وظّف المؤلفُ المكانَ في روايته توظيفًا انماز به السرد في متنها، حتى غدت رواية مكانٍ محضة ، سقط منها الزمان بطريقةٍ فنيّةٍ، حينما تناول الساردُ المواقف والأحداث، معبّرًا عنها بحركة شخصياته التي رسمها بإتقانٍ ومهارةٍ، من خلال أسلوب الراوي الجديد، الذي وقف بين راوي الحداثة، وراوي ما بعد الحداثة، جغرافية جديدة في توظيف تقنية الراوي لصنع جمالية الانتباه عند القارئ والمتلقّي، أبان فعل القراءة، وجمالية الاقتراب من منطقة الواقع اليومي للناس، التي مازالت تعيش يوميات المواقف والأحداث الروائية المأخوذة منه، لكن في وقتٍ أو زمانٍ مضى ، فتتحرّك الشخصيات وتصنع مواقفها في المكان، دون أن تتغيّر ظروفهم المعيشية، وأحوالهم، على الرغم من تغيير الحكم من الملكي الى الجمهوري، ومن حكم فلانٍ إلى علّانٍ، في إشارةٍ لهذا التغيير والزمان معا، بسطرٍ أو سطرين من حجم الرواية الذي بلغ ٢٤٠ صفحة، أنها وأقصد، باب الدروازة، إعادة قراءة يوميات المكان/ بغداد – مدينة الكاظمية؛ وتناقضاته القديمة الجديدة: الوافدين إلى الكاظمية من الجنوب وأهل المكان الأصلي بغادة والتفاوت في الدخل اليومي وأسلوب المعيشة والسكن بينهما والتعليم ،وكذلك اختلاف التوجهات السياسية، لكلّ الفريقين، مع أو ضد، ولو بإشاراتٍ قليلةٍ من المتن، وكذلك الحبّ والعاطفة بين الوافدين، بعضهم البعض، وحنينهم إلى تقاليدهم، في الجنوب ونظرتهم إلى أخلاق بعض السكّان الأصليين.. كما أن هناك تناقضات الجميع بين التظاهر بالإيمان وعدم التظاهر به، وبينهما هناك منطقة وسطى بين بين. لقد أجاد المؤلّف فيما تقدمّ من خلال المتن وسرده، بتمثيل صفات شخصياته عن الواقع، مع بهارات الخيال الروائي، فصنع روايةً انمازت عن غيرها بأسلوب الراوي الجديد.. لتفرش بساطًا اجتماعيًا إنسانيًا من خلال سرديته باللغة العربية، بنكهةٍ عراقيةٍ خاصة، من خلال خصوصية المكان ودقّة تفاصيله، لكنها في الآن ذاته تجسّد حركةً إنسانيةً في مكانٍ ما من العالم.. أقصد أن ثمة بعد إنسانيّ خفيّ تتلمّسه، عندما تقرأ الرواية من خلال الإنسان: الشخصيات وما يختلج مشاعرهم وما يفكّرون.
أما راوي ما بعد الحداثة، الذي يخاطب القارئ مباشرةً، نجد هذه الميزة في أسلوب راوي رواية، باب الدروازة، في حين رواية ما بعد الحداثة من حيث جزئية موضوعها تعالج مشاكل كتابة الرواية كجنسٍ أدبي، وتصعد بشخصيات الهامش على شخصيات الأبطال في متن الواقع السرد كما في جزئية ثانية تسخر من التاريخ؛ بينما موضوع؛ باب الدروازة؛ يقترب من الواقع بفنية المكان، وحركة الشخصيات كما تقدّم، مع احترام لتاريخ المكان مدنية الكاظمية – بغداد والشخصيات فيه. والمقصود من هذا وذلك أن أسلوب الراوي في جزءٍ منه هو أسلوب راوي ما بعد الحداثة، مع العلم أن بنية السرد الروائي حداثوي غير ملتزم بقواعد رواية الحداثة أيضا.
ومن نماذج أسلوب الراوي الجديد وهو يخاطب القارئ والمتلقّي مباشرة، لصناعة جمالية الانتباه عندهما :(المهم في الأمر) ص١٤، وتتكرّر هذه الجملة بطريقةٍ أو بأخرى في صفحاتٍ كثيرة، وهي خارج سياق الأحداث من السرد، لكنه جاء بها المؤلّف علي لفتة سعيد، لخلق جوّ من جمالية الانتباه لدى القارئ والمتلقّي، وهي من المنقول الشفاهي العراقي والعربي، أبان الأحاديث اليومية، ممّا يوفّر جمالية جذبهما إلى جغرافية واقعهما، ومثلها نجد في هذه الوظيفة الجمالية : (بالتأكيد لم يعرف خلّاوي كرادّة مريم ولم يزرها، فتخيّل البيت على أنه واسعٌ أو هو قصرٌ من القصور الملوك والأمراء، ولم يمهله سعيد ليفكّر أكثر فيدلق عليه المعلومة..(..ص ٤٣؛ وكذلك عبارة جديدة عما تقدّم (وحتى نعود لحكايتنا ..) ومثلها (ما يهم في الموضوع أن كلّ واحدةٍ تريد الاتكاء على الأخرى.، بعد أن تمّ خنق مسافة الشكّ والظنّ والاختفاء خلف الثأر) ص١٥٠ ، والاكثر إثارة الجملة الآتية : (أعلم أنه قد تقولون معقولة أن هذا الشاب الذي لم يبلغ بعد سنته الثامنة عشرة نصف المتعلّم والفطري أو كما نسمّيه الفطير له كّل هذه القدرة على التفكير والتفكّر؟ وربما أسئلة أخرى،) ص ١١٧؛ ثم يجيب المؤلف ليواجه القارئ أو المتلقي: (والإجابة: – إن الإنسان لا يعرف تفكيره ولا يعرف غباءه من آرائه، إلّا من خلال المعايشة، فقد يكون من النوع الذي لم يحصل على فرصةٍ لإثبات الوجود، ثم أن خلّاوي هكذا، فهو ذاته لا يعرف النهاية التي ستؤول إليه حياته.) ص ١١٧.
كما نلحظ التبئير الداخلي لشخصية (خلاوي) في ص ١٨٦ – ١٨٧ من خلال اسلوب الراوي الجديد: (لم يزل خلّاوي منهمكًا في تفاصيل عذاباته، حين طلبت له الجدّة شراء (كعك من الفرن) ….)
إن من أسلوب الراوي في رواية الحداثة التي مِن شروطها وجود البطل إلّا أن؛ رواية باب الدروازة؛ خالية من البطل ولا تركز في سردها على شخصيةٍ معيّنةٍ معنويّا فيها، فالبطل الوحيد، كان المكان وحركة شخصياتها كلها، ربما نجد شخصية (خلّاوي) مهمّة وليست بطلًا، لكنه إنسانٌ يتحرّك في واقعٍ سرديـ من المتن بهدوءٍ، وله مشاكله وخوفه وصدقه وكذبه، وليس ثمة موقفٌ واحدٌ، يجعله بطلُ،ا أنه مثل باقي الشخصيات العادية التي تعيش يومها بكدّ وتعبٍ ويسكنون في ( خان ) راضين بحالهم، منسيين من الأنظمة المتعاقبة. كما أن الأماكن الأخرى لا تحوي على بطلٍ أو مواقف بطوليةٍ من شخصيات الرواي . ومثل التبئير الداخلي لشخصية (خلًاوي) نجد مثله شخصيات كثيرة مثل شخصية (فتحية) وشخصية (أم صلاح) خاصة في حوارهما الذي نقله السرد بأسلوب الراوي الجديد بطريقةٍ ملفتة، بدلًا عن الحوار التقليدي، خاصة في لقطة تواجدهن في حمّام النساء في السوق.. فالحوار التقليدي من صفة رواية الحداثة، وأسلوب الراوي فيها، أو يكون التبئير الداخلي للشخصية فيها عن طريق المتكلّم، أو عن طريق راوٍ ثانوي، من خلال إحدى شخصيات الرواية..وهذا ما جعل أسلوب الراوي عند المؤلف علي لفتة سعيد في روايته ؛باب الدروازة؛.
إن مع ما تقدّم ما يطلق عليه أسلوب الراوي الجديد، مع التمثيل المبدع لصفات الشخصيات وحركتهم في المكان؛ تمثيلًا عن حركة الواقع اليومي لهم في مدينة الكاظمية، وبما تقدّم من ميزات أسلوب الراوي الجديد وفنية أدائه، مع كل ما تقدّم آنفًا مع اللغة السهلة الممتنعة وفيها بصمةٌ خاصّة بأجواء؛ باب الدروازة؛ تجسّد المكان والإنسان، من هنا تعد الرواية من السرديات العربية الجديدة الأدبية المعاصرة.
بقي شيءٌ مهمّ جدًا لابد من لفت الأنظار إليه في رسالة الرواية، وهي تحمل رسالةً إنسانيةً، همّها الوحيد المجتمع العراقي المغترب، في وطنه منذ عقودٍ طويلةٍ الأمد، فهي روايةٌ اجتماعيةٌ، كلّ ما فيها مجتمع يريد العيش بسلامٍ وتحقيق جزءٍ بسيطٍ من العيش الكريم، بسلامٍ وأمان، لكن الصراع بين السلطة والمجتمع في كل زمان سقط من المتن الروائي، كان صراعًا خفيًا خلف السطور، منذ العهد الملكي إلى الجمهوري، إلى حكم فلان وعلّان إلى حرب الخليج الأولى نهاية الرواية. فكلّ ما يقع على المجتمع هو نتيجة سياسة الدولة، وهي طرفٌ مهمٌّ في نتاج المجتمع، لكنه طرفٌ غيّبه المؤلّف، وأشار له في المتن الروائي من خلال ذكره لسنوات محدّدة، وركّز على المجتمع نفسه – الطرف المتضرّر، ولم يمرّ على الضرر بشكلٍ مباشر، بل جعله في ثنايا الشخصيات وحركتهم في المكان، وعندما تبحث وتتعمّق في كلّ شخصيةٍ من الشخصيات، تجد أنك تعرف من خلال تجربتك الحياتية مثالًا لها في الواقع، خاصة سكّان العواصم العربية أو عواصم الشرق.. أنها رواية مجتمعٍ عراقيّ بنكهةٍ إنسانيةٍ، ونظرةٍ إلى المستقبل أفضل.