أسباب كثيرة تفسر عدم اكتراث السوريين بالانتخابات المزمع إجراؤها في 19 يوليو (تموز) الحالي لاختيار أعضاء ما يسمى مجلس الشعب، بعد تأجيلها مرتين ولأشهر عدة بسبب جائحة «كورونا»، وهي الجائحة التي أكره النظام على الاعتراف بها بعد مماطلة وتأخير، بينما لا يزال انتشارها وأعداد ضحاياها غامضين إلى اليوم.
إذا تجاوزنا ملايين اللاجئين الفارين من أتون العنف إلى شتى بقاع الأرض، ومثلهم الموجودين في مناطق سيطرة المعارضة والقوات التركية، أو في أماكن نفوذ «قوات سوريا الديمقراطية»، وهؤلاء جميعهم غير مهتمين، وإنْ بدرجات متفاوتة، بهذا الاستحقاق ولا يقيمون اعتباراً لنتائجه، نقف عند حالة اللامبالاة بهذه الانتخابات عند قطاع واسع من السوريين ممن لا يزالون يقبعون تحت رحمة السلطة، بعضهم خبروا جيداً ما يعنيه مجلس الشعب وحدود دوره في الحياة السياسية، ويدركون أن تجديده لن يضيف أو يغير شيئاً مما هو قائم، بل هو في أحسن الأحوال تجديد لأداة لطالما كرست السيطرة وسوّغت استمرار العنف والقهر والتمييز، وبعضهم الآخر باتوا يعدّون كل ما تقوم به السلطة موضع شك وارتياب، ما دامت تستمر في نقلهم من وضع سيئ إلى وضع أسوأ.
فأي معنى للانتخابات عند من أرهقهم تفاقم الأوضاع المعيشية والحياتية، ولم يعد باستطاعتهم تأمين الحد الأدنى من الاحتياجات البسيطة لعائلاتهم؟ وما حاجة الناس لمجلس شعب جديد في ظل العجز السلطوي الفاضح عن الحد من الغلاء ووقف التدهور غير المسبوق لليرة السورية أمام العملات الأجنبية، مما جعل الراتب الشهري لأعلى موظف في مؤسسات الدولة عاجزاً عن تأمين قوت أسرته لأكثر من 10 أيام؟ ثم ما قيمة انتخابات تشريعية بينما يعاني الوضع الاقتصادي الأمرّين جراء دمار كثير من المنشآت الصناعية وخراب غالبية الأراضي الصالحة للزراعة وضياع فرص السياحة، والأسوأ شح المحروقات والغاز والكهرباء والماء النظيف؟!
في المقلب الآخر؛ يلاحظ أن السلطة السورية تولي اهتماماً لافتاً لهذه الانتخابات وتتقصد إنجازها بأبهى صورة، إنْ بزيادة أعداد المرشحين وتخديمهم إعلامياً، وإنْ بتفعيل دور حزب البعث في العملية الانتخابية ومنحه هامشاً لاختيار مرشحيه عبر ما سمي «الاستئناس»، وإنْ بحثّ المواطنين على المشاركة فيها وتشجيعهم ببعض الوعود والهبات والهدايا. وبلا شك ثمة دوافع كثيرة تقف وراء هذا الاهتمام؛ بدءاً بتوجيه رسالة إلى المجتمع الدولي تظهر قوة وقدرة النظام على إدارة الوضع الداخلي وتجديد مؤسساته، ربما في رد على تفعيل «قانون قيصر» وما يخلفه من ضغوط، وربما رفضاً لما يثار عن وجود توافق دولي على استبدال الرئيس السوري، والأهم لتأكيد تعنت النظام وتفرده بالسلطة ولتسويغ رفضه أي حلول سياسية أو مفاوضات أو لجنة دستورية أو غيرها؛ مروراً بتسخير هذه الانتخابات لتخفيف انفكاك قاعدته الاجتماعية عنه، مما يفسر توقيت صرفه معونات لجرحى ومعاقي الجيش، وتشجيع أجهزته الأمنية على زيادة أعداد المرشحين الذين ينتمون إلى أسر الشهداء، وعلى دفع شخصيات للمشاركة في المعترك السياسي والبرلماني، بعضهم من أثرياء الحرب ومن رؤوس الجلادين والشبيحة، وبعضهم الآخر انخرطوا في أنشطة إعلامية ديماغوجية داعمة للسلطة، والغرض احتواء دوائر النفوذ وتخفيف الاصطفافات وتداعيات الخلافات التي تعصف بمراكز السلطة؛ إنْ مع رامي مخلوف، وإنْ مع ما يثار عن اعتقالات وتصفيات طالت ضباطاً كباراً في الجيش وقادة في الأجهزة الأمنية، مروراً برفد هذا المجلس بعناصر جديدة يمكن أن تكون مقبولة من أوساط اجتماعية يحتاجها النظام اليوم، مما يفسر الزيادة اللافتة في أعداد المرشحين من أبناء الأقليات لضمان استمرار التفافها حوله وولائها له، وكذلك تفعيل مشاركة شخصيات من زعماء وشيوخ العشائر أو ممن ينتمون لما يسمى «الفريق الديني الشبابي» التابع لوزارة الأوقاف، بصفته يمثل الكتلة السنية المؤهلة والقادرة على مواجهة التطرف الإسلاموي… والأهم ما يلاحظ عن توجه سلطوي لتشجيع أصحاب الرساميل ورجال الأعمال على خوض غمار العملية الانتخابية ومنحهم هامشاً مميزاً، ربطاً بتنامي الحاجة لدورهم مع تفاقم الأوضاع المعيشية والاقتصادية… كل ذلك يبدو كأنه يتم على حساب فرص تمثيل أحزاب ما تسمى «الجبهة الوطنية التقدمية» التي صارت تعاني من ضيق قاعدتها الحزبية، ومن عدم قدرتها على التكيّف مع متطلبات المرحلة المقبلة.
صحيح أن الأصابع الأمنية لا تزال حاضرة بقوة في تقرير نوعية المرشحين وتقرير النتائج، وصحيح أنه يرجح حصول تبدل في تركيبة مجلس الشعب الجديد، لمصلحة شخصيات موالية للنفوذين الروسي والإيراني، لكن الصحيح أيضاً أن هذا المجلس لن يكون أكثر من مجلس حرب بكل ما تعنيه هذه العبارة من معنى، وأداة طيّعة بيد النظام يسخرها كيفما يشاء للمحافظة على سلطته ولتسويغ مزيد من الفتك والقهر والتمييز، ونظرة سريعة على فاعلية الحملات الانتخابية في المدن السورية، إذا استثنينا خفوتها في مدينة السويداء جراء ما شهدته من مظاهرات مناهضة للسلطة، وتالياً لشعارات نحو 9 آلاف مرشح (8735) يتنافسون على احتلال 250 مقعداً في المجلس العتيد؛ تكشف عن هذه الحقيقة…
«معاً لإعادة الإعمار رغم أنف العقوبات والحصار»، «معاً لهزيمة (كوفيد – 19) كما هزمنا الإرهاب ورعاته»، «لنوحد الجهود لطرد المحتل الأميركي والتركي»، «لنتكاتف ونتضامن حباً بسوريا»… هذه أوضح الشعارات الجديدة التي تحاول بثّ روح العزيمة والتحدي، وللالتفاف على الأسباب الحقيقية لتفاقم مشكلات السوريين، من دون إغفال الشعارات المزمنة المعهودة التي تبجل القيادة الحكيمة وانتصارها على المؤامرة الكونية، أو تتغنى بالجيش السوري والوفاء لتضحياته، أو تشيد بالوحدة الوطنية وعمق التعايش بين المكونات الدينية والقومية السورية، أو تلك الشعارات العائمة، التي تتوهم تعمير دمشق بالياسمين، أو تأمل تحسين الأوضاع المعيشية عبر المطالبة بزيادة الأجور ومحاربة الاحتكار والغلاء.
عن أي انتخابات يتحدثون؛ وثمة سؤال وجودي بات يتكرر على لسان غالبية السوريين بغض النظر عن اصطفافاتهم ومواقفهم: أين وصلت أحوالنا وأي غد ينتظرنا؟! وكأن ثمة إحساساً عاماً بدأ يتملكهم جميعهم بالهزيمة والتفكك والضياع وبرغبة صادقة في الخلاص مما وصلوا إليه، وكأن ثمة خشية وحسرة بدأتا توحدانهم أمام أوضاع حياتية لم تعد تطاق وأمام هذه الاستباحة غير المسبوقة لوطنهم.
المصدر: الشرق الأوسط