المعارضة للنظام في إسرائيل. وفي الواقع، تقوم العديد من شركات التكنولوجيا الفائقة بتمويل الجنرال غولان. أما بالنسبة للتجارة السياحية، فهي معرضة لخطر شديد، خاصة بعد أن تقلص قطاع السفر الجوي بشكل كبير. وكان هذا القطاع قد جلب لإسرائيل في العام 2023 دخلاً يعادل ثلاثة مليارات دولار. ولا أحد يعرف حتى الآن، على سبيل المثال، ما إذا كان يوم “فخر المثليين” سيقام في 7 حزيران (يونيو) في تل أبيب كما هو مخطط له. اعتبارًا من الآن، أصبحت كل التجمعات التي تضم أكثر من 1.000 شخص محظورة في إسرائيل.‏

*جان ستيرن Jean Stern: صحفي سابق في صحيفتي “‏‏ليبراسيون”‏‏ و”لا ‏‏تريبيون”،‏‏ ومحرر مساهم في “‏‏لا كرونيك دي أف الدولية”‏‏. نشر في العام 2012 “رؤساء الصحافة الوطنية كلهم سيئون” (لا فابريك) ‏‏Les Patrons de la presse nationale, tous mauvais‏‏، وفي العام 2017 “سراب مثليّ في تل أبيب”‏ (ليبرتاليا) ‏‏Mirage gay à Tel Aviv‏‏‏.

*نشر هذا التقرير تحت عنوان: From Tel Aviv to Haifa: ‘Do you believe this is the end of Israel?’

 

المصدر: (أوريان 21) / الغد الأردنية

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. بمرور الشهر السابع من طوفان الأقصى والحرب المتوحشة القذرة لقوات الإحتلال بغزة، موقف الرأي العام الصهي.وني منقسم ومتخوف من اليمين المتطرف ودعواته للتطهير العرقي ويسار لم يعد يرى نفسه ضمن هذا الصراع المحموم ، هل هي بداية تفكك هذه الدويلة الوظيفية؟ مهما حاولت الإدارة الأمريكية ترميمها؟.

زر الذهاب إلى الأعلى