دأبت السياسة الروسية خلال السنة الفائتة على الاشتغال دوليًا وإقليميًا، بالتوازي مع ما حققته من توسعة رقعة سيطرة النظام السوري على مساحات جديدة من الجغرافيا السورية، بدعم ملموس منها، على المطالبة والضغط من أجل ما أسميته سياسة إعادة إعمار سورية التي هدمتها الحرب.
وقد حاولت ضمن كل السبل المتاحة من أجل إقناع الجانب الأميركي وكذلك الأوروبي، وأيضًا بعض العربي، على الانضمام إليها بل تمويلها من أجل (إعادة بناء سورية)، بعد أن قامت هي ومن معها من إيرانيين وميليشيات طائفية، وكذلك نظام الإجرام الأسدي، بتهديم البنية التحتية السورية برمتها، علاوة على ما قامت بتهديمه من بنية مجتمعية ونفسية سورية، أضحت في حالة غير غائبة، من التفكك والتشظي الأثني والطائفي، ما كان بالإمكان أن يكون، لولا سياسة العدوان والقتل الممنهج المتبعة من حلف الشر في الساحة السورية ضد السوريين، أهل الحرية والكرامة.
وبالطبع لم تقبل أميركا، ولا الغرب، ولا بعض العرب، المساهمة بإنجاز سياسة مدَّعاة لإعادة الإعمار، بينما المراد أساسًا هو إعادة تأهيل وتدوير النظام/ العصابة، بعد أن قتل ما ينوف عن مليون سوري، وهجر أكثر من نصف الشعب السوري بين الداخل والخارج، وأوصل الوطن إلى أن يصبح شعبه الديناميكي والنشط ينتظر المساعدات الانسانية، وبعد أن تجاوزت عتبة خط الفقر في سورية نسبة 80 بالمئة، والفقر المدقع حسب التصنيف العالمي حاجز ال 50 بالمئة، وهو مالم يحصل بتاريخ سورية، ولا في تاريخ المنطقة برمتها. وكانت الإدارة الأميركية ومازالت تصر ومعها المجتمع الدولي، على رفض سياسة إعادة الإعمار الروسية قبل أن يبدأ النظام في العملية السياسية التي نصت عليها قرارات الأمم المتحدة، ومسار جنيف، المتوقف عسفًا وبفعل فاعل من النظام والروس، والاستعاضة عنه بمسار أستانا سيء الذكر، الذي راح يساهم في قضم المساحات السورية كسرة إثر كسرة، حتى وصلنا إلى ما نحن عليه من مساحات ضيقة جدًا في إدلب وبعض ريف حلب.
ويبدو أن الاتحاد الروسي أدرك أنه، ورغم التمنع الغربي عن المساهمة في انتاج إعادة الإعمار، ومن ثم البدء بتنفيذ قانون قيصر، الذي يساهم هو الآخر في منع التعامل أو السماح بالبدء في أية إعادة إعمار في سورية، بل المطلوب كما أشار الأميركان، هو تغيير سلوك النظام السوري أولًا، أي القبول بمسار جنيف والبدء في مراحله. ضمن سياسة المصلحة الأميركية المبتغاة في المنطقة، وليس كرمى لعيون الشعب السوري، وهي مسألة بديهية إذ لا يوجد سياسات دول تخدم شعوب أخرى، إلا وفق مصالح برغماتية تعود بالنفع أولًا وآخرًا على مصالحاها هي وليس تلك الشعوب.
من هنا فقد راح الروس يمارسون الضغط على الأميركان والغرب، وكذلك على الضامن التركي الثالث، عبر سياسة جديدة هي منع وصول المساعدات الإنسانية (المقررة أمميًا) إلى الشعب السوري في الشمال، وحصر ذلك في معبر واحد ولمدة ستة أشهر، قد لا تكون قادرة على التمديد لنفسها بعد ذلك. وليس هناك من أية مسؤولية إنسانية روسية، أو ضمير إنساني، يمكنه أن يتحرك جراء وجود شعب تجاوز عديده 4 ملايين، يُحرم من المواد الغذائية والدوائية، وهم بذلك أي الإدارة الروسية ومعها الصين، يمارسون الضغط (المساوم) مع الغرب، في سياق العمل على تجميد قانون قيصر من جهة، وإعادة تأهيل النظام، وإعادة التفكير في مسألة الإعمار حيث الفائدة الروسية الاقتصادية أولًا.
يأتي ذلك بعد مؤتمر (بروكسل) الخاص بدعم ومساعدة الشعب السوري، حيث يربط من جهته، الاتحاد الأوروبي بعد مؤتمر “بروكسل 4” في 30 حزيران/يونيو، إعادة إعمار المدن المدمرة والتي ستكلف مليارات إضافية من الدولارات، بالانتقال السلمي للسلطة والحل السياسي بعد أن قدمت الدول المساهمة 5.5 مليار دولار في عام 2020 ومنح 2.2 مليار دولار في عام 2021 وما بعده.
إضافة إلى الموقف الأميركي الواضح بهذا الشأن فقد سبق أن أشارت واشنطن على لسان المبعوث الأميركي الخاص لإيران (براين هوك)، في تصريح صحافي يوم 12 حزيران/يونيو حول عدم إقدام بلاده والدول المانحة بدفع فلس واحد في إعمار سورية، قبل خروج كامل الميليشيات الإيرانية منها. بينما يتوقع ترحيب بكين بالمغامرة وبحذر لفتح إعادة الإعمار في السوق السورية المتعطشة للاستثمارات إلى جانب شركاء كالإيرانيين والروس، بعد زيادة شدة النزاع المتصاعد بين بكين وواشنطن إبان تفشي جائحة كورونا.
كل ذلك وسواه من صراعات سياسية وجيوسياسية تترك أثرها السلبي المباشر بالضرورة على واقع السوريين في الشمال خاصة، وفي غير مكان من سورية، بعد أن بدأ الصراع البيني بين حلف إيران وحلف روسيا، بل أتباع هذا وذاك داخل بنية الجيش والأمن للنظام السوري، حتى بات كل ذلك يلقي بظلاله اليومية معاشًا بائسًا على لقمة العيش في سورية، وصولًا إلى ما هو أكثر فداحة من ذلك في المنظور القريب. وهو ما يصبر عليه الشعب السوري، على أمل أن يؤدي الواقع المؤلم، عاجلاً أم آجلًا إلى كنس الاحتلال الأسدي أولًا، ومن يقف إلى جانبه من احتلالات، نهبًا للوطن السوري وخيراته، وإلغاء للسيادة الوطنية التي باعها نظام الإجرام للروس والإيرانيين ومن يمكنه أن يشتري من دول أخرى.