في الثلاثين من حزيران/ يونيو، تدفق عشرات الآلاف من المتظاهرين السودانيين إلى شوارع الخرطوم والمدن الرئيسية الأخرى مطالبين بتغييرات تشمل الانتقال الكامل إلى الديمقراطية والحكم المدني. فبعد مرور أكثر من عام بقليل منذ سقوط نظام عمر البشير الذي دام ثلاثة عقود، قد تندفع البلاد في أي من الاتجاهين – أي نحو أنماط مألوفة من الخلل الوظيفي، أو نحو مسار رائد يعود بالفائدة ليس فقط على سكان السودان البالغ عددهم 40 مليون نسمة، بل أيضاً على العالم العربي الأوسع وما يتخطاه.
وتكثر إفريقيا والشرق الأوسط بالدول العاجزة سياسياً واقتصادياً، وبالبلدان التي أصبحت على حافة الهاوية، والقصص التي تُستقى منها العبر. ولكن في منطقة مقدّر لها [أن تواجه] أنواع مختلفة من الحكم الاستبدادي كما يُفترض، فإن تاريخ السودان الفريد – كأول دولة تُسقِط نظاماً إسلامياً راسخاً بمبادرتها – قد يحطم العديد من التوقعات المتأصلة.
أمام الولايات المتحدة خيار مصيري في هذه اللحظة المحورية. فباستطاعتها التعامل مع السودان كما لو كان لديها متّسع من الوقت لتصحيح الأمور بينما يتبدّد الأمل في الخرطوم، أو قد تعطي الأولوية للبلاد باعتبارها حالة ملحّة تستدعي الدعم الفوري – أي حالة تقدم فوائد حقيقية للمصالح الإقليمية للولايات المتحدة.
ما الذي جلب السودان إلى حافة الهاوية؟
تم تنظيم مظاهرة 30 حزيران/ يونيو من جانب “لجان المقاومة” التي شَكلت معظم القاعدة الشعبية لـ”قوى إعلان الحرية والتغيير”، التي هي ائتلاف واسع يضم الجماعات التي أثبتت أهميتها في إسقاط نظام البشير في نيسان/ أبريل 2019. وقد جاء ذلك السقوط على شكل انقلاب عسكري، ولكن لم يكن من المرجح أن يَحدث دون وجود حركة شعبية واسعة ودائمة. وقد أحيت آخر مظاهرة في 30 حزيران/ يونيو “المسيرة المليونية” التي جرت في العام الماضي وساعدت على تحقيق إنجاز كبير في التحول الذي يشهده السودان.
وتطرق المتظاهرون هذا العام إلى العديد من القضايا، غير أن مطالبهم الأساسية تتلخص في ما يلي: انتقال أسرع نحو الحكم المدني، ومزيد من الحزم من قبل المدنيين الذين يسيطرون بالفعل على السلطة، والابتعاد بشكل أكبر عن عناصر النظام الإسلامي السابق الذي لا يزال متأصلاً في البيروقراطية، والمساءلة عن انتهاكات النظام السابق، [ومنح] الجيش سلطة أقل. وتشكّل هذه التغييرات خطوة طبيعية تالية في العملية التي تكشّفت منذ سقوط البشير، وأدت إلى أشهر من المناورة الداخلية من قبل عناصر من القوات المسلحة، وقمع عنيف للمظاهرات، ومن ثم، وبأعجوبة، ولادة خطة لتقاسم السلطة وعملية انتقال في تموز/ يوليو 2019. وبموجب هذه الخطة، يحكم البلاد مؤقتاً “مجلس سيادة” عسكري-مدني مشترك، تكون فيه الإدارة المدنية برئاسة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك الذي هو تكنوقراط محترم. ومن المفترض أن يستمر هذا الترتيب المؤقت إلى حين إجراء الانتخابات العامة في أواخر عام 2022.
وفي هذا السياق، قدّم أحد منظمي المظاهرة في دارفور سرداً متفائلاً عن أهمية المسيرة في تصريحات لـ «شبكة عاين»، قال فيها: “لا مجال للتراجع. لقد ترك السودان طريق الاستبداد إلى الأبد وسيبني السودانيون دولتهم الجديدة بكل ما يملكونه من قوة”. ولكن جذور عدم الرضا عن الوضع الراهن عميقة، وخطر التراجع كبير.
