مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية (نوفمبر/ تشرين الثاني المُقبل)، ومع اشتداد الحملة الانتخابية في هذه الآونة، تصبح مواقف المُترشّحين أكثر التصاقاً بدولة الاحتلال، وقد لوحظ أنّ دونالد ترامب، الذي خصّص، من قَبْل، حيّزاً ضيّقاً لمحاباة تل أبيب في حملته، قد أخذ يعلن مواقف، من قبيل أنّه سيلجأ إلى سحق احتجاجات الجامعات المؤيّدة للعدالة في فلسطين ما إن يعود إلى البيت الأبيض مُجدّداً، فيما يتعرّض جو بايدن، لقاء خلافاته التكتيكية المحدودة مع بنيامين نتنياهو، لحملة من أوساط هذا الأخير، عنوانها؛ تفضيل تل أبيب منافسه عليه، وذلك، من أجل الضغط عليه لاتّخاذ مواقفَ أكثر تطابقاً مع حكومة نتنياهو، ومع حرب الإبادة على غزّة، وقد بدأت تؤتي هذه الحملة ثمارها، في دفاع كبار الناطقين الأميركيين عن اقتحام مدينة رفح، واستهداف المدنيين فيها، بالقول إنّ العملية ما زالت محدودةً، علماً أنّ هذه المدينة محدودة في مساحتها، إذ تبلغ نحو سُدس مساحة قطاع غزّة، لكنّها ضمّت أكثر من نصف عدد سكان القطاع، عشية الهجوم عليها في وقت سابق من مايو/ أيّار الماضي. وهذا الوصف بمحدودية العملية، على دفعات وبالقصف من البرّ والجوّ، جاء بعدما عبّر البيت الأبيض عن “حزنه” لاستهداف خيام النازحين، حزن مزعوم أقرب إلى دموع التماسيح، إذ لا يترتّب عليه أيّ أثر سياسي.
ومن المُقدّر أن يتواصل اقتراب المُترشّح بايدن من محدّدات سياسة نتنياهو في الأشهر الباقية، إذ رفض المُترشّح الديمقراطي، الرئيس الحالي، سماع أصوات مئات الموظّفين والمسؤولين في الخارجية، وفي مواقع رسمية، كما رفض سماع أصوات الأجيال الشابّة في الحزب الديمقراطي، فضلاً عن المحتجّين في الشوارع من مختلف الفئات، بمن فيهم أميركيون يهود، تدعو إلى وقف الحرب على غزّة، مفضّلاً الإصغاء للمنظمّات الصهيونية الناشطة والتقيّد برؤاها، ما يجعل بايدن أسوأ رئيس ديمقراطي في تعامله مع “أزمة الشرق الأوسط” منذ نحو ربع قرن، وذلك، مقارنة بالرئيسين الأسبقين بيل كلينتون وباراك أوباما. وقد حسم الرجل الأمر حين كشف عن وجهه الأيديولوجي بإعلان صهيونيّته، ما جعله رئيساً مُطيعاً للمحافل الصهيونية، ومن غير أن يتورّع عن رعاية حرب الإبادة، ما يجعل الهوّة واسعة بينه وبين كلينتون، الذي أوقف حرب الإبادة في البلقان في أواخر التسعينيات. كما لا يتورّع الرجل الثمانيني عن النيل من الأمم المتّحدة، ممثلة بوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، ومحكمة العدل الدولية، وهو ما سوف يحفّز زعماء آخرين في عالمنا للتمرّد على الشرعية الدولية، اهتداءً بـ”المسار السليم” لسيّد البيت الأبيض، قائد الدولة العظمى.
وبينما ارتبطت السياسة الأميركية منذ العام 2001 بمكافحة الإرهاب، فإنّ جو بايدن لا يتردّد، ومن دون أدنى ذرّة خجل، في دعم إرهاب الدولة الإسرائيلية ضدّ المدنّيين، ومرافق الحياة المدنية، وانتهاكها لسائر القوانين الدولية الإنسانية، والاستبسال من أجل منع محاسبتها، وبما يهدم حقّاً قواعد السياسة الدولية والنظام الدولي، ومن ذلك، تحويل مجلس الأمن منذ أكتوبر/ تشرين الأول الماضي مجلسَ حربٍ، وذلك، إرضاءً لشركائه في تل أبيب، ومن يمثّل هؤلاء في الولايات المتّحدة. والسيئ في ما تقدّم أنّ تراجع بايدن عن سياسات اعتمدها الديمقراطيان كلينتون وأوباما يوازيه تراجعٌ في الموقف العربي الرسمي، فبينما يوصف سلوك دولة الاحتلال بأوضح العبارات في بيانات القمم العربية، إلا أنّ إجمالي الموقف العربي الرسمي ينطق بأنّ الدولة المحتلّة والغاشمة باتت من “ثوابت” المنطقة، وأنّه محظور، بالتالي، المساس بالعلاقة معها، رغم ما ترتكبه من فظاعات، ورغم تنصّلها الصارخ من مقتضيات السلام. وهذا ما يُفسّر الإجراءات الرمزية الطفيفة، التي اتُّخذت في حقّ تل أبيب. وفي مثل هذه البيئة السياسية، فإنّه ليس من المُستغرب أن تجنح الإدارة الأميركية، وتشتطّ، في رعاية حرب الإبادة وإدامتها، ما دام أصحاب العلاقة في المنطقة، ليسوا في وارد اتّخاذ إجراءات تتماشى مع جسامة الجرائم الإسرائيلية وتكرارها. إنّ إجراءات مثل الحدّ من العلاقات وتقليصها كانت، ولا تزال، تؤدّي إلى نتائج باهرة، وبما يفوق النتائج المرجوّة من جولات لجنة الاتصال الوزارية، واجتماعاتها هنا وهناك. إنّ تصليب الموقف العربي باتجاه اتخاذ إجراءات ملموسة، من شأنه أن يشكّل عنصراً حاسماً لوقف الحرب، وسبق لوزير الخارجية التركي هاكان فيدان، الذي قطعت بلاده علاقاتها التجارية مع تل أبيب، أن صرّح خلال الأسابيع الأولى من الحرب، بأنّ أنقرة على استعداد للنظر في اتّخاذ موقف جماعي ضدّ حكومة نتنياهو، ولم يلقَ آنذاك تصريح المسؤول التركي الصدى المأمول، وكانت النتيجة هي محافظة التوحّش الإسرائيلي على وتيرته، مع استمرار الخطاب العربي الرسمي المُعترض على الحرب والداعي لوقفها، وسط تجاهل أميركي مُطّرد لهذه الدعوات، ورغم العلاقات الوثيقة، التي تربط واشنطن بعدد كبير من العواصم العربية. لكنّ واشنطن تُرجّح علاقتها مع تل أبيب على علاقاتها العربية مجتمعة.
وبالإشارة إلى مواقفَ أقلّ سوءاً لكلينتون ولأوباما، من المفيد التذكير بأنّ الأطراف العربية الرسمية كانت، آنذاك، أشدّ حزماً في موقفها من دولة الاحتلال، وتقرن أقوالها بالأفعال. ولهذا، تتضاءل فرص كبح نتنياهو لوقف حربه المسعورة على المدنيين، بفعل ضغوط خارجية؛ أميركية وأوروبية وعربية، فيما يبقى الرهان معقوداً على انعكاس صمود المقاومة على التجاذبات الإسرائيلية الداخلية، وعلى حركة الاحتجاج في الشارع الإسرائيلي، فالجيش هناك يكتم خسائره البشرية، غير أنّ الجمهور بات يعرف حجم هذه الخسائر، كما يدرك مدى الخسائر التي لحقت بالاقتصاد، فضلاً عن انكشاف زيف المظلومية الإسرائيلية المزعومة (الاحتلال مظلوم من الشعب الرازح تحت الاحتلال) فيما يبدو كلٌّ من بايدن وترامب أنّ كلاً منهما أسوأ من الآخر في نظر قطاعاتٍ تتنامى في المجتمع الأميركي، إذ إنّ كليهما يتنافسان على تبنّي حرب الإبادة ورعايتها، وحتَّى تشجيع قادتها، رغم الإدانات الواسعة من أكبر هيئتَين قضائيتَين دوليتَين؛ محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، وسط تهديداتٍ يتعرّض لها القضاة، ليس من تل أبيب فحسب، بل من مُشرّعين في الكونغرس، بما يُزيل الفوارق بين رجال المافيا وهؤلاء.
المصدر: العربي الجديد