يستمر صمت السوريين المؤيدين عن نظامهم السياسي، على الرغم من أوضاعهم المعيشية البائسة، بحكم الأمر الواقع الذي لا يرون سبلا لتغييره داخلياً، وذلك نظراً إلى إخفاق الثورة، على مدار السنوات التسع، في إحداث التغيير المنشود، ووقوع من هم خارج مناطق حكم النظام تحت سلطةٍ شبيهةٍ في استبدادها، والعمل لمصلحة مناصبها على حساب مصلحة السوريين وثورتهم. وربما تتساوى شخصيات المعارضة في تمسّكها بمناصبها مع رأس النظام وعائلته، على الرغم من أن تلك المناصب افتقدت دورها وتمثيلها الشعبي، وبالتالي فاعليتها ومكانتها عند المجتمع السوري المعارض للنظام، ما يجعل الشعب السوري المنقسم بين الداخل والخارج تحت سلطتين سواء، النظام أو المعارضة، على اختلاف درجات الاعتراف الدولي بهما، فبينما يتمسّك النظام بالاستمرار في مسببات قهر سوريي الداخل اقتصادياً، عبر تجاهله الشروط السياسية المفروضة عليه، للخروج من حيز تنفيذ عقوبات قانون قيصر الأميركي، الذي بدأ العمل به بداية شهر يونيو/حزيران الماضي، وأدت نتائجه إلى تسارع انهيار الليرة السورية إلى حدٍّ فاق كل توقعات المحللين الاقتصاديين، ذوي الانتماء للنظام، ما يحمّل النظام المتعنت مسؤولية إهدار فرص إنقاذ اقتصاده وليرته (2600 ليرة مقابل الدولار الواحد)، وبالتالي عجزه عن حماية السوريين، الواقعين تحت حكمه، من تبعات تعنّته، ورفضه قبول الحل السياسي وفق قرار مجلس الأمن 2254 الصادر عن مجلس الأمن عام 2015. ولم تستثن انعكاسات “قيصر” المناطق الواقعة خارج سيطرة النظام، وذلك لغياب كيان معارض وطني جامع خلال السنوات الماضية، يقدّم بديلا نزيها، وقادرا على إدارة الخدمات المدنية بما يليق بالتضحيات التي بذلها أهالي تلك المناطق، ثمنا لتحريرها من سلطة النظام.
وفي الوقت الذي يشقّ على الناس تأمين قوتهم اليومي داخل سورية، تخرج أصواتهم المخنوقة غاضبة على الجهات التنفيذية، لتوارب حقيقة اعتراضها على استمرار سياسة رأس النظام في تمسّكه بالحل العسكري، والتي جعلته رهينة لداعميْه الروسي والإيراني داخليا، حيث سيطرا على منافذ اقتصاد سورية ومؤسساته، وصولاً حتى جيشه، وأدّى تحالفه مع إيران إلى جعل أرضه ساحة استهداف عسكري لإسرائيل، أمام صمتٍ دوليٍّ حتى من داعمه الروسي، وتركت سياسة القتل والتعذيب للمعتقلين التي انتهجها في سجونه ومعتقلاته الباب مفتوحاً لعقوباتٍ أميركية وأوروبية، وجديدها قانون قيصر الأميركي الذي استهدفه وداعميه الدوليين وبعض العرب من دول الخليج الذين مهّدوا لدخول سوق إعادة الإعمار قبل البدء بخطوات الحل السياسي، ووقف قصف السوريين.
وبينما يغرق المواطن السوري في هموم حياته اليومية، تطل عليه صور المرشحين لمجلس الشعب، وقوائم تحالف الجبهة الوطنية التقدّمية التي تجمع حزب البعث (الحاكم رغم سقوط المادة الثامنة من دستور 2012)، مع عدة أحزاب سورية، معظمها من دون أي قواعد شعبية، والتي ستجري انتخاباتها في 19 يوليو/تموز الحالي، ما يعني أن الوضع السوري مستمرٌّ في استعصائه على الحل، والنظام يريد حفلة إلهاء شعبي جديدة بتغيير بعض الوجوه في المجلس، بعد حملة تغييرات شكلية في الحكومة، في مقابل الحفاظ على الآلية نفسها، والخطوات المتّبعة في صناعة حجارة شطرنج، لرقعةٍ محكومةٍ بمساحة النظام ورغباته، ومرتهنة، في النهاية، بقواعد الفساد التي تنتج مسؤولين يتم تناقل أخبار فسادهم علناً أحياناً، وسرّاً في أحايين كثيرة، لتداخل حكايات فسادهم مع أسماء داخل القصر الجمهوري، وفي الحلقة الضيقة للنظام، وعلى السوريين انتخاب أو اختيار أسماء بعض من يسرقهم لاحقاً.
وعلى الجهة المقابلة للنظام، تتساوق الخطوات نفسها في كياناتٍ أصبحت عبئاً على الشعب، بسبب خلافاتها وانقساماتها وتعدّد أوجه ارتهاناتها، وتدوير أسماء المعينين في المناصب القيادية لها، بما يخدم أجندات الدول، صاحبة القرار في تسميتهم، أو تعطيل أدوارهم من جهات أخرى أو دولٍ بما لا يحقق أجندات دولٍ على تنافس، أو خلافٍ، مع الدول المشار إليها، ما يعني أن السلطتين، في واقعهما الوهمي، يعملان ضد مصلحة السوريين في التمسّك بإنجاز حل سياسي ينهي المأساة السورية، والإصرار عليه، حيث تمسّك النظام بمكانته الوهمية ناقصة الشرعية الشعبية في حكم سورية، وتمسّكت قيادات بعض الكيانات المعارضة بأدوارها المأجورة والمرتهنة، ما أفقد هذه الكيانات المعارضة بُعدَها السوري الذي كان يمكن أن تكتسبه، على الرغم من أن قرار وجودها كان أساسا بقرار دولي خارجي.
لا تختلف السياسات المتبعة على الجانبين، فحيث النظام مستمر في تجاهل مأساة السوريين الاقتصادية التي يعكسها اليوم عبر إعلامه المزدحم ببرامج رفاهية، يشعر من يشاهدها بأنه في عالم آخر، ليس في سورية التي يئن شعبها تحت وطأة الفقر، حيث لا يزيد متوسط دخل معظم السوريين الموظفين عن 30 دولارا شهريا، ما يضطر أكثر من 80% منهم إلى الاستغناء عن حصص الغذاء الضرورية لعائلاتهم، من لحم وحليب وفاكهة وغير ذلك، لتصبح كأنها حلم المستقبل، وهذا الفقر هو الذي أنتج الجرائم الجنائية المروّعة من قتل واغتصاب وسرقات، وهو ما يبرّر مخاوف السوريين من أيام أكثر قتامةً، في ظل نظام يعرف الطريق إلى الحل ويوارب، ويستمد قوته من حليفتين، ليس مواطنوهما أحسن حالاً من السوريين بكثير اقتصادياً، وكل غرضه زيادة عدد سنوات حكمه العجاف، وفي ظل حكومة ومجلس شعب معينين، سرعان ما سيخرج الإعلام لاحقاً ليضع أمامنا أرقاما خيالية لسرقات بعضهم وفسادهم.
ومن جهة مقابلة، تأتي خلافات المعارضة السورية وانقساماتها على بعضها، وتدوير مناصبها، وحصر الفوائد المالية بالشخصيات نفسها المعتمدة من الدول، ما يجعل الظن أنها تعمل على استدامة “وظائفها” بديلا عن عملها لإنهاء الواقع المرير، ويؤكد من جديد أنها غير معنية بأحوال السوريين المشرّدين ونكباتهم في أصقاع الأرض، ومنهم كثيرون في مخيمات اللجوء، تحت مطرها وفي أجواء بردها شتاء، وفي قيظها صيفاً، ليصبح في الجانبين مصير السوريين بين قياداتٍ معظمها محمية خارجياً، وموظفة أجندات من يحميها، ومصلحتها تتناقض مع مصلحة عموم السوريين، حيث الذهاب إلى الحل السياسي، وإنهاء الكيانات المستفيدة من الحرب على الجانبين، يهددان مصالح النظام وقيادات المعارضة، ويفقدهم مواقع لا يمكنهم أن يكونوا فيها في دولةٍ تعتمد الشفافية والنزاهة وتداول السلطة البند الغائب في حياة النظام والمعارضة.
المصدر: العربي الجديد