قبل أن ندخل في أي تصويب أو تعريف للهويّة، يستطيع أيُّ امرئ أن يتلمسَ المفهوم الأولي، الخام، للهويّة الأقوامية لأي شعب، أو شعوب أو مجموعات سكانية، بأن الهويّة ظاهرة شعورية ولا شعورية في الوقت نفسه، تؤكد وتقوي وتعزز مدركات الانتماء للجماعة البشرية. فالإنسان بفطرته، حين يستشعر بأنه وحيد ومُفرد في هذا الكون، وفيما يحيط حوله، يستفيق بداخله حسٌّ قوي بالانتماء لجماعة ما، أية جماعة. وذلك في استجابة أو ردة فعل نفسية تلقائية، لتحصين الذات والمدافعة عنها.
الهوية الجمعية إذن هي طريقة وميل عقلي، واختيار طبعي للتصنيف ضمن مجموعة أو مجموعات. وهذه طبيعة قهرية، مجبولٌ ومجبورٌ عليها الإنسان، حتى لا يصابَ بجنون أو رهاب التوحد والفرادة في العالم. إنها طريقة في التصنيف للوعي بعالم الانتماء الجمعي.
هذه الطريقة لها دافع مصلحي شعوري مباشر (ولا شعوري غير مباشر)، وذلك للاحتماء بالمجموع. وعلى سبيل المثال، سوف أعتبر الانتماء إلى الإنسانية هويّة جماعية، والانتماء إلى العروبة أو الكردية هوية، أو الانتماء إلى العشيرة أو الطائفة، أو القرية أو المدينة أو الإقليم، أو أي أقوامية جمعية هو بعض الميل الإنساني في تصنيف نفسه ضمن هوية جمعية. أو غير ذلك من الانتماءات، مما هو مشترك، يغطي وجوده الفردي بغطاء جماعي، ليحتمي به، فيحميه في لحظة ضعف، ولو في الحد الأدنى النفسي؛ أي منح الشعور بالأمان.
حقيقة هذا الانتماء، تضعف أو تتعزز حسب درجة الشعور بالأمن الجماعي الشخصي، ما يضعف ويهمش بقية التصنيفات الأخرى ولو إلى حين. أو يقويها ويبعث فيها شعاعاً وهاجاً، حسب الواقع المحيط والمعاش. فالهوية هي استجابة رضّية مباشرة، لحاجة الإنسان للدفاع النفسي عن ذاته، قد تتقوى بحسب الظروف المحيطة والملائمة، أو تضعف وتضمحل إلى حدود التلاشي. (خاصة في حالات الحروب والفوضى، حيث تبرز الحاجة للدفاعات النفسية والفردية، أضعاف الحاجة في حالات الاستقرار وقوة الدولة الحديثة والضامنة للأفراد).
الهوية إذن هي وعي الذات من خلال وعي الجماعة، والإقرار بأن الدفاع عن هذه الهوية هو الكافل الوحيد للدفاع عن الذات الفردية، وبالتالي الدفاع عن هوية المجموع الذين تتشكل منهم هذه الذات. هذه الكينونة الفردية التي تتأسس من جزئية كينونة جمعية شاملة، مؤلفة من أفراد يتقاطعون جميعاً بكل صفاتها، ولا تتقاطع هي بكل صفاتهم، تلزمهم ـ أو يلتزمون ـ بـ (الدفاع عنها والاعتراف بها كموجود وحيد، يُعَرِّفهم تعريفاً قانونياً ودولياً)، ويُلزمونها بالمشترك الذي يتشاركونه معها. فهي حين تتعزز وتترقى ثقافياً، تصبح انتماءً إلى الذات والمجموع، وإلى المكان والزمان في آن واحد، وضمن خلطة واحدة يصعب تمايزها.
هذا البيان أو النص الذي صدر منذ أيام، من طرف تجمع أو جهة أطلقت على نفسها مسمى (حركة استقلال الجزيرة)، يجهد لأن يعرف الجزيرة الفراتية بمحافظاتها الثلاث، وكأنها هوية منفصلة مستقلة ومتمايزة عن مجموع السوريين. أي منفصلة كشعور هوياتي لسكانه بكونهم متمايزين (عرباً وكرداً ومسلمين سنة ومسيحيين وسريان وآشوريين وعشائر، ومستقلين في طريقة عيش ومصلحة متداخلة مشتركة)، عن باقي السوريين في مختلف محافظاتهم وأماكن وجودهم.
الواقع أن كاتب نص هذا البيان قد بذل جهداً غير قليل، للبرهنة على مسألتين خاطئتين بالمطلق، يستحيل البرهان عليهما: الأولى أن سكان الجزيرة الفراتية (المنطقة الشرقية)، هم أسوة بحجارة منطقتهم ومعادنها وأشجارها وأنهارها، موجودون (كظاهرة طبيعية في طبيعة المنطقة). وحسبما جاء في النص حرفياً: (قامت الهوية الجزراوية على الوجود والتفاعل والتطور المستمر والمشترك لآلاف السنين للجماعات البشرية التي عاشت في إقليم الجزيرة وحوض الفرات، بشكل متتابع ومتراكم منذ ما قبل الحقبة السومرية).
والحقبة السومرية التي قصدها كاتب النص، تعود إلى حوالي 7000 عام، فهي مفتتح الحضارة البشرية على ظهر الكوكب، وهذا منطق وذهنية ميتافيزيقية تلزمنا بالضرورة أن نتخيل سكان هذه المنطقة، موجودون في هذا الإقليم الجغرافي منذ آلاف الأعوام، مع استقرار ثابت لنمط إنتاج واحد، يقوم على الزراعة كما يصرح كاتب البيان.
