ضد التشاؤم: سورية موحدة دولة وشعبًا

طلال المصطفى

بعد نجاح النظام السوري ومعه بعض التنظيمات الراديكالية في حرف الثورة السورية عن مسارها، وتحويلها من ثورة حرية وكرامة وعدالة، إلى حرب سورية داخلية ذات طابع ديني مذهبي وطائفي، إضافة إلى أبعادها الإقليمية والدولية، شهدت سورية -في السنوات التسع الأخيرة- أكبر تدخلات عسكرية خارجية دولية في التاريخ الحديث.

واستنادًا إلى ما يسمى “الانتصارات العسكرية” التي أنجزتها ميليشيات النظام السوري مدعومةً من القوات الروسية والإيرانية وميليشيا “حزب الله” اللبناني؛ برزت في الآونة الأخيرة بعض التحركات السياسية الدبلوماسية الروسية، لإنجاز ما يسمى “الحل السياسي” للقضية السورية، على حد تعبير الدبلوماسية الروسية، في خطوة يائسة لتفادي آثار قانون العقوبات الأميركي” قيصر” على النظام السوري وحلفائه، إضافة إلى تحركات سياسية سورية أخرى، تشير إلى التوجه السياسي نحو الفدرالية السورية، التي ربما تهيئ المناخ الاجتماعي والسياسي السوري لمزيد من تأجيج النزعات الطائفية والمذهبية مستقبلًا، التي تفضي إلى شكل من أشكال التقسيم لسورية فيما بعد.

أولى هذه المؤشرات السياسية لقاء رئيس البعثة الروسية لدى مكتب الأمم المتحدة في جنيف، بوفد من الشخصيات العلوية، بتاريخ 15 حزيران/ يونيو 2020، لم يُعلن أحد أسماءها سوى المحامي عيسى إبراهيم مستشار حركة الشغل المدني، والدكتور محمد الأحمد، ولم تُعرف هوية هذه الشخصيات أهي معارِضة للنظام السوري أم موالية له، وأهمّ ما تضمنه اللقاء الحديث عن دولة الأقاليم السورية، في عهد الانتداب الفرنسي الذي تضمن اتحاد دولة دمشق، دولة حلب، دولة العلويين، دولة الدروز. من خلال دعوتهم إلى دولة لامركزية ذات طابع ديمقراطي علماني، يحقق إدارة جيدة للتنوع المناطقي (الطائفي)، الاثني، الديني. واعتماد تجربة الاتحاد الروسي نموذجًا يحتذى به. ثم ظهر حديث عن تلقي بعض شخصيات الوفد العلوي تهديدات بالاغتيال، من قبل عائلة الأسد التي تخشى فقدان مكانتها كممثل أوحد للطائفة العلوية، حيث عُدّ اللقاء تجاوزًا للخطوط الحمراء.

المؤشر الثاني يتعلق بلقاء ميخائيل بوغدانوف (نائب وزير الخارجية الروسي) بالسيد معاذ الخطيب، في الدوحة بتاريخ 23 حزيران/ يونيو 2020، ممثلًا عن حركة (سوريا الأم) التي تضم شخصيات دينية إسلامية واقتصادية دمشقية، والحديث عن آفاق الحل السياسي في سورية، ومن ضمنها مسألة اللامركزية السورية وإمكانية التعامل معها في المستقبل، والحديث عن عدم التوافق حول الحل السياسي الروسي المطروح.

المؤشر الثالث برز في التوجه الروسي لتشكيل جيش سوري موحد في الجنوب، من بقايا الفصائل المعارضة التي أنجزت “المصالحات” بالرعاية الروسية، وخاصة الفيلق الخامس والاصطدامات العسكرية المباشرة مع الفرقة الرابعة والميليشيات الإيرانية، والحديث عن إمكانية تأسيس ما يسمى “الإقليم الجنوبي السوري” تحت المظلة السياسية والعسكرية الروسية.

المؤشر الرابع لوحظ في الحوار الكردي-الكردي، بين حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) والمجلس الوطني الكردي، برعاية أميركية-فرنسية، والحديث عن الفدرالية السورية وإمكانية الانفصال وإعلان الدولة الكردية في المستقبل. وقد قابل ذلك تشكيلُ تحالف عربي ديمقراطي في الجزيرة والفرات، وقّع بيانه التأسيسي أربعمئة شخصية سياسية واجتماعية وثقافية، عبّرت عن رفض التحرك الكردي الانفصالي، وقابله كذلك بيانُ الأمانة العامة للتجمع الوطني العربي، في المنطقة الشرقية (الحسكة، الرقة، دير الزور) بتاريخ 11 تموز/ يونيو 2020، الذي طالب بإخراج ميليشيا (قسد والأسد) من المنطقة، وبإعادة النظر في وجود المجلس الوطني الكردي في صفوف الائتلاف الوطني السوري، بسبب توجهاته الانفصالية.

المؤشر الخامس جاء في إعلان ناشطين سياسيين، من محافظة الرقة، تشكيلَ “حركة استقلال الجزيرة”، والدعوة إلى تشيل كيان سياسي مستقل، كدولة شرق الفرات، من خلال الإعلان عن حق تقرير المصير لسكان الجزيرة وحوض الفرات مجتمعين، بغض النظر عن عرقهم وإثنيتهم ودينهم وثقافتهم.

المؤشر السادس لوحظ بإعلان الحكومة السورية المؤقتة التعامل بالليرة التركية، في المناطق السورية التي يسيطر عليها “الجيش الوطني السوري” المدعوم من تركيا.

وبغض النظر عن مدى فاعلية بعض هذه المؤشرات السياسية في الحراك السياسي السوري الفعلي، على الصعيد السوري، الإقليمي والدولي، فإنها تدعو إلى التشاؤم بخصوص مستقبل سورية، دولة وشعبًا.

وفي الوقت الذي برزت فيه هذه التوجهات السياسية الملغمة بالتفكيك للدولة السورية، حضرت نتائج دراسة ميدانية أنجزها قسم الدراسات في مركز حرمون للدراسات المعاصرة، على عيّنة من الشباب السوري بلغت (800) مفردة، في مناطق وجود السوريين كافة[1]، وتدلّ الدراسة على مؤشرات سياسية وطنية تدعو إلى التفاؤل، في وجه التشاؤم السائد في الأوساط السورية، ويمكن للتيارات السياسية السورية المعارضة الاهتداء بها، في توجهاتها السياسية المستقبلية للحفاظ على وحدة سورية، دولة وشعبًا، فقد أكد الشباب السوري (عينة الدراسة) الحفاظ على اسم “الجمهورية العربية السورية”، لدولة سورية بالمستقبل، إضافة إلى اعتبار الشعب السوري متعدد القوميات ومستقلًا بذاته، وفي الوقت نفسه، هو جزء من العالم الإسلامي والعربي.

وأكد أفراد الدراسة أهمية بناء هوية وطنية سورية واحدة للسوريين كافة، تستبعد الأيديولوجيات والأديان والقوميات كافة، وفي الوقت نفسه، تلتزم بالشرعية الدولية وبحقوق القوميات الأخرى، أي أن المطلوب هو هوية دولة المواطنة التي تقوم على مبادئ الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وسيادة القانون وبناء المؤسسات، والابتعاد عن الفئوية الطائفية والمذهبية والجغرافية، وفي الوقت نفسه، تحافظ على وحدة جغرافية سورية المتعارف عليها بحدودها السياسية قبل 2011، وقد بدا ذلك جليًا من خلال رفض أغلبية الشباب السوري، عينة الدراسة، قيام دولة كردية مستقلة، أو أي كيان انفصالي في سورية، وفي الوقت نفسه، وافقوا على منح القوميات غير العربية الحقوق الثقافية واللغة والتعليم. وكذلك فضلت عينة الدراسة من الشباب السوري خيار اللامركزية الإدارية في وجه الفدرالية السياسية، لكونها تتيح إمكانية حل الصعوبات التي تواجه التنمية في المدن الطرفية والهامشية في سورية، وهذا يعني الرفض المسبق لأي خيار انفصالي في سورية.

وفضّل الشباب السوري نظام الحكم البرلماني، لأنه مرتبط بمرحلة الديمقراطية الذهبية في الخمسينيات، مقارنة بالاستبداد المُمارس باسم النظام الرئاسي من قبل البعث. ودعوا إلى الاتجاه نحو بناء سورية، دولة مدنية ديمقراطية تعددية ذات خصوصية سورية، ورفض سورية كدولة استبدادية بأوجهها المتنوعة (قومية بعثية، أو اشتراكية، أو إسلامية راديكالية)، والقبول بسورية دولة وطنية ديمقراطية تحترم تعدد الأديان والمذاهب الدينية كافة، لا دولة تُعلي من شأن بعض المذاهب الدينية على الأخرى، بل دولة يحمي دستورها تعدد الآراء الفكرية والسياسية كافة، لا دولة تعدّ التنوع والاختلاف جريمة وخيانة، والتجانس حالة صحية، اجتماعيًا وسياسيًا، كما هو حاصل في دولة الأسد الاستبدادية، دولة تحترم الهويات الفرعية السورية كافة، ومن ضمنها الهويات ذات الطابع القومي، ضمن إطار الهوية السورية الجامعة التي يُفترض أن ينتجها ويعتمدها السوريون كافة، لا دولة تعتمد إعلاء بعض الهويات الفرعية فوق الأخرى.

أن مقارنة أولية، بين نتائج هذه الدراسة وشعارات الثورة السورية في أشهرها الأولى لعام 2011، تُظهر التطابق الكبير بينهما، وهذا مؤشرٌ على رسوخ ثقافة الثورة في ذهنية الشباب السوري، إلى الآن، بالرغم من كل المحاولات التي بذلها النظام السوري والتنظيمات الراديكالية وقوى الأمر الواقع، بهدف إعطاب ثقافة الثورة لدى الشباب السوري، والتي ربما نجحت لدى بعض من يتصدر قيادة المعارضة السورية.

أخيرًا، يجب على السوريين كافة القيام بأمور كثيرة في سورية التي ما زالت تحت وطأة حرب مركبة (داخلية وخارجية) دمّرت كل شيء فيها تقريبًا، منذ تسع سنوات وما زالت، وأول هذه الأمور العودة إلى ذواتنا السورية بالدرجة الأولى، وعدّ ثقافة الشباب السوري الوطنية، التي برزت في نتائج دراسة مركز حرمون، بوصلةَ العمل السياسي لسورية المستقبل.

المصدر: مركز حرمون للدراسات المعاصرة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى