مضى عامٌ ونيّف على اعتقال زعيم حركة النهضة، ذات المرجعية الإسلامية، رئيس البرلمان التونسي السابق (2019 -2021) راشد الغنّوشي (83 عاماً)، على خلفية تُهم ذات صبغة سياسية، بحسب أنصاره ومحاميه. وأثار استمرار حبْسه حفيظة عدّة أطراف حقوقية، وجمعوية، وحزبية. وتضامن معه عددٌ معتبرٌ من أشياعه والمتعاطفين معه، في الداخل وفي الخارج، ووقّعوا عرائض ونظّموا وقفاتٍ احتجاجية وأنشطة دعائية عبر شبكات التواصل الاجتماعي، ومنابر إعلامية شتّى، للمطالبة بإطلاق سراحه. وبغضّ النظر عن اتفاق أيٍّ منا أو اختلافه مع أفكار الغنوشي وسياساته، فإنّ الثابت أنّه من بين الشخصيات البارزة التي أثّرت على كيْفٍ ما في المشهد السياسي في البلاد، قبل الثورة وبعدها. فقد عايش الرجل الزمن السياسي في تونس بتحوّلاته المختلفة، وتعقيداته المتعدّدة؛ بدءاً بدولة الاستقلال، مروراً بحقبة الدولة الشمولية في عهد الحبيب بورقيبة، وخَلَفِه زين العابدين بن علي، وقوفاً عند عقد الثورة (2011 – 2021)، وصولاً إلى حكم منظومة 25 يوليو/ تموز (2021). ولم يقف راشد الغنّوشي خلال تلك المراحل كلّها على الربوة، بل انخرط في مُعترك الحياة السياسية، مناوراً حيناً، محاوراً حيناً آخر، حاكما طوْراً، معارضاً طورْاً آخر. ولم يكن احترافه السياسة، بحسب مراقبين، أمراً سالكاً بل كان مشروعاً شائكاً، تلبّست فيه مطامحه السياسية بمحن شتّى. ويمكن أن يُميّز الدارس بين ثلاث محن وسمت السيرة السياسية للغنوشي. الأولى، محنة معارضته وأنصاره الدولة القامعة. والثانية، محنة تولّي الحكم. والثالثة، محنة إزاحته وحزبه من كرسي الحكم.
في زمن كانت فيه المعارضة مغامرة غير مأمونة العواقب، وفعلاً محظوراً، جرّمه النظام الحاكم، تصدّر راشد الغنّوشي، ومريدوه، طليعة مُعارضي سياسات مُؤسّس الجمهورية الأولى، الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة. واعترضوا ضمن تجربة الجماعة الإسلامية أوّلاً، وحركة الاتجاه الإسلامي ثانياً، على توجّهات بورقيبة الأحادية، وميوله إلى جمع كلّ السلطات بيده، وإقصاء خصومه، والاستفراد بالحكم إلى أجل غير مسمّى. ونقدوا هيْمنة الحزب الاشتراكي الدستوري الحاكم وقتها على الشأن العام، ورفض الغنّوشي وأنصاره القيود الصارمة التي كانت مفروضة على حرّية التعبير، والتظاهر، والانضمام إلى الأحزاب، وحرص النظام البورقيبي على فرض علمانيةٍ قسريةٍ على الاجتماع التونسي. وطالبوا بحقّهم القانوني في تأسيس حركة مُحافظة مُعارضة مشروعة. لكنّ ردّ النظام البورقيبي كان قاسياً. فاعتُقل الغنوشي، وعدد كبير من أنصاره، وصدر عليه حكم الإعدام في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، فكانت محنة معارضة بورقيبة ثقيلة ومكلفة للغنّوشي وأشياعه.
ومع صعود زين العابدين بن علي إلى كرسي الحكم، إثر انقلاب طبّي أبيض على بورقيبة، بعث الغنّوشي رسائل إيجابية إلى النظام الحاكم، وأصبح اسم الجماعة “حركة النهضة” بدل “الاتجاه الإسلامي”. لكنّ موسم الودّ بين الطرفين لم يدم طويلاً. فقد استشعر ابن علي العمق الشعبي للحركة خلال مشاركتها في قوائم مستقلّة في تشريعيات 1989. وبدل احتوائها ومنحها تأشيرة العمل القانوني، شنّ حملة شعواء ضدّ قادتها وأنصارها، وزجّ آلاف المحسوبين عليها في السجون في إطار ما يُعرف بحملة استئصال الإسلاميين، التي امتدّت بالتدريج إلى غيرهم من المعارضين. وجعل ذلك النهج حقبة ابن علي موسومة بالسلطوية والشمولية، وتوزّع أتباع حركة النهضة بين السجون والمنافي، وفرضت على آخرين الإقامة الجبرية، فيما قصد راشد الغنّوشي المنفى، حيث كان صوته عالياً في معارضة دكتاتورية بن علي، وتحشيد الرأي العام الدولي للتعاطف معه وأنصاره في محنتهم، والتنديد بسياسات الدولة القامعة. تحوّلت بذلك المِحْنَةُ إلى مِنْحَةٍ على نحو ما. وتأكّد ذلك مع قيام ثورة 2011.
بعد الثورة، عاد راشد الغنّوشي إلى تونس، وانتقلت حركة النهضة من إسار العمل السرّي إلى رحاب العمل العلني المُقنّن، واستثمرت في محنة المظلومية التي وفّرت لها حاضنة شعبية معتبرة، وانخرطت في معترك الحياة السياسية، وفازت بنسب متفاوتة في تشريعيات 2011 و2014 و2019، وشاركت في تشكيل حكومات عدّة تعاقبت على تونس خلال عشرية الانتقال الديمقراطي (2011 -2021). وفي تلك الفترة، انتقل الغنّوشي عملياً من مُعارِضٍ مُطارَدٍ إلى فاعلٍ سياسيٍ وازنٍ، شارك بشكل مباشر أو غير مباشر في إدارة منظومة الحكم. وقد أدرك وحزبه السلطة، والبلد تتجاذبه تيّارات الثورة والثورة المُضادّة، و”لوبيات” الداخل والخارج و”كارتيلات” الفساد، وقوى الشدّ إلى الخلف، والصراع الأيديولوجي المحموم على الهويّة والسلطة. وكان الناس في شوقٍ عارمٍ إلى تحقيق مطالب شتَّى، في مُقدّمتها التشغيل، وتحسين الأجور، وتطوير الخدمات، والبنى التحتية، وتحقيق التنمية الشاملة. لذلك لم تكن تجربة الحكم سهلة بالنسبة إلى الإسلاميين في تونس. ذلك أنّه لم تكن لديهم خبرة سابقة في إدارة الدولة، ووجدوا صعوبة في التكيّف مع أذرع الدولة العميقة، والأجهزة البيروقراطية القديمة، والأحزاب العلمانية الإقصائية، التي لم تستوعب فكرة وصولهم إلى السلطة. وفي ذلك الخضمّ، حاول الغنوشي احتواء محنة الحكم. وتحلّى، بحسب ملاحظين، بدرجة عالية من المرونة والبراغماتية، فوجّه بمدّ جسور التواصل بين حركة النهضة وأحزابٍ ليبراليةٍ ويساريةٍ وقوميةٍ مختلفةٍ (المؤتمر من أجل الجمهورية، التكتّل من أجل العمل والحريات، نداء تونس، التيار الديمقراطي، حركة الشعب، قلب تونس… إلخ)، على نحوٍ مكّن الحركة من تشكيل حكومات ائتلافية جسّدت تنوّع الاجتماع السياسي في تونس. كما ساهم الغنّوشي وحزبُه وشركاء آخرون في مأسسة التجربة الديمقراطية من خلال صياغة دستور توافقي، وإحداث هيئات رقابية، مدنية مستقلّة، ولم تنخرط حركة النهضة، بحسب مراقبين، خلال فترة حكمها في مشروع أسلمة الدولة وأخونة المجتمع، ولم تصادر الحرّيات العامّة والخاصّة. بل احترمت ثقافة الاختلاف داخل الاجتماع التونسي. لكنّ الثابت أنّ تجربة الحكم استنزفت شعبية حركة النهضة بقيادة الغنّوشي، فقد وجدت الحركة نفسها وجهاً لوجه مع مطلبية شعبية عالية، واحتجاجات نقابية مكثّفة، وجماعات سلفية مُتطرّفة، وعمليات إرهابية دامية، على نحو أربك أداءها في إدارة مشروع الحكم. كما أنّ صعود الغنوشي إلى كرسي رئاسة البرلمان لم يَرُقْ لبعض خصومه السياسيين الذين لم يقبلوا ضمنياً وجود شخصية مُنتخبة، ذات خلفية إسلامية، على رأس المؤسّسة التشريعية، فجدّوا في إرباك إشرافه على المجلس النيابي وتعطيل أشغاله.
ومع فشل حركة النهضة في الحصول على أغلبية برلمانية لتمرير حكومة الحبيب الجملي، ارتفعت وتيرة الخلاف بين قياداتها على الزعامة، وعلى التوزير وصناعة القرار. وفي الأثناء، جرى اعتماد خيار “حكومة الرئيس”. وبذلك، بدأت حركة النهضة تفقد خيوط إمساكها بالسلطة، وبدا أنّ دخولها في ائتلافٍ مع حركة الشعب والتيار الديمقراطي ضمن حكومة الرئيس الأولى لم يكن موفّقاً، فقد جدّ الحزبان المذكوران في تعميق أسباب التنافر والصراع على اتخاذ القرار داخل حكومة إلياس الفخفاخ، وفي دعوة رئيس الجمهورية إلى الإمساك بزمام المبادرة، وتفعيل الفصل 80 من الدستور. ومهّد ذلك تالياً إلى ظهور حركة 25 يوليو (2021)، واتخاذ الرئيس قيس سعيّد جملةَ تدابير، منها غلق البرلمان، وحلّ حكومة هشام المشيشي، وإلغاء الدستور، وحلّ المجلس الأعلى للقضاء، وإرساء معالم حكم رئاسي مطلق. وعدّت حركة النهضة تلك القرارات الرئاسية انقلاباً على الدستور، وعلى التجربة الديمقراطية.
وانتقل بذلك الغنّوشي من جديد إلى مُربّع المعارضة. وهو الذي وجّه أنصاره بالتصويت لقيس سعيّد في الدور الثاني من رئاسيات 2019، وعدّه نصيراً للثورة. ويبدو أنّ النفخ في معركة الصلاحيات لاحقاً، عمّق الفجوة بين الرجلين. ولم ينخرط الغنوشي، بحسب مراقبين، في معركة صدامية عنيفة مع المنظومة الحاكمة الجديدة، بل اختار الاعتراض عليها سلمياً، معتبراً أن الدفاع عن الديمقراطية ليس مسؤولية حركة النهضة وحدها، بل شأن كلّ مكوّنات المشهد الحزبي والمدني. وفي زحمة محنة إزاحته وحزبه من الحكم، حمّلت حركة النهضة وزر كلّ عثرات الانتقال الديمقراطي، والحال أنّها لم تحكم البلد وحدها. وجرى فتح ملفّات قضائية ضدّ عدد من قياداتها على خلفية قضايا تلبّس فيها السياسي بالجزائي على نحو غير دقيق، بحسب قانونيين. وفي الأثناء، بدا أنّ كثيراً من الذين تملّقوا الغنوشي سابقاً، من داخل حزبه أو خارجه، تركوه لمصيره أو انقلبوا عليه أو اكتفوا بالتشفّي أو الوقوف على الربوة، وهو سلوك فصامي، يميّز طيفاً معتبراً من السياسيين في تونس. في المقابل عبّرت شخصيات سياسية تونسية بارزة، من اليمين واليسار، عن تضامنها مع الرجل، مُطالِبَةً بإخلاء سبيله، مثل كمال الجندوبي، ونجيب الشابي والأزهر العكرمي، وغيرهم.
ختاماً، يتوكّأ الغنّوشي على عصا الثالثة والثمانين من العمر، بتجربة سياسية جدالية، طويلة ومعقّدة، وبجسد خبر المعتقلات والمنافي طويلاً وأرهقته المحن، ويخشى مراقبون من وفاته في السجن بسبب وضعه الصحي، وإضرابه من حين إلى آخر عن الطعام. لذلك، طالب كثير من السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، وصنّاع الرأي العام، في الداخل والخارج، بإطلاق سراحه، وغيره من المعارضين التونسيين، تحقيقاً لانفراج سياسي في أفق الانتخابات الرئاسية القادمة.
المصدر: العربي الجديد
هذا المقال لا يعبر بالضرورة عن رأي الملتقى
عامٌ ونيّف على اعتقال زعيم حركة النهضة راشد الغنّوشي (83 عاماً) رئيس البرلمان التونسي السابق (2019 -2021) بتجربة سياسية جدالية، طويلة ومعقّدة، وبجسد خبر المعتقلات والمنافي طويلاً وأرهقته المحن، ويخشى ان يتوفى بالمعتقل. قراءة موضوعية لمسار الحركة بعد نجاح الثورة .