كما أنه ـ أي هذا المنطق ـ لا يخلو من دعابة، إذا أردنا أن نحسن الظن به، ولا نُحَمِّله أية حمولة تاريخية أو أركيولوجية، أو حتى إثنية عرقية. طبعاً إذا ما علمنا أن مدن الفرات هذه، إنما هي مدن ـ في عمومها وغالبها ـ نشأت حديثاً. فدير الزور مثلاً، لا تعود لأكثر من مئتي أو ثلاثمئة عام. والرقة كانت مهجورة من السكان حتى قريباً من قرن ونصف. (في الرقة المدينة كان عدد السكان صفراً حتى عام 1860، أما بقية مئات من العشائر المتنقلة أو المستقرة على شواطئ الفرات، فلا يرجع وجودها لأكثر من مئتي أو ثلاثمائة عام في المنطقة). فأين كاتب النص من السومريين الموغلين بعيداً في تاريخ البشر والحضارة؟
ثم يتابع القول: (طوّر سكان الجزيرة وحوض الفرات هويتهم المشتركة من خلال التفاعل التاريخي المتواصل، لثقافات الجماعات البشرية المتنوعة، أثناء ممارسة أساليب عيشهم التي استندت إلى الزراعة بشكل أساس، شكلوا القيم والمعايير والأعراف الناظمة للعلاقات البينية على أساس تفاهمات ثقافية!!) {تفاهمات ثقافية عمرها أقدم من وجود السومريين في هذه المنطقة؟؟ قام بها المجتمع!!!} أي مجتمع قام بتلك التفاهمات الثقافية؟
في سياق من الانتقاء والاصطفاء الثقافي، هل يريد أن ننعش ذاكرته بأن “العقال والكوفية وخبز الصاج والتنور، وتربية ورعي الأغنام والعادات العشائرية وطرائق الزواج وعادات المضافات وتقاليد الزواج والطلاق والأعياد والأفراح والمآتم، وتعدد الزوجات وجرائم الشرف والثأر وحسن استقبال الضيف، وإكرام الكبير والعطف على الصغير.. ومئات العادات الأخرى”، هي نفسها موجودة في حوران وتدمر والقريتين وريف حماة وبادية الشام وأرياف إدلب وحلب.. وحتى بنسبة تتعدى الثمانين بالمئة، في أرياف دمشق وحتى في الساحل السوري؟
ثم يستأنف: (تقوم محددات الهوية الجزراوية على الاستجابة المستدامة لاحتياجات ومصالح السكان في إقليم الجزيرة وحوض الفرات، حفظ الأمن والسلم في الإقليم، الاستقلالية، الرفاهية الاقتصادية، التواصل مع المحيط، التجاوز والابتكار واحترام الذات الجماعي). وليس لدينا مبعث ريب أن كاتب البيان أو النص، يخلط خلطاً مشوشاً ـ ربما عن غير قصد ودراية ـ بين السلطات التشريعية والتنفيذية، للدولة الحاكمة، وبين الهويّة كما عرفناها في التقديم. فحفظ الأمن والسلم والرفاهية.. الخ.. هي مسؤولية الجهة المسيطرة والحاكمة والمتنفذة، ولا علاقة لها، وليست من اختصاص الهوية. هذا إذا اتفقنا بأن الهويّة شيء جِبِلّي خَلقي، مثل لون بشرتنا ولون شعرنا وطولنا والثؤلول الذي خلقه الله في صفحة وجهنا. فليس من مجالٍ للتخليط بين شعور بالانتماء إلى عرق أو هوية دينية أو طائفية أو أقوامية، من أي نوع كان، وبين السلم والرفاهية والاستقلالية، وغير ذلك من واجبات ولوازم تشريعية وتنفيذية لسلطة متحكمة.
الواقع أن أغرب غرائب البيان هي قوله: (التعلم الاجتماعي، وتقليد قيم الخير المستقرة لدى الجماعات المجاورة، خلق تجانساً اجتماعياً وثقافياً وتقاليدَ “هكذا وردت، والخطأ النحوي من المصدر”، وعادات مشتركة لسكان الجزيرة وحوض الفرات، بكافة مكوناتهم، هذا نسج هوية متمايزة مستقرة، رغم تنوع الهويات الفرعية).
هل كان مقصود كاتب البيان أن الهويّة الجزراوية أساسية ورئيسية، بينما هويتهم كسوريين، وهوياتهم الإثنية العرقية، والدينية والطائفية والعشائرية هي هويات فرعية؟ لست متأكداً بالضبط. ولكن أعجبُ اليوم، في عصر العولمة، حيث بدأت تَحسمُ كثيرٌ من الأمم العريقة والكبيرة والراسخة، في التاريخ والمتمكنة في الاستقرار الصناعي، والوطيدة الأساسات في الاستقرار الاجتماعي والحضاري، وتعمل على التوحد فيما بينها، والتكتل في مشاريع اندماجية، تَصبُّ فيها عشرات الهويات في مستقر هذه التجمعات ومشاريعها، وذلك في سعيها للتقدم والرفاهية وحماية كينونتها ووجودها. بينما مازلنا ونحن نسير سيراً نحو كوارث التمزق، ونتدحرج في هاويات التقسيم، ثم قسمة المقسم إلى ما لا نهاية، أن نسعى إلى قسمة جديدة ومفيدة كما يراها البيان، تقوم على تجانس اجتماعي وثقافي وتقاليد وعادات مشتركة، يسميه الكاتب: هوية خصوصية للسكان في …”دولة الجزيرة!!” كما ورد في عنوان النص.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا