قط في الحصار

عبد الحفيظ الحافظ

ما كدنا نجلس أنا وولدي على الطاولة، وبيننا صحنان من رؤوس الدجاج، حتى وقف قط على حافة النافذة في الطابق الأول الفني، ينظر إلينا بأدب جم. هدد ثابت ديب: – لن أبدأ بتوزيع أكياس الفروج إلا إذا وقفتم في الطابور، وأمر ابنه مطيع أن يشرف على التنفيذ. امتثل الرجال لتعليمات الابن؛ خوفًا من سطوة الأب، وطالبت النساء بحقوقهن المهضومة تاريخيًا. سكت الرجال والنساء عمن يأتي في السيارات السوداوات، وبعض المسلحين، فتطير أكياس (الشيش) فوق الرؤوس. تجاهلت ذاك القط بعينيه الصارمتين، وكنت مرتبكًا من حنانٍ فُطر عليه ولدي البكر، أن ينهض ويدعو ذاك القط لمشاركتنا وجبتنا الخاصة، فهو أيضًا يعاني الحصار المفروض على الحي، ويرتعد رعبًا من الكلاب التي بدأت تهاجم القطط وتأكلها. سارت الأمور كما يحب ثابت، ويشتهي مطيع، حتى نفذت أكياس الفروج، وكانت تضم فخذين وجناحين، فسد أبو مطيع باب المحل بكرشه العامر، وصرخ بأعلى صوته مخاطبًا نصف الطابور الباقي، وكنت أقفُ في مقدمته: – الآن جاء دور الرقاب. وتذكرت القول الشعبي المأثور: (من يسترخص اللحم عند المرقة يندم)، فقلت (ومالو)، بحسب تعبير إخوتنا في مصر، في الرقبة لحم، وفي الرأس منقار للدفاع عن الحقوق، وفيها يقيم العقل. أخذ القط يغادر عتبة أدبه بالتدريج، ويرفع صوت أوتار حنجرته مطالبًا بنصيبه من الوليمة، فنهض ولدي، ووضع أمامه بقايا ما نأكله، وتجاهلت رأسين قدمهما سرًا إليه. بحثت عن (مخ) في الرؤوس فلم أعثر في واحدٍ منها، لهذا وصلت إلى طاولتنا بعد شهرين من الحصار، وقطع حنفية المواد الغذائية، وتساءلتُ: هل يدخل حليب الأطفال وأقمطتهم في صناعة المتفجرات؟ بعد ذلك العشاء، استيقظت مرعوبًا على قذائف، لم أشهد مثيلًا لها في حرب تشرين، وسمعت دبيب لصٍ في المطبخ. لم نغلق أبواب الشقة ولا النوافذ طلبًا للدفء، ومنع القط اللعين من العبث في المطبخ، لقد تركت مفتوحةٌ خوفًا من تحطم ما بقي منها نتيجة ما تحدثه القذائف، وتمزق ستر عوراتها بشوادر منظمة الأمم المتحدة، وعملًا بوصية غاندي: – سأدع أبواب ونوافذ بيتي مفتوحة، تهب إليها الرياح على ألا تقتلعني من بيتي. كان القط في انتظاري، وقد ثقب شريط منخل النافذة، وعندما شاهدني تسلل من الفتحة، وأطلق ساقيه للريح. أصلحت في اليوم التالي نهارًا ما مزقه القط ليلًا، لكنه كان يعود إلى تمزيقه من جديد، وأخذ يقوم بزياراته نهارًا. فكرت بنصب كمينٍ له، لكن تقديرًا لمعاناته الحصار، أُسقط في يدي، فالحي له باب وحيد وحاجز صارم، فسامحته، على الرغم من شقائي في إعادة ما يخربه. تعاطفت مع هذا القط على الرغم من شقائي من جرأته، وقدرت عاليًا إصراره على حقه في الحياة، فهو يواجه حصارًا ظالمًا على طريقته داخل بيتي. تذكرت قصةً قصيرةً في ستينيات القرن الماضي للقاص زكريا تامر، تؤرخ لقط يتصدى وحيدًا لكلب المندوب الفرنسي في دمشق برفقة حراسه، فضربه على صفحة خده، وقلع عينه، وتركه يتلوى ألمًا، وكانت القطط ترتعد خوفًا على سطوح المحلات. أعتذر من القاص الكبير تامر لهذا التناص غير المقصود، فقطه بطل في مرحلة نضال من أجل الاستقلال، أما قطي فقطٌّ في الحصار فحسب، يعيش في أجواء قذائف لم يشهدها ذلك البطل. حدثني قريبٌ لي شاكيًا أن أولاده أخذ بعضهم يعض بعضًا؛ لمرور أشهر طويلة، ولم يأكلوا لحمًا، فضحكنا حتى البكاء. في اليوم التالي قدمت له كيس الرقاب الذي ادخرته سرًا في زاوية الثلاجة ليوم آخر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى