الجذور الاجتماعية الطبقية للفكر القومي:
ينتمي الفكر القومي العربي في نشأته الأولى لطبقة الأرستقراطية العربية المكونة من كبار ملاك الأراضي الزراعية والعقارات في المدن كالأسواق وكبار التجار، ولذا لابد من إلقاء نظرة لتاريخ صعود تلك الطبقة منذ القرن الثامن عشر خاصة في بلاد الشام والعراق.
وقد أدركت تلك الطبقة خاصة الفرع التجاري منها والمتداخل مع الفرع الآخر أهمية الثقافة العصرية في المحافظة على مركزها الاجتماعي بينما كانت سابقا تعول على الشراكة مع رجال الدين من أجل تلك المهمة بالغة الأهمية.
ومن أجل ذلك أرسلت أبناءها إلى الأستانة وأوربة للمعاهد العليا المختصة بالحقوق والقوانين وبعض العلوم الحديثة كالطب والادارة لكن أولئك الأبناء تأثروا خلال دراستهم بالثقافة الغربية باعتبارها ثقافة العصر، بما في ذلك أفكار الثورة الفرنسية، والفكر القومي الذي ساد أوربة.
كما امتد ذلك التأثير للأجيال الشابة التركية التي أمضت شبابها في معاهد إستانبول والجامعات والمعاهد الغربية والكليات العسكرية الأوربية، وترك ذلك تأثيرا إضافيا على النخب العربية.
استطاع أعيان المدن العربية بين 1860 – 1908 أن ينخرطوا في الأطر السياسية التي أوجدتها حركة التنظيمات العثمانية بعد أن هيأت لها حركة تتجير المواد الزراعية باتجاه الغرب وكذلك قوانين مسح الأراضي لعائلات الأعيان كما أشار لذلك وجيه كوثراني، ومن خلال عملية مسح الأراضي جرى بصورة مباشرة وغير مباشرة تعزيز لأملاك الأعيان للأراضي الزراعية بنقل ملكية الأرض من الدولة العثمانية التي كانت تمنحهم حق استثمار الأرض دون ملكيتها إلى تلك الطبقة بصورة قانونية كملكية كاملة وراثية وسمح لهم ذلك بتوسيع ملكياتهم بالتدريج من خلال إقراض الفلاحين الذين كانوا يستثمرون أيضا في الأراضي الأميرية ثم سلبهم تلك الحيازة حين يعجزون عن دفع قروضهم .
هكذا أصبحت السيطرة على الأرياف والوظائف المحلية الادارية والرأسمال التجاري (في كثير من الأحيان كانت طبقة ملاك الأرض تجمع بين حيازة الأراضي الزراعية والقيام بالتجارة من خلال منتجات تلك الأراضي) سلما اقتصاديا لصعود تلك الطبقة وتطلعها لتبوء مركز سياسي يتناسب مع وزنها الاقتصادي.
أحدثت سيطرة الاتحاديين على الحكم انقلابا في سياسة الدولة العثمانية تجاه الطبقة الأرستقراطية العربية بدأ بإبعاد بعض أفراد تلك العائلات عن مراكز السلطة والتشدد في مراقبة مجالس الادارات المحلية في المدن والتدخل في شؤونها الداخلية، وقد كانت تلك السياسة تهدف لتقليم أظافر تلك الطبقة ومنعها من الصعود للأعلى باعتبارها الحامل المحتمل للفكر القومي، ولم يلبث الأمر أن ولد رد فعل في المدن العربية يطالب بازدياد المشاركة العربية في الحكم.
وباختصار فقد وجدت تلك الطبقة التي تسيدت المجتمع في بلاد الشام نفسها غير قادرة على التأقلم مع طبيعة النظام الجديد والحفاظ على مركزها الاجتماعي وامتيازاتها الاقتصادية، وفي وجه تهديد تطور بسرعة مترافقا مع ضعف الدولة العثمانية وازدياد هزائمها العسكرية في البلقان بين 1911- 1912 وازدياد نفوذ التدخل الغربي الأوربي اتخذت الطبقة الأرستقراطية العربية قرارها بالانحياز للغرب طالما أن علاقتها التاريخية مع الدولة العثمانية قد جرى تقويضها بصورة تامة ولم يعد هناك من أمل في استعادتها ثانية.
هذا الأساس الطبقي كان وراء صعود الفكر القومي باعتباره الفكر الذي كان مناسبا لمصالح الحفاظ على تلك الطبقة، وقد كان البديل هو ايجاد تفاهم مع القوة الأوربية الصاعدة ونقل الاستناد السياسي إليها وقد بدأ ذلك مبكرا، قبل انهيار السيطرة العثمانية على بلاد الشام، ولعل اختيار باريس لاجتماع المؤتمر العربي الأول كان إشارة لبدء انزياح الأرستقراطية العربية نحو الغرب.
أدى انزياح الأرستقراطية العربية نحو الغرب إلى دفع القومية العربية أيضا نحو الغرب وكما سبق فقد كان عقد أول مؤتمر عربي في باريس إشارة قوية لذلك الاتجاه.
تحول العلاقة بين القومية العربية والأرستقراطية السورية:
وكان من نتائج ما سبق بدء حوار بين الأرستقراطية العربية و الدول الغربية خاصة بريطانيا وفرنسا قبيل وأثناء الحرب العالمية الأولى, ومنذ بداية العهد الفيصلي كان هناك ميل لإيجاد تفاهم سياسي مع الدولة الفرنسية التي مُنحت السيطرة العسكرية والسياسية التامة على كل من لبنان والساحل السوري بموجب التقسيمات التي أقرها الجنرال اللنبي بعد دخول جيوش الحلفاء دمشق في أوائل تشرين الأول 1918 , كما أن مطالبة فرنسا بحكم سورية كانت قد أصبحت علنية ومعروفة على نطاق واسع خاصة مع نشر اتفاق سايكس بيكو في الصحافة بعد الثورة البلشفية عام 1917.
بالترافق مع تحول الحركة القومية العربية نحو الطبقة الوسطى بعد بداية العهد الفيصلي ظهر تهميش” الأعيان” وهو الاسم الشعبي المتداول آنذاك للطبقة الأرستقراطية بسبب النهوض المبكر للطبقة الوسطى الذي رفد الاتجاه الراديكالي المنشق عن طبقة الأعيان إلى حد أن ” أكبر رجال أعيان دمشق أمثال عبد الرحمن اليوسف ومحمد العظم طلبوا الانضمام إلى حزب الاستقلال الواجهة السياسية للعربية الفتاة لاسترداد مكانتهم وهيبتهم بواسطته , فرفض الحزب طلبهم ولكن الأمير فيصل وفق بعد جهد جهيد إلى إقناع الحزب بأن يؤلف لجنة استشارية يكونون من أعضائها ولا يكون لهم سوى هذه العلاقة الاسمية ” – أسعد داغر- مذكراتي على هامش القضية العربية
وفي الوقت المبكر من العهد الفيصلي كان الانسجام قويا بين الخط السياسي لفيصل وبين الحركة القومية العربية بقيادة العربية الفتاة وحزبها حزب الاستقلال , لكن في المرحلة الأخيرة من العهد ومع حدوث الانقسام بين الخط السياسي لفيصل المهادن لفرنسا وخاصة بعد اتفاق فيصل – كليمنصو وبين الحركة الشعبية الذي وصل إلى حد الانشقاق ضمن اللجنة الادارية لجمعية العربية الفتاة ذاتها فقد تصاعد حضور وتأثير الأعيان في الحكومة بانضمامها لفيصل وقد جرى التعبير عن ذلك الانقسام أحيانا لدى الشخصيات السياسية التي لعبت أدوارا هامة في العهد الفيصلي مثل محمد عزة دروزة بالانقسام بين الشباب والشيوخ ,في حين أن الشيوخ ليسوا سوى الممثلين الحقيقيين لطبقة الأعيان , وإنما كانوا يدافعون عن مصالحهم ومركزهم الاجتماعي الذي أصبح مهددا بصورة غير مسبوقة مع دخول الطبقة المتوسطة وفئات شعبية للسياسة من الباب العريض عبر الديمقراطية وقد عبر عن ذلك أسعد داغر بالقول : ” إن تقاليد سير طبقات العامة خلف الأسر الوجيهة التي تتوارث النفوذ من أجيال قد تبدلت , وعبر عن دهشته مما سمعه من اجتماعات اللجنة الوطنية العليا التي تشكلت لاحقا , بعيد أزمة الاستبدال ( انسحاب الجيش البريطاني من سورية لصالح الجيش الفرنسي ) من عامة الناس من تنديد شديد ببعض الأعيان وذوي النفوذ من أبناء الأسر الدمشقية الوجيهة الذين كانوا متهمين خطأ أم صوابا بالخيانة أو ضعف العقيدة الوطنية ”
في ابتعادها عن النهج السياسي القومي العربي التحرري وجدت الأرستقراطية السورية ضالتها في الوطنية السورية كعقيدة بديلة وترافق ذلك مع انتهاء شهر العسل بين القومية العربية والسياسة البريطانية التي اعتبرت أن القومية العربية لم تعد ذات فائدة لمصالحها الحيوية في المشرق العربي بعد أن تم الاستيلاء على المشرق العربي بصورة كاملة بل إنها أصبحت عبئا ومصدر مقاومة لمشروع الاستيطان الصهيوني في فلسطين وللاحتلال البريطاني للعراق.
أما الدولة الفرنسية فهي لم تكن في وقت من الأوقات مرتاحة لفكرة القومية العربية سوى أنها اضطرت لمسايرة السياسة البريطانية التي كانت تُعتبر السياسة الغربية القائدة في المشرق العربي. لكن ذلك انتهى باستيلاء الحلفاء على المشرق العربي مع نهاية الحرب وهكذا عادت الدولتان للنظر معا بطريقة غير ودية للقومية العربية وتشجيع ظهور النزعات الوطنية المحلية
وهنا كان لقاء السياسة الفرنسية مع الأرستقراطية السورية في دفعها للابتعاد عن الفكرة القومية باتجاه وطنية سورية تختلط بنزعات محلية طائفية ومناطقية.
كانت الجذور الاجتماعية الطبقية للفكر القومي لدى طبقة الأرستقراطية العربية المكونة من كبار ملاك الأراضي الزراعية والعقارات والتجار لذلك كانت تعمل للحفاظ على مميزات طبقتها وفي سورية كان هناك تناغم بين هذه الطبقة والفرنسيين ولكن بعد الإحتلال همشهم ، قراءة ووجهة نظر تحترم.