كيانات “الأمر الواقع”: خراب الداخل ومأزق الحلفاء!

فايز سارة

ظهر في السنوات الأخيرة، تقدير أنّ كيانات الأمر الواقع في سوريا تتجه نحو استقرار نسبي، وقد ساهم هذا التقدير في تعزيز فكرة، إنّ ما يحدث يمثل بداية تقسيم فعلي لسوريا أو أنه خطوة على الطريق. ولم يكن هذا التقدير مقتصرًا على سياسيين ومتابعين للقضية السورية ومتصلين بها بمن فيهم دبلوماسيون واعلاميون، بل امتد إلى داخل الكيانات بدرجة وأخرى، لعل بين تعبيراتها الواضحة توجه ظهر علانية عند الإدارة الذاتية، تمثل في إطلاق “دستور” يرسم ملامح “الدولة الوليدة”، فيما كانت الحالة عند الآخرين أقل تعبيرًا على نحو ما حصل في مناطق السيطرة التركية، التي أطلقت فيها “هيئة تحرير الشام” وحكومة الإنقاذ التابعة لها ما يشبه “وثيقة دستورية”، ترسم أفق علاقات وتطوّر “إمارتها الإسلامية”.

غير أنّ “الاستقرار النسبي” تعرّض، لا سيما في العام الماضي وفي الأشهر الأخيرة خصوصًا، إلى هزات عنيفة، لم تكشف هشاشة أوضاع كيانات الأمر الواقع في صراعاتها الداخلية العنيفة فحسب، بل بؤس توجهات القائمين عليها في المراهنة على تحوّل كياناتهم إلى مشروع دولة أو يكون خطوة في الطريق إليها.

ورغم التمايز القائم بين سلطات الأمر الواقع في المناطق الثلاثة، فإنّ كياناتها تتشارك في أساسيات الخراب الداخلي المتعدد المجالات والمستويات، وتكشف عمق المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية إضافة إلى الأمن باعتباره أساس المشاكل، لأنه قوة التأثير المباشر فيها، والموجه الرئيسي لكل ما يمكن القيام به في السياسة والاقتصاد والمجتمع.

وإذا كان لنا أن نبدأ من تشخيص المشاكل السياسية، فإنّ أولها يبيّن غياب الأفق السياسي لدى سلطات الكيانات الثلاثة، حيث لا يتوفر عند أي منهم خطة للعمل والتفاهم ولا للاختلاف مع الآخرين، سوى فكرة تمسكه بالبقاء في السلطة حيث هو، ووفق الرؤيا والمصالح التي يراها، ويسعى إلى تحقيقها بغض النظر عن موقف “الشركاء- الأعداء” في الكيانات الأخرى، بل بغض النظر عن مواقف ومصالح الشركاء الأقرب المقيمين تحت سلطته، ويزعم أنهم ممثلون ومشاركون فيها، والمثال ملموس في استبعاد القسم الأكبر من سكان مناطق سيطرة النظام بحجة “الإرهاب” و”دعم الإرهابيين”، وفي استبعاد القسم الرئيسي العرب في مناطق الإدارة الذاتية تحت إدعاء أنهم “دواعش”، واستبعاد من يوصف بأنه “كردي انفصالي” ومن يصنف خارج التوجه الإسلامي- السني في مناطق السيطرة التركية وخاصة في إدلب التي تديرها “هيئة تحرير الشام”.

النتائج الاجتماعية والمعاشية الكارثية التي تحيط بالسوريين هي نتيجة الممارسات الجاري رسمها وتطبيقها

ومن مثال مشكلة السياسة لدى سلطات الأمر الواقع، يمكن فهم خلفية المشاكل الاقتصادية القائمة، والتي أدت تداعياتها إلى انهيار الواقع الاقتصادي والمعاشي للسوريين في كل المناطق، رغم أنّ كل واحدة منها، تستطيع لو كانت السلطة فيها راغبة وقادرة على إدارة الموارد المحلية لوفرت فرص حياة مقبولة، بل كريمة للسكان المقيمين تحت سيطرتها، حيث النفط والزراعة في مناطق الإدارة الذاتية، والزراعة وتربية المواشي والحرف في مناطق السيطرة التركية، وتنوع زراعي وصناعي وحرفي في مناطق سيطرة نظام الأسد.

إنّ بديل السياسات الاقتصادية الناجحة، التي يفترض تنفيذها، حالات من الفوضى والفساد ومحاباة أمراء الحرب وتجارها، واعتمادهم شركاء القائمين على السلطة، ونهب الموارد المحلية من الضرائب والرسوم وأجزاء من تحويلات المهاجرين، وتخصيص بعضها لأدوات الحاكمين وأزلامهم، وكلها أمور شائعة في المناطق الثلاثة، التي تشاركت سلطاتها نهب المساعدات الدولية حتى في زمن كارثة الزلزال التركي-السوري عام 2023، وكلها وقائع تؤكد أنّ النتائج الاجتماعية والمعاشية الكارثية التي تحيط بالسوريين في كل المناطق من بطالة وفقر وجوع وتدهور الخدمات، ليست قدرًا مكتوبًا، ولا هي نتيجة للعقوبات الدولية المفروضة على نظام الأسد وشخصياته لما قاموا به من جرائم، بل إنها في كل الأحوال نتيجة الممارسات الجاري رسمها وتطبيقها.

