تُفصح تجربة حزب البعث في سورية عن أشكال متعددة للتلازم بين الحزب والسلطة، هذا التلازم الذي يتخذ شكل القناع الأيديولوجي أحيانًا، حين يتعلق الأمر بالخطاب القومي والتعاطي مع القضايا العربية، سواء السياسية منها أو الفكرية، كقضية فلسطين والوحدة العربية والأمن القومي المشترك، وما إلى ذلك، وقد يتجسّد التلازم في أحيان أخرى بتحوّل الحزب إلى أداة وظيفية للاستثمار المباشر في مواجهة خصوم السلطة، وقد تجلّى هذا الشكل من الاستثمار في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، في إبان المواجهة الدامية بين جماعة الإخوان المسلمين والسلطة؛ إذ تحوّل حزب البعث حينذاك إلى ميليشيات قتالية رديفة للقوى الأمنية والجيش، كفِرق المظليين وعناصر الصاعقة، فضلًا عن المهام العسكرية التي يُكلَّف بها الأعضاء البعثيون، كحراسة المنشآت والمرافق الحكومية، أضف إلى ذلك المهام الأمنية التي تقضي بمهام المراقبة وكتابة التقارير الأمنية ورصد تحركات المواطنين في معظم الأنساق المجتمعية.
وقد تكرّر هذا الشكل من التلازم في عهد الأسد الابن، في إبان انطلاقة الثورة السورية في آذار 2011، حين بادرت السلطة إلى تشكيل (ميليشيا الدفاع الوطني)، وقوامها عناصر بعثيون وغيرهم ممن انتظموا في كيانات عسكرية، لمواجهة انتفاضة السوريين في معظم أنحاء سورية، وكذلك تشكّلت كتائب بعثية مسلحة في الفرق الحزبية في كلّ مناطق النظام، مارست مهام الحواجز الداخلية والحراسات، وشاركت في بعض الأحيان في أعمال قتالية موضعية، إلّا أن هذه الميليشيا المُستحدثة لم تبلغ الدور الذي حققته مثيلاتها في الثمانينيات، لوجود ميليشيات قتالية منافسة لها على الجغرافيا السورية، ونعني بذلك الميليشيات الطائفية التابعة لإيران، والتي تحظى بالدعم العسكري والمالي واللوجستي الهائل، الأمر الذي مكّنها من التغوّل والنفوذ أكثر من سواها. وعلى أية حال، فإن تعدد أشكال التلازم بين حزب البعث والسلطة يؤكّد على الدوام طبيعة الدور (الوظيفي) لحزب البعث، وأن هذا الجانب الوظيفي للحزب يتبدّل وفقًا لتبدّل وتغيّر حاجات السلطة الحاكمة، وما تواجهه من أزمات.
مع الأشهر الأولى لانطلاقة ثورة السوريين، بادر النظام عام 2012 إلى إلغاء المادة الثامنة من دستور عام 1973، والتي تقرّ بقيادة حزب البعث للدولة والمجتمع، وذلك ضمن مسعى الالتفاف على مطالب المتظاهرين، وإيهام الرأي العام بإجراء إصلاحات جدّية في بنية نظام الحكم، إلّا أن هذا الإجراء المُناوِر لم يغيّر من الأمر شيئًا، ولم يكن مقنعًا لأحد، لعلم الجميع بأن جوهر المشكلة السورية لا يكمن في الدستور (على الرغم مما فيه من مآخذ)، بل في سلطة تنفيذية متغوّلة ترى نفسها فوق الدستور وفوق أي مبدأ تشريعي آخر، بل يمكن التأكيد أن استمرارها في حكم البلاد قائم على انتهاك الدستور وما ينبثق عنه من قوانين، الأمر الذي عزّز القناعة لدى أكثر السوريين بأن وجود دستور جديد للبلاد لن يجسّد أي انفراجٍ للمشكلة بوجود سلطة باتت بنيتها الأمنية المزمنة على الفساد والإجرام عقيمة بل عصيّة على أي شكل من أشكال الإصلاح.