ولا يتمثل الموضوع بفشل حكومة حمدوك في إحراز تقدم. فمنذ وصوله إلى السلطة في أواخر آب/ أغسطس 2019، ربما يكون قد شكّل الحكومة الأكثر تنوعاً في تاريخ السودان. فقد ترأست النساء أربع وزارات رئيسية (الشؤون الخارجية، والتنمية الاجتماعية والعمل، والشباب والرياضة، والتعليم العالي)، كما أنّ وزير الإعلام هو صحفي سابق و”سجين رأي” في نظر “منظمة العفو الدولية”، إذ سُجن وتعرّض لمضايقات لسنوات. كما قوّض حمدوك الإرث القانوني الضار لنظام البشير، بسماحه بحرية الصحافة وإلغائه القوانين التي قيّدت حقوق المرأة والحقوق الدينية. بالإضافة إلى ذلك، بدأ عملية مؤلمة – وفي نظر النقاد، بطيئة للغاية – تتمثل في اعتماد الشفافية والمساءلة في تصرفات النظام. وقد تم استرداد ما بين 3.5 إلى 4 مليارات دولار من أصول البشير، وفقاً لـ “لجنة محاربة الفساد وتفكيك النظام”.
وفي الشؤون الخارجية، اتبعت الحكومة الكثير من [السياسات] التي يمكن أن ترضي الولايات المتحدة إلى حد كبير. فالتعاون في مكافحة الإرهاب مستمر ومثمر. وفي شباط/ فبراير، التقى الجنرال عبد الفتاح البرهان – رئيس مجلس السيادة ورئيس دولة السودان بحكم الأمر الواقع – برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
ومع ذلك، فعلى الرغم من صدق الحكومة المدنية وجديتها، إلّا أنه لا يمكن للسودان أن تعكس ثلاثة عقود من الفساد المستفحل والخلل بين عشيّة وضحاها. فقد أحرزت البلاد تقدماً حقيقياً في الشهر الماضي خلال مؤتمر “أصدقاء السودان” في برلين، وحصلت على 1.8 مليار دولار من المساعدات الجديدة وحسّنت العلاقات المتوترة منذ فترة طويلة مع “البنك الدولي” و”صندوق النقد الدولي”. غير أن هذه التطورات الأساسية المشجعة كانت مجرد خطوات أولية.
وفيما يتعلق باقتصاد السودان الضعيف أصلاً، فقد كان يتدهور بشكل مطرد حتى قبل أزمة “كوفيد-19” والركود العالمي اللاحق. وقد بلغ معدل التضخم حوالي 100 في المائة، ووصلت البطالة إلى 25 في المائة، ومن المتوقع أن ينكمش الاقتصاد بنسبة 8 في المائة هذا العام بعد انكماشه بنسبة 2.5 في المائة العام الماضي. كما تواجه البلاد متأخرات بمليارات الدولارات لمقرضين دوليين بسبب عدم الكفاءة والجشع اللذين أظهرهما القادة السابقون، وقد أُمِرت السودان بدفع 826 مليون دولار كتعويض عن تفجيرات سفارتي الولايات المتحدة في كينيا وتنزانيا عام 1998 – وهو هجوم مبكر لتنظيم «القاعدة» عمل نظام البشير على تسهيله. ولا يزال اتفاق تسوية هذه المطالبات بمبلغ 300 مليون دولار عالقاً في مجلس الشيوخ الأمريكي.
توصيات للسياسة الأمريكية
كالعادة، نصح المقرضون الدوليون الحكومة السودانية باتخاذ تدابير مالية قد تزيد من تآكل شعبيتها وتجعلها هدفاً أسهل للشخصيات العسكرية والإسلامية التي تقف لها بالمرصاد. ولكن في الوقت الذي يتزاحم فيه السودانيون اليائسون لكسب القوت والحصول على الأدوية والوقود، فسيكون ضرباً من الجنون أن نتوقع من إدارة حمدوك الجادة بل الهشة أن تعلن أن المواطنين الذين يعانون منذ فترة طويلة يجب أن يدفعوا المزيد، ويحصلوا على الأقل، ويرسلوا الأموال إلى ضحايا الإرهاب الأمريكيين، وينتظروا ببساطة لأيام أفضل.
ويبدو منطق السياسة الأمريكية الحالية بشأن السودان واضحاً، ويتمثل بمعالجة القضايا الثنائية العالقة بشكل منهجي مع التمسّك بأمل [رؤية ضوء] الإغاثة في نهاية الأفق. ويشمل ذلك التلويح بوعد إزالة السودان من قائمة “الدول الراعية للإرهاب” في مرحلة ما قريبة من الانتخابات الأمريكية لعام 2020 أو بعدها. وحتى ذلك الحين، فإن الفكرة هي الاستمرار في إصلاح القطاع الأمني بحذر شديد، وحماية الإدارة المدنية من الإطاحة، وإبقاء الجيش تحت السيطرة – خاصةً أمير الحرب الطموح في دارفور الجنرال محمد حمدان دجالو (المعروف باسم هيميتي). وبعبارة أخرى، حصل السودان حتى الآن على وعود من الولايات المتحدة تفوق المساعدة الفعلية.
وتتمثل المشكلة في هذه السياسة في افتراضها بأن الوقت يعمل لصالح واشنطن. وإذا كان الاقتصاد العالمي مزدهراً وكان السودان يتخبط في أرقام اقتصادية متواضعة، فربما يكون هذا النهج ناجحاً. إلّا أن واشنطن تخاطر بتحقيق عكس نتائجها المرجوة من خلال السماح للحكومة الحالية بفقدان مصداقيتها على أمل إبقاء حميدتي بعيداً، ومن خلال التلويح بأمل الإغاثة الاقتصادية المستقبلية التي لن تصل أبداً بشكل كامل (نظراً لواقع المساعدات المفرطة التي تقدمها الحكومات الأجنبية وعوامل أخرى). وبدلاً من قيام حكومة مدنية تتمتع بالسلطة والليبرالية والإنسانية وتملك سجلاً إيجابياً منذ عام 2019، يمكن أن تؤدي السياسة الأمريكيّة الحاليّة إلى تشكيل حكومة فاشلة فاقدة لمصداقيتها تضمن وصول نظام حميدتي أو ما هو أسوأ بكثير – ربما قيادة تَلِفْ طغيانها مجدداً في عباءة الإسلام السياسي. وحتى لو كان مستقبل السودان، للأسف، جنرالاً جديداً على ظهر جواد، فيمكن تقييد مثل هذا القائد إذا تولى السلطة من حكومة انتقالية ناجحة إلى حد معقول بدلاً من كارثة أخرى.
لذلك، على واشنطن أن تتحرك بسرعة وليس ببطء فيما يتعلق بالسودان. وبقدر الإمكان، يجب أن تكون الإغاثة في مقدّمة الخطوات المتخذة من أجل إعطاء المواطنين السودانيين أملاً ملموساً. بالإضافة إلى ذلك، على حلفاء الولايات المتحدة في المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة إجراء حوار مباشر حول الكيفية التي يمكن أن يكونوا بها أكثر صراحة في مساعدتهم الخاصة لحكومة حمدوك. على واشنطن أن تُحذِّر كل من هاتين الدولتين وخصميهما في قطر وتركيا من أن السودان أصبح الآن يشكل أولوية أمريكية، وليس لعبة أخرى بين أيديهم في صراعهم الإقليمي الطاحن. إن إعطاء الأولوية للمبادرات التي ترضي الناس وتوفر الإغاثة على المدى القصير والمتوسط هو الطريق المناسب للمضي قدماً، وليس المشاريع الفخمة الطويلة الأجل التي قد لا تتحقق أبداً.
من السهل شطب السودان [من قائمة الدول التي يمكن إصلاحها]، وهي الوريث لإرث تاريخئ قاتم، والواقعة في براثن توترات سد النيل بين الجارتين مصر وإثيوبيا. ولكن نظراً لليأس العميق والطريق المسدود الذي وصلت إليه معظم بلدان العالم العربي، من المهم أن تفعل واشنطن كل ما في وسعها اليوم – وليس لاحقاً – لضمان بروز السودان كبلد متسامح يقوده مدنيون وليس دولة فاشلة أخرى. ولن يكون ذلك أفضل بالنسبة للولايات المتحدة فحسب، بل لمنطقة متعطشة لقصص النجاح النسبي في خضم الظلام السائد فيها أيضاً.
ألبرتو فرنانديز نائب “رئيس معهد الشرق الأوسط لبحوث الإعلام” (“ميمري”). وشغل سابقاً منصب القائم بالأعمال الأمريكي في الخرطوم في الفترة من 2007 إلى 2009، ومسؤول مكتب السودان في “وكالة الإعلام الأمريكية” من 1990 إلى 1992.
المصدر: معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى