دخلت إسرائيل رفح بريّاً، وتحوّلت التهديدات إلى واقع مُجسّد، يزيد التحدّيات الإنسانية والسياسية نزوحاً جديداً لن يقتصر على سكّان شرق المدينة، التي هُجّر منها 150 ألفاً حسب بيانات الأمم المتّحدة، بينما أعلن جيش الاحتلال تهجير ضعفهم، وبعودة القصف إلى وسط قطاع غزّة، ومطالبة سكّان بعض مناطق الشمال بالإخلاء، سيزداد النزوح الداخلي، ومع إحكام السيطرة على معبر رفح وإغلاقه، تترتّب تأثيرات على مجمل القطاع؛ يتوقّف عبور الأفراد، وتتقلّص المساعدات الإنسانية، ما يجدّد أزمتَي الفوضى والجوع، خاصّة مع استمرار تعطيل عمل “أونروا”، واستهداف مبادرات توزيع المساعدات.
تُعيد العملية في رفح الحرب إلى مرحلتها الأولى، بما في ذلك استهداف المراكز الصحّية ومحيطها؛ إخلاء مستشفى يوسف النجار، واستهداف محيط مستشفى الكويتي في رفح والإندونيسي في شمال القطاع، بينما يعجز قطاع صحّي، تعمل مستشفياته جزئياً، عن الصمود في ظلّ نقص الوقود، وتبدو بطولة الطواقم الطبيّة غير كافية أمام نقص مستلزمات العلاج، بالتزامن مع تكدّس النازحين غرب رفح (ما يقارب مليوناً ونصف مليون في منطقة المواصي)، يواجهون مخاطر انتشار الأمراض والأوبئة، في ظلّ نقص الغذاء والماء، عدا استحالة نقل المرضى إلى خارج القطاع للعلاج، وهذا كلّه ينذر بكارثة صحية، ربما لا يُلتفَت إليها كثيراً، رغم قسوتها، مقارنة بعمليات القتل المتواصلة تحت القصف. بجانب ما يكشفه الهجوم على رفح، من تأزّم الأوضاع الإنسانية، هدفاً مستمراً للحرب، دخلت إسرائيل في مواجهة شاملة، حتّى ضدّ الوسطاء، استكملت الهجوم على قطر، ووضعت مصر في مأزق، ولم تأخذ على محمل الجدّ تحذيرات بأنّ الهجوم سيحمل تبعات تؤثّر في العلاقات مع القاهرة، وسيضرّ باتفاقية السلام، التي يمنع مُلحقها الأمني، وجود قوّات وآليات عسكرية شرق رفح.
ويشير المشهد إلى أنّ ثمّة تغيّراً جرى خلال ثلاثة أشهر مضت من التفاوض، جعل لهجة القاهرة تنتقل من التحذيرات مُرتفعة اللهجة، بشأن الأمن القومي واحترام الاتفاقيات، إلى المطالبة والمناشدة بضبط النفس، ويُؤكّد موقف القاهرة المُفاجئ لبعضهم، أنّ اتفاقيات السلام (وكلّ الاتفاقيات) مرهون تنفيذها بموازين القوى، ومصالح وتقديرات أطرافها، وبنية السلطات التي تقوم على ضمان سريانها، لذا؛ جاء دخول رفح، حتّى مع أنباء موافقة أميركية على عملية محدودة وإبلاغ مصر، مرتبطاً بتفاهمات بين الأطراف الثلاثة، واشنطن والقاهرة وتل أبيب. لكنّ الأخيرة حرصت على إعلان الاجتياح بشكل استعراضي، زفّ بنيامين نتنياهو الخبر بوصفه نصراً، قائلاً إنّهم رفعوا الأعلام الإسرائيلية عند معبر رفح، وقال في 12 مارس/ آذار، أمام لجنة الشؤون الأميركية الإسرائيلية (أيباك)، “سندخل رفح ونحقق النصر الشامل”. تنفيذ حكومة الحرب وعودها بدخول رفح يدفع إلى التساؤل، مصرياً، عن معنى الخطوة المُتجاوَزة، وهل دور القاهرة وسيطاً يُكبّلها ويدفعها إلى الصمت؟ وأين ذهبت خطابات السلطة وأنصارها بشأن تحذيرات من تجاوز خطوط حمراء، ووجود قوّات عسكرية على الحدود، والسيطرة على محور صلاح الدين، ودفع النازحين للتهجير؟… لكنّ تل أبيب تختبر عملياً ردّة فعل القاهرة، وتضع تقديراً بأن التهديدات لن تتحوّل إلى أفعال. وعملياً، كان ردّ الفعل الرسمي، المطالبة بضبط النفس والعودة إلى التفاوض من أجل هدنة، والتحذير من عواقب الخطوة.
ومع سعيٍ إلى استمرار التفاوض، لم تتأثّر إسرائيل، في الوقت نفسه، من تحذيرات مصرية، ولا بأيّ نداءات دولية، حتّى من حلفائها، تتقدّمهم الولايات المتّحدة، التي تحفّظت سابقاً على دخول رفح، وطالبت بالاكتفاء بعمليات نوعية لمواجهة “حماس”، وتقيس تل أبيب مدى المساندة الأميركية، من خلال قاعدة الأهداف المشتركة للطرفيْن؛ ضمان أمن إسرائيل، بما في ذلك مواجهة “حماس”، ولعب دور قيادي في المنطقة والسيطرة عليها. ولا تمنع مناوشات كلامية بين الطرفيْن، تحمل تبادلاً للنصح أحياناً، تأكيد الإدارة الأميركية دعم أهداف الحرب، لكن يظهر، أيضاً، في المشهد، أنّ إسرائيل أصبحت مشروعاً سياسياً وعسكرياً يمتلك استقلالية نسبية، وليست كما صُوّر تاريخياً، مُجرّد مخلب استعماري تابع لحلفائه، وهو الوضع الذي يحاول تأكيده نتنياهو باستدعاء التاريخ، ردّاً على تخفيض إمداد الأسلحة الأميركية، قائلاً إنّ إسرائيل قاتلت بمفردها عام 1948، ومستعدّة لأن تقاتل بأظافرها. سردية تأسيس إسرائيل، التي تُستدعى، رسالة إلى واشنطن ودول أوروبية، وللقاهرة أيضاً، ضمن عملية رفح، وتذكيرٌ بمحطّاتِ السيطرة على المنطقة خلال عدواني 1956 و1967، وضمن ذلك بثّت، عن قصد، مشاهد وصول الدبابات إلى معبر رفح، وانتشار الإعلام الإسرائيلية، بعضها بأحجام ضخمة تُرى من الحدود المصرية، وأيضاً، تذكير قادة المقاومة بأنّ غزّة يمكن أن تعود إلى ما قبل 2005، نوعاً من التهديد يتزامن مع طرح سيناريوهات محتملة بشأن مستقبل القطاع. سعت إسرائيل إلى السيطرة على الحدود والمعابر وتأمينها لكيلا تتكرّر هجمات السابع من أكتوبر (2023)، بما في ذلك تطويق القطاع كلّه، والسيطرة على الحدود مع مصر.
وبدخول رفح، تحاول حكومة نتنياهو إعلان نصر سياسي أداته السيطرة الميدانية، وتأكيد أنّ أهدفها لن تكتمل من دون تمدّد العمليات العسكرية جنوباً، وهذا يزيد مفاتيح القوّة، ويهدّد باستمرار الحرب، وربما يكون الهجوم، أيضاً، تكتيكياً يصوّر وقف العملية أو تخفيض مستواه، ومطلباً حالياً، ومكسباً، واستجابة تستحقّ أن تتلقى عليها تل أبيب مقابلاً في جولات التفاوض، وواضح أنّ الهجوم على رفح، كان رسالة إسرائيلية بأنّ ملفّ الرهائن، لن يصبح العامل الأساسي في تحديد مسار العمليات العسكرية، وأن حكومة الحرب لا تُرغَم على التفاوض. وعموماً، لم يكن الوصول إلى هذا المشهد من دون صمت على مراحل سابقة، كانت إسرائيل فيها حرّة التصرف، ومن دون ضغوط عربية حقيقية، حتّى ولو بإعلان تهديد بقطع العلاقات، هذا يتكامل مع سعي أطرافٍ للتعاون والقبولِ بدورٍ قياديّ لإسرائيل أخذ شكل التراضي تحت لافتات التطبيع، واستُكمِل بالتسليم بفرض القوّة في مشهد الحرب.
وإجمالاً، بدخول رفح، الأوضاع الإنسانية مرشّحة للتفاقم، خاصّة مع سيناريو استمرار الحرب أشهراً قادمة، وألا تكون رفح محطّة نهائية لها، وهذا مُحتمل، وشواهد عودة الهجمات في الشمال والوسط، وعدم امتلاك إسرائيل فيما يبدو خططاً واضحة سوى الانتقام، يتضح يوماً بعد آخر. ومع الاحتمال الثاني؛ عقد هدنة من خلال جولات التفاوض، ستكون رفح أداة ضغط على كلّ الأطراف، ولا يبدو انسحاب قوّات الاحتلال قريباً، خاصّة من الحدود والمعابر، التي يحاول الاحتلال تنفيذ مخططات للسيطرة عليها بحراً وبرّاً بشكل دائم ومشدّد، بما فيها مناطق الحدود مع مصر، ما يعني أنّه من دون انتهاء الحرب والانسحاب الكامل، تدخل القاهرة في تحدّ حقيقي، وربما ستشهد العلاقات المصرية الإسرائيلية منحنى جديداً، تحاول تل أبيب تجريب ممارسة الضغوط، بينما تحاول القاهرة إن لم يصل التفاوض إلى هدنة، أن تردّ، ربما بنشر قوّاتها أيضاً، وإن كانت إسرائيل تراهن على عدم خسارة مصر، في ضوء عوامل منها وضعها وسيطاً، وارتباطاتها الدولية، ونهجها في التحرك الهادِئ والحَذِر، للحفاظ على العلاقة مع كلّ الأطراف، وتجنب تبعاتٍ ذاتِ تأثير سالب على مستوييْن؛ اقتصادي وأمني.. رغم هذه العوامل التي تراهن عليها إسرائيل، فإنّ الوضع القائم يضغط على النظام، في الوقت ذاته، وهو النظام الذى قدّم نفسه البديل الوحيد لإدارة البلاد في وضع مُضطرب، وحرب غزّة تختبر فعلياً قدرته في إدارة الأزمة.
المصدر: العربي الجديد
قد لا يعبر هذا المقال عن رأي الموقع