وصل الرئيس التركي أردوغان إلى بغداد، يوم الاثنين 22 نيسان/ أبريل 2024، وكانت هذه أول زيارة للرئيس التركي منذ عام 2011، وتأتي الزيارة بعد تفاهمات بين البلدين تتعلق بمواجهة حزب العمال الكردستاني PKK، وسعي تركيا للحشد ضد التنظيم بهدف القيام بعملية عسكرية ضده، وهي تأتي أيضًا بعد زيارة رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني إلى تركيا في آذار/ مارس 2023، حيث بحث الطرفان آفاق التعاون بين البلدين. لكن بعد يومين من زيارة السوداني، أي في 23 آذار/ مارس 2023، قررت تركيا تعليق تصدير النفط العراقي عبر أراضيها، بعد أن قضت محكمة تحكيم دولي في ذلك اليوم بإلزام أنقرة دفع تعويضات مالية لبغداد، تُقدّر بمليار ونصف مليار دولار، عن كميات النفط التي صدرها إقليم كردستان العراق عبر أراضيها بين 2014- 2018، من دون موافقة الحكومة العراقية[1]، حيث إن هناك خلافًا بين الحكومة العراقية وحكومة إقليم كردستان حول عائدات النفط، لكن الحكومة التركية برّرت ذلك وقتها بتضرر خطوط نقل النفط بسبب الزلزال الذي ضرب تركيا في شباط/ فبراير 2023.
وتأتي أهمية الزيارة من أنها تأتي في ظل تطورات متسارعة تشهدها المنطقة بعد أحداث غزة، وفي ظل الخلافات بين البلدَين في العديد من الملفات، ومنها ملف المياه، حيث تناقصت واردات نهري دجلة والفرات إلى العراق -وكلاهما ينبع من تركيا- وهما المصدر الأساسي للعراق من المياه، لأن 70% من تدفقات المياه إلى العراق تأتي من تركيا، ويُصنّف العراق كخامس دولة معرّضة لنقص المياه والغذاء. وتأتي أهميتها أيضًا من تزامنها مع حالة الانقسام التي يعيشها العراق، ولا سيما بين الحكومة المركزية وحكومة إقليم كردستان العراق.
وخلال زيارة الرئيس التركي العراق، تم توقيع 26 اتفاقية ومذكرة تفاهم في العديد من الملفات، على رأسها الطاقة والأمن والاقتصاد والمياه، وكان الهدف الأساسي من تلك الاتفاقات زيادة التبادل التجاري بين البلدين، من 15 إلى 20 مليار دولار، وتشكيل لجنة مشتركة لحل أزمة المياه بين البلدين. وتضمنت الزيارة إبرام مذكرات تفاهم لتأسيس مؤسسات صناعية عراقية تركية مشتركة في العراق، واتفاقات في مجال التعاون الاقتصادي والمصرفي لزيادة الاعتماد على العملات المحلية في التبادل التجاري بين البلدين، ضمن خطوات لجأت إليها الحكومة العراقية لمكافحة التقلبات في سوق الصرف، وتأتي بعد فرض أميركا عقوبات على 14 مصرفًا عراقيًا، للاشتباه بغسلها الأموال وإرسالها إلى إيران وسورية، وتضمنت الزيارة أيضًا اتفاقات عدة على الصعيد الأمني وغيره.
وهنا تفصيل لأهم الاتفاقات التي وقّعها البلدان، ويُتوقّع أن يكون لها تأثير في سورية:
- اتفاقية إعادة تصدير النفط:
تضمّنت مذكرات التفاهم إعادة تصدير النفط من شمال العراق عبر ميناء جيهان التركي، وذلك بعد أن فازت الحكومة العراقية سابقًا بقضية تحكيم دولية، بحيث يُمنع تصدير أي من مشتقات النفط من شمال العراق عبر تركيا إلا بعد موافقتها، وأن وزارة النفط العراقية هي الجهة الوحيدة المسؤولة عن النفط في البلاد، وتضمنت أيضًا تطوير خط كركوك-جيهان ليصل إلى مليون برميل يوميًا، وهي الطاقة التصديرية للخط، في حين إنها لا تتجاوز حاليًا 350 ألف برميل يوميًا.
وتأتي أهمية هذا الاتفاق من أن خط التصدير الآخر عبر الخليج العربي يتعرّض لظروف أمنية مضطربة بسبب تطورات الأحداث في المنطقة، بعد بدء الحرب في غزة في تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وهجمات الحوثيين على السفن في البحر الأحمر، وقيام إيران باحتجاز ناقلة نفط في مياه بحر عمان.
وكان هناك محاولات إيرانية سورية لإعادة تشغيل خط كركوك-بانياس، وقد ضغطت إيران في هذا المجال، لكن يبدو أن الحكومة العراقية ستركّز في المرحلة الحالية -بموافقة ضمنية إيرانية مبدئية- على الخط التركي، لأن التفاهمات مع تركيا كلّها مرتبطة ببعضها، وهناك محاولة لعدم إغضاب تركيا في هذه المرحلة، وكذلك بسبب قوانين العقوبات التي تصدرها أميركا على النظام السوري.
ولا شك في أن إعادة تصدير النفط العراقي عبر تركيا ستقوّي الاقتصاد التركي، وتحُسّن سعر الليرة التركية مقابل الدولار، وسيعرز هذا الموقفَ التركي من كل قضايا المنطقة، ومنها سورية، حيث إن التحديات الاقتصادية أجبرت الحكومة التركية على تقديم بعض التنازلات الداخلية والخارجية في العديد من الملفات.
لكن هناك تحديًّا يواجه هذا الاتفاق، وهو أن استئناف التصدير يحتاج إلى التوافق بين الحكومة المركزية في بغداد وحكومة إقليم كردستان العراق، حيث إن هناك العديد من القضايا العالقة بين الطرفين وتحتاج إلى التفاهم.
- اتفاقية ممر التنمية الإستراتيجي:
وهو اتفاق رباعي (تركي عراقي إماراتي قطري) لمدّ طريق بري وسكة حديدية يربطان بين ميناء الفاو والحدود التركية، بطول 1200 كم، ثم يتابع عبر الأراضي التركية إلى ميناء مرسين التركي على البحر المتوسط، مما يُسهم في تعزيز التجارة الدولية.
وأُعلن المشروع في أيار/ مايو 2023، بتكلفة 17 مليار دولار، وهو يدرّ نحو 4 مليار دولار كعائدات سنوية، وفقًا للتصورات الأولية للمشروع، ويوفر 100 ألف فرصة عمل في العراق، ومن المقرر أن تنتهي المرحلة الأولى من المشروع عام 2028، والثانية في 2033، والثالثة في 2050. وكانت التصاميم الأولية للمشروع تتضمن فرعًا إلى سورية فالبحر المتوسط، وفرعًا إلى تركيا، لكن بسبب الحالة الأمنية، وسوء حالة الطرق في سورية، وعدم رغبة بعض الدول المؤثرة في المنطقة في استغلال إيران لهذا الخط، استُبعد الفرع إلى سورية في المرحلة الحالية.
وفي حال تنفيذ هذا الممرّ، فإنه سيكون منافسًا للممرَّ الاقتصادي الذي اتُّفق عليه في أيلول/ سبتمبر 2023 لربط الهند بأوروبا، من خلال خط للسكك الحديدية عبر الإمارات العربية المتحدة والسعودية والأردن وإسرائيل، وهو يسهم في اختصار الوقت بين أوروبا وآسيا، ويعَدّ أيضًا منافسًا لقناة السويس.
أما تأثيره في سورية، فيتمثل بتحوّل طرق التجارة بين أوروبا والخليج مرورًا بتركيا، إلى العراق، ثم الخليج العربي، وكانت تلك الطرق تمرّ عبر سورية والأردن فالسعودية حتى عام 2011، مما يؤدي إلى خسارة سورية والأردن بشكل خاص للفوائد التي كانت تجنيها من مرور تلك البضائع عبرها.
من جانب آخر، نجد أن مرور هذا الطريق في المنطقة بين الحدود السورية العراقية وصولًا إلى تركيا، ولا سيما إذا كان تحت إشراف الحكومة العراقية، سوف يقطع الخط الرابط بين إقليم كردستان العراق ومناطق وجود حزب العمال الكردستاني PKK ومناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في شمال شرق سورية. وقد أشار الرئيس أردوغان إلى ذلك بقوله: “يجب ردم خطر الإرهاب ليمرّ طريق التنمية”، مما قد يؤثر في قوة الطرفين، وخاصة إذا كان الطريق والمعابر تحت إشراف الحكومة العراقية.
لكن هناك مجموعة من التحديات قد تواجه المشروع، أهمّها:
- الأوضاع الأمنية في العراق وعدم استقرار الأوضاع به، ووجود العديد من الميليشيات خارج نطاق القوات الحكومية.
- العلاقات المضطربة بين إقليم كردستان العراق والحكومة العراقية المركزية، وخاصة أن الحكومة العراقية تريد أن يمرّ الممر شمال غرب الموصل حتى فيشخابور بمحاذاة الحدود السورية العراقية، من دون أن يمر بأراض تتبع لإقليم كردستان العراق، مبررة ذلك بأسباب فنية، وبسبب جغرافية إقليم كردستان العراق، ومن غير المتوقّع أن توافق حكومة الإقليم على هذا دون أن يمرّ ضمن أراضيها، لذلك يرفضون فتح معبر فيشخابور، وهذا يعني أن الموافقة على المشروع تحتاج إلى تفاهمات سياسية واقتصادية بين الطرفين، ولا سيما ما يتعلق برواتب الموظفين، وقانون النفط والغاز وغيره، وكذلك تحتاج إلى تفاهم مع بافل طالباني، رئيس الاتحاد الوطني الكردستاني، الذي من المتوقع أن يعرقل إنجاز المشروع، ما لم يحظَ بمقابل، كأن يكون له منصب محافظ كركوك أو غيرها.
- سعي حزب العمال الكردستاني PKK وحلفائه لمنع مرور هذا الطريق، لأنّ إشراف الحكومة العراقية عليه سيؤدي إلى قطع تواصله مع سورية، كما أشرنا سابقًا.
- العلاقات بين تركيا وإقليم كردستان العراق، ومدى استقرارها في حال قيام تركيا بعمليات عسكرية أوسع ضد حزب العمال الكردستاني
- حالة التنافس في المنطقة بين مختلف القوى، والموقف الأميركي من هذا المشروع، حيث إن أميركا لا ترحّب به، وتفضّل الممرّ الهندي عليه، ومن غير المتوقع أن تدعمه إيران، لأنه يعزز قوة العراق الاقتصادية، وسيكون مدخلًا لنفوذ تركي أقوى في العراق، على حساب النفوذ الإيراني.
- الاتفاق الأمني:
وهو اتفاق مهمّ يتعلق بمحاربة حزب العمال الكردستاني PKK، وهدفه محاربة فلول الحزب في شمال العراق، وكانت تركيا والعراق قد توصلتا إلى اتفاق أمني في أذار/ مارس 2024 لمحاربة الحزب، خلال زيارة وزير الخارجية والدفاع ورئيس الاستخبارات التركية إلى العراق، وقامت العراق بخطوة مهمة بتصنيف حزب العمال الكردستاني PKK كمنظمة محظورة، أواخر عام 2023، وتم تشكيل لجنة مشتركة بين البلدين لبحث الخطوات القادمة، ومنها العملية العسكرية التركية التي ترغب تركيا في شنها في شمال العراق، وتؤيدها في ذلك الحكومة العراقية، وما زال هناك تفاوض مع الأطراف في إقليم كردستان العراق حولها.
أما عن تأثير الاتفاق المحتمل في سورية،في حال تطبيقه ومحاربة الحزب، فقد يؤدي هذا إلى إضعاف حزب العمال الكردستاني PKK في تلك المناطق، وهناك في هذه الحالة احتمالان: الأول أن ينتقل عناصر الحزب إلى مناطق سيطرة (قسد) في شمال شرق سورية، وهذا يؤدي إلى تقوية قوات PYD هناك، لكنه سيعزز الموقف التركي الراغب في القيام بعملية عسكرية ضد قوات (قسد) هناك، والثاني أن يضعف الحزب، وهذا سيؤدي إلى ضعف قوات PYD ، مما قد يجبرها على تغيير سياستها تجاه مكونات تلك المنطقة، وخياراتها السياسية، وقد يلجأ مقاتلو الحزب إلى إيران، وعلى الرغم من أن إيران لا ترحّب بهم، فإنها قد تستقبلهم لاستخدامهم كورقة للتفاوض مع تركيا.
لكن هذا الاتفاق قد يواجه العديد من التحديات منها:
- الموقف الأميركي مما سيجري، ولا سيما أن أميركا أجّلت الحديث عن موضوع الانسحاب من المنطقة، بعد أحداث غزة، ومن غير المتوقع أن تقبل انتقال قيادات قنديل إلى سورية.
- صعوبة جغرافية المنطقة التي يتحصن فيها PKK، وخاصة الحدود التركية العراقية التي يبلغ طولها 378 كم، ومعظمها تقع في مناطق جغرافية وعرة.
- معارضة بعض القوى العراقية، ومنها قوى شيعية وسنية وكردية تتعامل مع إيران، ولها علاقات مع حزب العمال الكردستاني PKK، وتحاول تركيا إقناع الحزب الديمقراطي الكردستاني (برازاني) بالانخراط معها في حربها ضد حزب العمال الكردستاني، وكانت قد حذّرت حزبَ الاتحاد الوطني الكردستاني (طالباني) بسبب موقفه من حزب العمال الكردستاني
- صعوبة حل مسألة وجود حزب العمال الكردستاني PKK، وخاصة أنها مسألة معقدة وتتطلب اتخاذ نهج واقعي وشامل وموضوعي للحل، في كلّ من سورية والعراق وتركيا وإيران.
- اتفاقية المياه
تُعدّ أزمة المياه من أخطر العقبات أمام تحسّن العلاقات بين البلدين، ولا سيّما أن قطع تركيا للمياه أضرّ بسمعة تركيا في العراق، وهناك بعض الجهات السياسية العراقية التي تستغل تلك الأزمة لتشويه العلاقات بين الطرفين، وبدأت تخلق حالة كره شعبي، في العراق وفي المنطقة عامة، للسياسات التركية ولا سيما في هذه المسألة[2].
وتأتي أهمية الاتفاق من اعتراف تركيا بحاجة العراق إلى المياه، حيث لم يكن العراق يحصل على حصته العادلة من مياه النهرين، إذ تضمّنت الاتفاقية، ومدتها 10 سنوات قابلة للتجديد، بنودًا عن تحديث منظومات الري في العراق، ووقف الهدر، وتشكيل لجنة مشتركة لدراسة القضية.
ولا شكّ في أنّ تطبيق ما يتعلّق بزيادة حصة العراق من مياه نهري دجلة والفرات سينعكس إيجابيًا على سورية، حيث يمر نهر الفرات، وقد يكون ذلك مدخلًا آخر للتواصل بين النظام السوري وتركيا، في حال تشكيل لجنة ثلاثية تعمل على تطبيق الاتفاق.
وفي النهاية، يمكن القول إن تأثير الاتفاقات بين أيّ بلدين في المنطقة لم يعد يقتصر على الطرفين الموقعين، إذ إن التأثير سيشمل دول المنطقة كلها، في ظلّ تشابك الملفات وتعقيدها، وتعدد القوى الإقليمية والدولية الفاعلة في المنطقة، وعلى رأسها أميركا، فضلًا عن الصين وروسيا الراغبتين في لعب دور أكبر في المنطقة.
وكانت العلاقات التركية العراقية قد مرّت، خلال العقود السابقة، بفترات اضطراب عديدة، كانت تتغير من التعاون إلى الخلاف في أيّ لحظة، وخاصة في حال عدم الاستقرار في المنطقة، فالعلاقات بينهما معقدة وتتأثر بالظروف والعوامل الإقليمية والدولية، وتسعى تركيا في ظلّ التحديات الاقتصادية التي تواجهها للمحافظة على سمعتها الجيّدة في العراق، ولذلك وُضعت الاتفاقات بسلّة واحدة، وقد تكون تلك الاتفاقات بوابة لتحسين العلاقات بين البلدين وبداية لمرحلة جديدة، لكن تحسّن علاقات العراق مع تركيا يُثير حفيظة إيران التي تريد أن تستفرد بالسيطرة على العراق وثرواته، لأن تلك الاتفاقات ستزيد من النفوذ التركي في العراق.
وتعيش منطقة الشرق الأوسط تطورات متسارعة، وهناك خطط لمشاريع اقتصادية كبيرة، وستبقى سورية خارج تلك المشاريع في ظل الظروف التي تعيشها، وغياب أفق الحل السياسي فيها، وقد تنعكس بعض الاتفاقات إيجابيًا على سورية، ولا سيّما ما يتعلق بالاتفاق الأمني ومحاربة PKK، وملف المياه.
[1] – محكمة دولية تلزم تركيا دفع 1.5 مليار دولار بدلاً عن نفط كردستان العراق، موقع RT بتاريخ 29 آذار/ مارس 2023، شوهد بتاريخ 28 نيسان/ إبريل 2024 على الرابط: https://bit.ly/49SQpSt
[2] Watheq Al-Sadoon: The Current Trajectories of Turkish-Iraqi Relations: New Prospects in Confronting Old Obstacles, ORSAM, 29 February, 2024, Link: https://bit.ly/3Wh5pXe
المصدر: مركز حرمون للدراسات المعاصرة
قد لا يعبر هذا البحث عن رأي الموقع