ولكن على الرغم من عدم جدوى أيّ إجراء دستوري من جانب نظام الحكم، بخصوص الحالة الحزبية، فإنه ما يزال مستمرًّا في تصدير خطاب إعلامي يوحي بمثابرة السلطة نحو إجراءات تنظيمية داخل حزب البعث، ويراد لهذا الدفع الإعلامي أن يُبقي القناعة لدى الآخرين قائمةً بوجود مسعًى جدّي لإصلاحات حزبية من شأنها أن تنعكس على الشأن العام في البلاد، فمن ذلك مثلًا الاحتفاء الإعلامي بانتخابات اللجنة المركزية للحزب قبل انطلاقتها بعدّة أشهر -بعد أن كان هناك نظام يسمّى “الاستئناس الحزبي”، عبر تسمية قيادة الحزب للأعضاء الذين ينبغي انتخابهم- وكذلك لقاء رأس النظام مع أعضاء اللجنة التحضيرية للانتخابات، وإعطائه توجيهات توحي بحرصه على أن تجري العملية الانتخابية بشفافية، فضلًا عن حرصه على إتاحة الفرصة لجميع الراغبين بالترشّح دون إقصاء، موازاةً مع الحرص على تعزيز مناخ ديمقراطي حاضن لتلك الانتخابات، وفقًا لحديث بشار الأسد. يضاف إلى ذلك المزيد من الأحاديث الإعلامية التي تتالى في الصحف الرسمية التابعة للسلطة ووسائل الإعلام الرسمية، عن ضرورة أن تحمل الانتخابات الجديدة معها مفاهيم جديدة ذات صلة بالانفتاح وقبول الآخر وتعزيز مفاهيم التنوّع والاختلاف وعدم الاستفراد بالقرار السياسي وسوى ذلك. فما الذي يدفع نظام الأسد إلى حرصه الشديد على تسليط الضوء على انتخابات حزبية، يعلم معظم السوريين أنها لن تغيّر من حقيقة سلوك السلطة شيئًا، كما أنها لن تؤثر في استفراد حزب البعث بالسلطة واستمراره في مصادرة السياسة ليس من الأحزاب الأخرى فحسب بل من المجتمع السوري برمته؟
وكانت القيادة القومية للحزب قد أُلغيت في عام 2018، وتبدّلت تسمية القيادة القطرية إلى القيادة المركزية، وأُلغي منصب الأمين القطري المساعد ليبقى منصب الأمين العام والأمين العام المساعد.
وفي كلمته أمام المؤتمر الذي عقده الحزب، في 2 أيار/ مايو 2024، ركز بشار الأسد في حديثه على مسألة إعادة تموضع الحزب، والعلاقة بين الحكومة والحزب، وضرورة إعادة صياغة فكر الحزب، وكذلك الهيكل التنظيمي له، والاشتراكية والعدالة الاجتماعية وغيرها من الموضوعات[1]، تناولها بطريقةٍ تؤكد حالة الانفصال بين رأس النظام والواقع في سورية والمنطقة. وأُعلن في نهاية المؤتمر انتخاب بشار الأسد بالإجماع، وكذلك انتخاب أعضاء اللجنة المركزية، وعددهم 80 عضوًا، إضافة إلى 45 عضوًا اقترحهم الأسد، ليكون العدد الكلي 125.
لكن الملاحظ أنه لم يكن هناك اهتمام شعبي بتلك الانتخابات، ولا سيما أن الحزب لم يعد بيده السلطة بشكل فعلي، حيث تحتكرها الأجهزة الأمنية، والميلشيات الإيرانية وغيرها من القوى المتدخلة بالشأن السوري، ومن الملاحظ أيضًا من نتائج هذا المؤتمر أنه لم يكن هناك مفاجآت، فهي تغيير للأسماء فقط، حيث استُبعدَ كل من بثينة شعبان، ولونا الشبل، مستشاراتي الأسد؛ وعلي مملوك، رئيس مكتب الأمن القومي السابق؛ وهلال هلال، القيادي في حزب البعث؛ وعمار ساعاتي ومحسن بلال ومهدي دخل الله وغيرهم[2]، وعيّن الأسد رئيس الوزراء، ورئيس مجلس القضاء الأعلى، ووزير الدفاع، ورئيس مجلس الشعب، وشقيقه ماهر الأسد، أعضاء في اللجنة المركزية، كذلك انتُخب من اللجنة المركزية أعضاء القيادة المركزية، وعددهم 14.
وتم انتخاب أعضاء الفروع في المحافظات، ولجنة الرقابة والتفتيش التابعة للحزب، وكان من بينهم قيادات للميلشيات المسلحة التابعة للنظام، كذلك تم اختيار أعضاء الفروع في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام.
لا بدّ هنا من تأكيد مسألة لعلّها باتت إحدى السمات الناظمة لسلوك السلطة الحاكمة على مدى عقود، وهي أن نظام الأسد -شأنه في ذلك شأن معظم الأنظمة الشمولية- يبدو أكثر طواعيةً ومرونةً في الاستجابة للضغوط والمطالب الخارجية، من استجابته لمطالب الشعب السوري، وبخاصة إذا كانت مطالب الخارج ذات صلة بالمصالح الأمنية للسلطة، باعتبار أن الحاجات الأمنية للسلطة هي دومًا في صدارة الأولويات لدى نظام الحكم، وفي هذا السياق لا يمكن إغفال الانعطافة العربية نحو التطبيع مع نظام الأسد، ثم تلتها المبادرة الأردنية عام 2020، وفق ما يُدعى بمشروع (خطوة مقابل خطوة) بدعم وتوجيه روسي، ثم استمر مسار التطبيع موازاة مع استراتيجية إدارة الرئيس الأميركي بايدن التي عزّزت مبدأ الرهان على (تغيير سلوك النظام وليس تغيير نظام الحكم)، وامتنع عن توقيع قرار “محاربة التطبيع مع النظام”، وصولًا إلى إعادة نظام الأسد إلى الجامعة العربية، وحضور قمة جدة في أيار/ مايو 2023، كنتيجة مباشرة للتفاهمات السعودية الإيرانية التي أُبرمت في بكين خلال شهر آذار/ مارس 2023 .
ولعل هذه الانعطافة التي أشرنا إليه قد وضعت نظام الأسد أمام جملة من الاستحقاقات، منها ما يتعلق بملف عودة اللاجئين، وكبح تدفّق الكبتاغون، والانخراط الجدي في العملية السياسية، ومنها ما يتعلّق بإصلاحات داخلية توجب على السلطة الحاكمة المبادرة بتنفيذها. ولئن كان بشار الأسد لم يعد المتحكّم المطلق في القرار السيادي الوطني، بالنسبة إلى المسائل التي تخص السيرورة الكلية للقضية السورية، بسبب توغّل النفوذين الإيراني والروسي وإمساكهما بأهم مفاصل الدولة السورية ومقدّراتها؛ فليس أمام رأس النظام سوى المناورة القائمة على جملة من الإجراءات التي قد توهم الأطراف الخارجية على أنها جزء من عملية إصلاحية داخلية، ومن ذلك -على سبيل المثال- التغييرات الأمنية خلال الأشهر القليلة الماضية، والتي أفضت إلى إقالة رئيس مكتب الأمن القومي علي مملوك، وجعْله مستشارًا في رئاسة الجمهورية، إضافة إلى دمج المراكز الأمنية وإعادة توزيع للقائمين عليها وفقًا لمعيار الولاء أو الموثوقية التي تضمن استمرار إخلاص الكيانات الأمنية لرأس النظام.
ومن هنا، يمكن أن يكون مسعى النظام نحو التركيز على العملية الانتخابية الحزبية جزءًا من الهدف العام الرامي إلى توجيه رسائل للأطراف الخارجية توحي بجدّية نظام الأسد بالشروع بعملية إصلاحية تشمل الجوانب الحسّاسة من بنية السلطة، وكذلك لتعبّر في الوقت ذاته عن حرص نظام دمشق على استمرار عملية التطبيع، أملًا بإيجاد آليات لاختراق الحصار المفروض عليه، وصولًا إلى إعادة تعويمه إقليميًا ودوليًا، ولعل امتناع الرئيس بايدن، في أواخر نيسان/ أبريل الماضي، من التوقيع على قرار “منع التطبيع مع نظام الأسد”، كمكافأة مباشرة على حياد نظام الأسد عن حرب غزة، يكون إحدى المغريات التي تشجّع الأسد على المضي في اعتماد مبدأ المناورة والالتفاف على الاستحقاقات الأساسية لعملية التغيير.
مستقبل الحزب – السيناريوهات المحتملة:
حالة التماهي بين الحزب والسلطة في سورية تجعل مصيرَ حزب البعث مقرونًا بمصير سلطة الأسد التي تحدّدها المآلات المستقبلية للقضية السورية، ووفقًا لذلك يمكن الوقوف بإيجاز عند ثلاث سيناريوهات تحدّدها المعطيات الراهنة:
- السيناريو الأول:
مع استمرار المجتمع الدولي بعدم التعاطي الفعّال مع القضية السورية، وعدم توفّر الآليات العملية القانونية لإلزام نظام الأسد بتنفيذ القرارات الأممية ذات الصلة بالقضية السورية، وكذلك مع تعدد النفوذ الدولي القائم عبر تعدّد سلطات الأمر الواقع؛ يمكن أن تستمر الحالة السورية على ما هي عليه، مع استمرار التعاطي العربي والدولي التدريجي مع نظام الأسد، وفقًا لما يلبّي مصالح الدول وحاجاتها، ولن يحول دون ذلك استمرارُ المأساة السورية التي لن يكون لها لدى الأطراف الخارجية من ردّات فعل سوى مظاهر القلق وعباراته. وفي هذه الحالة، يمكن لحزب البعث أن يستمرّ في توفير مقوّمات وجوده وفقًا لدوره الوظيفي الذي تقرره الحاجات الأساسية للسلطة، مع إعادة تشكيل شكلي للحزب ودوره في المجتمع. - السيناريو الثاني:
تحقيق مسار آستانة -بدفع روسي تركي- اختراقًا للركود التفاوضي، وإحلال مصالحة بين نظام الحكم والمعارضة الرسمية، من خلال تجاوز مبدأ (إنشاء هيئة حكم انتقالي)، واعتماد مفهوم (البيئة الآمنة) الذي يقضي بكتابة دستور، ومن ثم الشروع في انتخابات عامة ربما تكون محسومةَ النتائج سلفًا لمصلحة الأسد، إلّا أن هذا الافتراض مرهونٌ بإجراء مصالحة بين تركيا ونظام الأسد الذي ما يزال يطالب انسحاب تركيا من الأراضي السورية، كشرط مسبق لأي مصالحة بين البلدين، فضلًا عن وجود العائق الأميركي المتمثل بدعم (قسد) التي تسيطر على الجزيرة السورية، وحتى في حال تحقق هذا السيناريو والوصول إلى مشاركة المعارضة بأدوار ثانوية في السلطة؛ فلن يفقد حزب البعث أيًّا من امتيازاته، نظرًا لعضوية علاقته بالسلطة من جهة، ولاستيلائه على مقدّرات وموازنات مالية هائلة، تجعله هو الأقوى في أي منافسة حزبية داخل البلاد، من جهة أخرى. - السيناريو الثالث:
تغيير النظام في سورية وتحقّق مشروع التغيير السياسي، وهذا يعني زوال المظلة الأمنية والقوة العسكرية عن حزب البعث، ويعني أيضًا تجرّد الحزب من أهم حاملين من حوامل استمراره طوال عقود من الزمن، أضف إلى ذلك وجوب مبادرة أي سلطة جديدة إلى تجريد الحزب الحاكم من جميع امتيازاته ومما استحوذ عليه من مقدّرات البلاد والأملاك العامة، الأمر الذي سيؤدّي به إلى التلاشي المباشر أو التدريجي. ولا بدّ من التأكيد أن هذا السيناريو مرهون بقدرة السوريين على تحقيق عملية التغيير والشروع في بناء سورية الجديدة.
لعل وجود حزب البعث في رأس الحكم، منذ عام 1963 حتى الوقت الحاضر، وتماهيه المطلق في السلطة التنفيذية، قد أفرغه بالتدريج من أيّ محتوًى فكري أو أيديولوجي، وبات معيار الولاء للسلطة بديلًا عن الإخلاص للفكر أو القيم الحزبية، لدى معظم أعضائه وأنصاره، كما بات مفهوم الانتفاع من مزايا الانتماء للحزب بديلًا عن مبدأ القناعة بالأفكار والمبادئ، الأمر الذي يؤكّد أن أي افتقاد للسلطة هو بمثابة إطاحة كاملة بمقوّمات وجود هذا الحزب، ولعل هذا ما يفسّر استحالة أي مشروع إصلاحي حقيقي في الحزب، ما دامت بذور هذه الاستحالة تُعزز وجودها في بنية السلطة ذاتها.
[1] كلمة الأسد الأمين العام لحزب البعث العربي الاشتراكي خلال الاجتماع الموسع للجنة المركزية، شوهد بتاريخ 6 أيار/ مايو 2024، في الرابط: https://bit.ly/4b6wEIG
[2] من بينها لونا الشبل.. بشار الأسد يستبعد شخصيات من انتخابات “البعث، تلفزيون سوريا، 5 أيار/ مايو 2024، شوهد بتاريخ 6 أيار/ مايو 2024 في الرابط: https://bit.ly/3WrpIBv
المصدر: مركز حرمون للدراسات المعاصرة
ليس بالضرورة أن يعبر هذا البحث عن رأي الموقع
قراءة موضوعية عن طبيعة نظام طاغية الشام والبروباغندا التي يمارسها لإظهار تغيير سلوك نظامه وفق المتطلبات العربية والدولية، إنها بروباغندا كتغيير التعبان جلده ، ولكن يظل ثعبان، مثلما عندما الغى المادة 8 من الدستور، نظام ديكتاتوري مستبد استخدم الحزب والطائفة لخدمة أجندة العائلة، ويسير بهديها.