وانتقالًا إلى الأمن أُمّ المشاكل عند سلطات الأمر الواقع، يمكن القول إنّ أهميتها تتصل بالخراب العام الذي يلف جوانب الحياة في المجالات المختلفة، مما يتطلب من السلطة اليقظة المتواصلة، وتأكيد جاهزية قبضتها لمواجهة أي تحديات طارئة في المستويين الداخلي والخارجي وفي أي مجال كان، بما يشمل أزمات المرور والشجارات العائلية، التي يخشى المسؤولون في سلطات الأمر الواقع والطواقم الأمنية، أن تهزّ كياناتهم الهشة ووجودهم ودوائر نفوذهم.

إنّ الخطورة التي تحيط بموضوع الأمن، تجعل منه في موقع الأهمية القصوى، وهذا يفرض على السلطات، تركيزًا خاصة في وظائف وقدرات وميزانيات الأجهزة الأمنية وولاء القائمين عليها، بل يتطلب الأمر إعطاء هذه الأجهزة صلاحيات واسعة، تدفعها إلى التغول على المجتمع، بل وعلى السلطة أو مفاصل منها خاصة مع غياب القانون والقضاء النزيه، وحسن تنفيذ الإجراءات، مما جعل الأمن صاحب القرار الأول والأخير في حياة السكان غالب الأحيان.

لقد لعب وجود الحلفاء إلى جانب سلطات الأمر الواقع دورًا مهمًا. إذ قدّم دعمًا معنويًا وسياسيًا، كما قدّم دعمًا أمنيًا وعسكريًا واقتصاديًا على نحو ما فعل الإيرانيون والروس لنظام الأسد في سنوات الصراع، وأقل من ذلك فعل الأميركيون مع الإدارة الذاتية، والأتراك مع شمال غرب سوريا، غير أنّ الاوضاع اليوم تأخذ مسارات أخرى بالنسبة لكل الحلفاء على الإطلاق.

حلفاء النظام الروس غارقون اليوم في حربهم على أوكرانيا وسط تحدٍ حافل باحتمالات صعبة لا تتبيّن له نهاية في الأفق، وقد خفف الروسي من وجوده ودوره ودعم شركائه في الملف السوري وسط لوم معلن لنظام الأسد، والاتهام بضعف استجاباته للآراء الروسية من جهة، وتقصيره في وفاء ديونه لروسيا. ولا تقل سوءًا أحوال وشكاوى الحليف الإيراني في سوريا عن معاناة الحليف الروسي.

فمن الواضح أنّ إيران تواجه وضعًا صعبًا في سوريا في ظل تصعيد إسرائيلي هدفه الضغط عليها للخروج من سوريا، ويحظى هدف إسرائيل بموافقة أميركية، ان لم نقل بدعم، ولدى إيران شك بسلوك حليفيها (كل لأسبابه) إزاء سلوك إسرائيل، التي لا تدمر كثيرًا مما اشتغل عليه الإيرانيون في سوريا، بل تهدد بضياع فرصة سيطرة استراتيجية على سوريا باعتبارها ضرورة إقليمية، تم الاشتغال عليها عقود من السنوات، وكلفت الكثير بينها ما يزيد عن خمسين مليار دولار، وهي ديون طهران على نظام الأسد في العقد الأخير، وليس من أفق لاستردادها، وإيران التي غالبًا ما استطاعت التعامل مع ظروف صعبة في سوريا، فإنها اليوم تواجه ظروفًا غير مسبوقة، قد لا تستطيع الخروج منها.

تركيا حليف شمال غرب سوريا، تعيد ترتيب أوضاع مناطق سيطرتها، تعزز موقع حلفائها التابعين للائتلاف الوطني المعارض من الحكومة المؤقتة إلى الجيش الوطني التابع لها، وتضعف بصورة ملحوظة “هيئة تحرير الشام” وحكومة الإنقاذ التابعة لها، التي من الواضح، أنّ أنقرة تخلت عن أي دور يمكن أن تقوم به الهيئة لصالح تركيا، بل أنّ تركيا ربما تذكرت أنّ “هيئة تحرير الشام” جماعة إرهابية متطرفة يقودها أبو محمد الجولاني أحد الكادرات البارزة في تنظيم “القاعدة”، وأنّ العلاقة معها لن تكون عاملًا إيجابيًا يتوافق مع جهودها لحرب واسعة في شمال شرق سوريا لدفع قوات سوريا الديمقراطية بعيدًا عن حدودها وإقامة منطقة آمنة وعازلة.

بقي طرف واحد من حلفاء كيانات الأمر الواقع للتوقف عنده، وهو الولايات المتحدة حليف الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا، وهو يتابع حركة نوسان في علاقته مع الطرفين الحليفين الخصمين في شمال سوريا. تركيا حليفة واشنطن والشريك في حلف شمال الأطلسي والإدارة الذاتية شريك واشنطن في التحالف الدولي للحرب على “داعش”، وإحدى أهم أدوات أدواتها السورية، وقد استطاعت القيام بهذا الدور والتواصل بأقل قدر من استياء الطرفين الراغبين في البقاء على “شراكة ما” مع واشنطن في سوريا.

وسط خراب الداخل ومأزق الحلفاء في كيانات الأمر الواقع السوري. فإنّ السؤال المطروح والضروري، لا يتعلق بالمستقبل فقط. بل بما ينبغي القيام به اليوم وليس غدًا.

المصدر: “عروبة 22”

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. تشخيص موضوعي للمشاكل السياسية لسلطة أمر الواقع بالجغرافية السورية الأربعة وليس الثلاث نظام دمشقومسد/قسد وهتش و الحكومة المؤقتة بالرعاية التركية، غياب الأفق السياسي لدى سلطة الكيانات االأربعة للتعامل والتفاهم فيما بينهم لسورية واحدة موحدة ديمقراطية، لأن الجميع يتمسك بأحقيته بالسلطة بإعتباره الأصح لسورية المستقبل .

زر الذهاب إلى الأعلى