من أوكرانيا إلى إسرائيل: جبروت التوقعات ومآلاتها || فوز في المعركة لكن خسارة الحرب

دومينيك تيرني

لا يقيم المراقبون الخارجيون النتائج العسكرية من خلال إحصاء بسيط للمكاسب والخسائر في ساحة المعركة، بل يقارنون هذه النتائج بتوقعاتهم. ومن هذا المنطلق، من الممكن أن تفقد الدول أراضيها لكنها تبقى فائزة في أعينهم إذا حققت نجاحاً أكبر مما كان متوقعاً. في المقابل، يمكن للدول أن تستولي على الأراضي وينظر إليها على أنها خاسرة إذا كان أداؤها أقل من المستوى المتوقع.

في بداية عام 2022، أشاد معظم العالم بالقوات الأوكرانية الشجاعة التي تصدت للجيش الروسي على حدود خاركيف وكييف. حتى أن رئيس الوزراء البريطاني آنذاك بوريس جونسون قال “إنها أعظم لحظة في تاريخ أوكرانيا، وستبقى محفورة في الذاكرة وسترويها الأجيال المقبلة”، فيما قال المستشار الألماني أولاف شولتز “لقد أظهر جنود أوكرانيا شجاعة استثنائية”. وفي خطاب ألقاه الرئيس الأميركي جو بايدن في وارسو، أعلن أن الجيش الروسي “واجه خصماً يضاهيه قوة وهو المقاومة الأوكرانية الشجاعة والصلبة”.

بعد مرور عامين، وجد الجنود الأوكرانيون أنفسهم من جديد يقاومون هجمات عسكرية روسية ضخمة، وهذه المرة في دونيتسك، ولوغانسك، وأماكن أخرى، لكنهم الآن ما عادوا يتلقون ثناء كبيراً. وعوضاً عن تقدير بسالة أوكرانيا، تواجه البلاد انتقادات كثيرة من المراقبين لأنها لم تغير مجرى الأحداث وتنتقل إلى استراتيجية هجومية. في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، على سبيل المثال، أدلت رئيسة الوزراء الإيطالية جيورجيا ميلوني بتصريحات مهمة لشخصين روسيين (كانا يتظاهران بأنهما مسؤولان في الاتحاد الأفريقي): “لا بد لي من قول الحقيقة، إن درجة الإرهاق كبيرة على كل الجبهات. نحن نقترب من اللحظة التي سيدرك فيها الجميع أننا بحاجة إلى إيجاد مخرج”. قد تكون أوكرانيا قادرة مجدداً على صد معتد يفوقها قوة، بيد أن الوضع الحالي يشير إلى طريق مسدود [حالة جمود في القتال] أو حتى هزيمة محتملة.

إن التحول في التصورات العالمية يشكل مثالاً على جبروت التوقعات [طغيان التوقعات وسيطرتها وتأثيرها الجبار]، وهو تعبير يشير إلى أن الافتراضات في شأن نتيجة الحرب قد تشوه الأحكام حول المنتصر الفعلي في نهاية المطاف. فالمراقبون الخارجيون، سواء من الخبراء أو الأشخاص العاديين، لا يقيمون النتائج العسكرية من خلال إحصاء بسيط للمكاسب والخسائر في ساحة المعركة، بل يقارنون هذه النتائج بتوقعاتهم. ومن هذا المنطلق، من الممكن أن تفقد الدول أراضيها لكنها تبقى فائزة في أعينهم إذا حققت نجاحاً أكبر مما كان متوقعاً. في المقابل، يمكن للدول أن تستولي على الأراضي وينظر إليها على أنها خاسرة إذا كان أداؤها أقل من المستوى المتوقع. لكن الاستنتاجات حول الفائزين والخاسرين، مهما كانت مشوهة، يمكن أن تخلف تأثيرات ارتدادية فتشكل الأحداث في ساحة المعركة. فأوكرانيا مثلاً خسرت بعض أراضيها خلال الأسابيع الأولى من الغزو الروسي، لكن دفاع كييف الثابت على نحو غير متوقع أكسبها مساعدة غربية واسعة النطاق، الأمر الذي ساعدها في تحرير مدن متعددة في الأشهر التالية.

إن جبروت التوقعات يتجلى أيضاً في حرب كبرى أخرى، وهي الحملة العسكرية الإسرائيلية على غزة. عندما بدأ هذا الصراع، قطع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وعداً كبيراً ومبالغاً فيه بأن بلاده سـ”تسحق حماس وتدمرها”. في الحقيقة، ارتكب نتنياهو خطأ حينما أعلن أنه سيقضي على الجماعة بشكل كامل. فـ”حماس” لا يمكن حصرها في شكل أو هيكل معين، أو في مكان واحد، وهي مدججة بالسلاح، مما يعني أن قضاء إسرائيل عليها شبه مستحيل. وتعهد نتنياهو يجعل من الصعب للغاية النظر إلى إسرائيل على أنها الفائز الواضح في الحرب. وعندما تصطدم التوقعات بالواقع، غالباً ما يؤدي ذلك إلى حدوث أزمة. إذاً، فخيبة الأمل الإسرائيلية من حرب نتنياهو يمكن أن تهز السياسة الإسرائيلية.

بين التصورات والواقع

في البداية، قد يبدو أن مفتاح النجاح في الحرب هو إظهار ثقة كبيرة في القدرة على تحقيق النصر. فعلى رغم كل شيء، قد يكون التفاؤل في زمن الحرب عاملاً يضاعف القوة، في حين يمكن للروح الانهزامية أن تتفشى بسرعة مثل العدوى. إذا اعتقد الجميع أن أحد الطرفين سيفوز بالمعركة، فهو قد ينتصر حقاً، في نوع من النبوءة الذاتية التحقق [أي التي تصبح حقيقة واقعة بمجرد الإيمان بها]. في كتابه الحرب والسلام، على سبيل المثال، جادل ليو تولستوي بأن الجنود الروس فروا منسحبين من معركة أوسترليتز عام 1805 ضد الفرنسيين، على رغم تكبد الطرفين خسائر مماثلة، وذلك لأن القوات الروسية كانت تعاني أزمة ثقة. وكتب تولستوي “قلنا لأنفسنا إن المعركة خاسرة، ولذلك خسرناها”.

لكن التصور بأن الانتصار سيكون مؤكداً يمكن أن يشكل خطراً أيضاً. فالحكم على من ينتصر ومن يهزم في الحرب أمر معقد للغاية، وقد يبني الناس أحكامهم [حول الفائز والخاسر] من خلال مقارنة نتائج ساحة المعركة بتوقعاتهم الخاصة، التي يمكن أن تكون كيفية إلى حد ما. ونتيجة لذلك، فإن الفائز المتصور في الصراع قد لا يجسد النتيجة الفعلية في ساحة المعركة.

لنأخذ في الاعتبار هنا ما حدث في عام 1975 عندما استولت قوات الخمير الحمر، الجماعة الشيوعية في كمبوديا، على السفينة التجارية “ماياغز” وطاقمها الأميركي المؤلف من 39 فرداً. رداً على ذلك، أطلقت واشنطن مهمة إنقاذ تحولت إلى كارثة. لقي 41 عسكرياً أميركياً حتفهم، وأصيب أكثر من 50 آخرين، وترك ثلاثة من مشاة البحرية الأميركية عن طريق الخطأ في كمبوديا، حيث ألقي القبض عليهم وأعدموا. أطلق سراح طاقم السفينة “ماياغز” لاحقاً، لكن ليس بفضل مهمة الإنقاذ. في الواقع، تبين أن قائداً محلياً من الخمير الحمر أسر أفراد الطاقم الأميركيين عن طريق الخطأ، لذا أصدر كبار المسؤولين الكمبوديين أمراً بإطلاق سراحهم قبل بدء مهمة الإنقاذ الأميركية حتى. ولم تسفر المهمة آنذاك سوى عن وقوع إصابات وخسائر.

لكن في الولايات المتحدة، رأى الأميركيون أن مهمة الإنقاذ حققت نجاحاً كبيراً. في أحد استطلاعات الرأي، اعتبر 79 في المئة من الناس أن تعامل الرئيس الأميركي جيرالد فورد مع الأزمة كان “ممتازاً” أو “جيداً”، في مقابل 18 في المئة رأوا أن تعامله مع الوضع كان “مقبولاً فحسب” أو “ضعيفاً”. وارتفعت معدلات تأييد فورد بشكل عام. كان أحد العوامل الأساسية التي أسهمت في هذا الرد الإيجابي هو التوقعات المنخفضة التي عقدها الأميركيون على قدرات جيش بلادهم. حينذاك، كانت فيتنام الجنوبية سقطت للتو في أيدي القوات الشيوعية، وبالتالي كانت الثقة في القوة العسكرية الأميركية في أدنى مستوياتها. ولذلك، كان الأميركيون سعداء برؤية واشنطن تقدم أداء قوياً ظاهرياً. وفي أحد استطلاعات الرأي، اتفق 76 في المئة من الأميركيين على أنه “بعد الخسائر في فيتنام وكمبوديا، لم يكن أمام الولايات المتحدة أي خيار سوى اتخاذ إجراءات حاسمة، بل وحتى المخاطرة بحرب أكبر، لاستعادة السفينة وطاقمها”.

وعلى النقيض من ذلك، يمكن للتوقعات العظيمة أن تثير خيبة أمل كبيرة. في عام 1967، بدأ الرئيس الأميركي ليندون جونسون “حملة التقدم” [مبادرة أطلقها جونسون لإقناع الرأي العام الأميركي بأن بلادهم تحرز تقدماً كبيراً في المجهود الحربي، تضمنت نشر معلومات تصور الشيوعيين على أنهم ضعفاء] لإظهار أن الولايات المتحدة كانت هي المنتصرة في فيتنام. ونشرت الإدارة كماً هائلاً من الإحصاءات لإثبات تراجع الشيوعيين وانسحابهم، مما عزز ثقة الأميركيين. فارتفع الدعم الشعبي للمجهود الحربي مثلما كان متوقعاً. ولكن بعد ذلك، في يناير (كانون الثاني) 1968، شنت القوات الشيوعية هجوم “تيت” واستهدفت كل مدينة مهمة تقريباً في جنوب فيتنام. من الناحية التكتيكية، شكل هذا الهجوم كارثة بالنسبة إلى الشيوعيين، إذ أوقعت بهم القوات الأميركية والفيتنامية الجنوبية خسائر فادحة. لكن الأميركيين، الذين قيل لهم إن خصومهم بدأوا يفقدون قوتهم وزخمهم، رأوا الهجوم بمثابة هزيمة. ونتيجة لذلك، تراجعت ثقة الرأي العام الأميركي في الحرب. في المقابل، تحولت الخسارة في ساحة المعركة إلى فوز استراتيجي بالنسبة إلى الشيوعيين، لأنها مهدت الطريق لانسحاب القوات الأميركية الطويل [من فيتنام].

ديفيد في مواجهة جالوت

بالنسبة إلى أوكرانيا، عمل جبروت التوقعات في البداية لصالحها. بعد الغزو، كانت كييف هي المستضعفة، إذ قدر المسؤولون الحكوميون الأميركيون أن روسيا قد تجتاح معظم أنحاء البلاد في غضون أيام قليلة. وعندما فشلت روسيا في الاستيلاء على العاصمة، أعجبت الدول الغربية بأداء أوكرانيا، مما شجعها على تقديم مزيد من المساعدات المادية. في المقابل، شنت أوكرانيا سلسلة من الهجمات المضادة الناجحة التي حررت ما يقرب من نصف الأراضي التي كانت وقعت في قبضة موسكو.

ولكن في خضم ذلك، كانت التوقعات الكبيرة تثقل كاهل كييف. بدأ المراقبون الغربيون يشيرون إلى أن أوكرانيا قد تنجح بطريقة أو بأخرى في طرد روسيا المنهكة من جميع الأراضي التي استولت عليها موسكو في عام 2022، وربما حتى تلك التي سيطرت عليها في عام 2014. بعض المحللين، مثل إليوت كوهين، الأستاذ في جامعة جونز هوبكنز والمسؤول السابق في وزارة الخارجية، أشاروا إلى أن الهجمات الأوكرانية قد تؤدي إلى انهيار الجيش الروسي. ومن جانبها، شجعت الحكومة الأوكرانية طريقة التفكير هذه، فتعهد الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بأن أوكرانيا ستحرر كل أراضيها وستقاتل “حتى النهاية” من دون “أي تنازل أو تسوية”. وقال كبار المسؤولين الأوكرانيين صراحة إن الهزائم المتتالية التي ستواجهها روسيا قد تجبر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على التنحي عن السلطة.

لكن هذه التوقعات لم تكن تمت للواقع بصلة. على رغم أن روسيا تكبدت عشرات، لا بل مئات الآلاف من الخسائر البشرية، إلا أنها ظلت أقوى بكثير من أوكرانيا. وكان ناتجها المحلي الإجمالي تسعة أضعاف حجم ناتج جارتها، وعدد سكانها أكبر بثلاثة أضعاف. وبعد تعرضها للنكسات، حشدت موسكو مزيداً من القوات، وأمضت أشهراً في زرع الألغام وإعداد دفاعات أخرى، وتعلمت استخدام الطائرات من دون طيار بشكل أكثر فعالية. ونتيجة لذلك، عندما شنت أوكرانيا هجوماً متوقعاً إلى حد كبير في يونيو (حزيران) 2023، واجهت مقاومة شرسة. وسرعان ما أحبطت جهودها.

وفي الغرب، أدت التوقعات المبالغ فيها في شأن نجاح كييف الوشيك إلى خيبة أمل واسعة النطاق إزاء الهجوم الأوكراني المضاد، فضلاً عن التكهنات القاتمة في شأن مستقبل الحرب. فقال السيناتور الجمهوري رون جونسون في ديسمبر (كانون الأول): “أعرف أن الجميع يرغب في فوز أوكرانيا، لكنني لا أعتقد أن هذا أمر ممكن”. ووجد أحد استطلاعات الرأي الذي أجري بين الأوروبيين في أوائل عام 2024 أن 10 في المئة فقط توقعوا انتصار أوكرانيا في ساحة المعركة، في حين توقع 20 في المئة انتصار روسيا وتوقع 37 في المئة التوصل إلى اتفاق تسوية. حتى أن المسؤولين الأميركيين والأوروبيين، الذين كانوا يشعرون بالقلق من أن الحملة وصلت إلى طريق مسدود وأن كييف تعاني نقصاً في الرجال والعتاد، انخرطوا في مناقشات مع أوكرانيا في شأن مفاوضات السلام.

وترجم هذا الجو الكئيب المتشائم إلى شكوك متزايدة في شأن تقديم المساعدة لأوكرانيا. في أكتوبر (تشرين الأول)، على سبيل المثال، وصف السيناتور الجمهوري مايك لي الصراع بأنه “الحرب الأبدية الجديدة التي تخوضها أميركا”. في ديسمبر، قال رئيس مجلس النواب مايك جونسون: “يبدو أن ما تطلبه إدارة بايدن هو مليارات الدولارات الإضافية من دون رقابة مناسبة، ولا استراتيجية واضحة للفوز، ومن دون تقديم أي من الإجابات التي أعتقد أن الشعب الأميركي يستحق الحصول عليها”. وفي يناير، أعلن رئيس الوزراء السلوفاكي روبرت فيكو أن السبيل الوحيد لإنهاء الصراع هو تخلي أوكرانيا عن الأراضي.

في جوهر الأمر، ربما تحمل الشكوك المتزايدة تجاه أوكرانيا جانباً إيجابياً: فقد تصور كييف على أنها دولة مستضعفة تواجه صعوبات ساحقة، أشبه بصراع ديفيد مع جالوت [في القصة، ينجح داوود أو ديفيد الراعي الشاب، في هزيمة العملاق جالوت بحبال وحجر، على رغم أنه أصغر وأضعف منه بكثير] ويخفض سقف التوقعات المستقبلية. وفي مثل هذا السيناريو، قد يشيد المحللون بقدرة أوكرانيا على الصمود وينتقدون وتيرة التقدم الروسي البطيئة. ففي نهاية المطاف، على رغم تمتعها بقوة أكبر، لا تزال روسيا تجد صعوبة في الاستيلاء على الأراضي الأوكرانية، في حين حققت كييف انتصارات واضحة في بعض ساحات القتال، على غرار استهداف البحرية الروسية في البحر الأسود. وبالنسبة إلى أوكرانيا فإن الاستمرار في مقاومة روسيا حتى الوصول إلى طريق مسدود تقريباً يشكل إنجازاً كبيراً. وفي هذا السياق تستطيع كييف أن تدير التوقعات بشكل أفضل من خلال الجمع بين الثقة في نجاحها على المدى الطويل والتقييم الواقعي للصعوبات التي تواجهها في الأمد القريب. على سبيل المثال، يتعين على أوكرانيا أن توضح لصناع السياسات وجمهورها العالمي أنها دولة مستضعفة إلى حد كبير تقاتل دكتاتوراً وحشياً وربما ثالث أعظم جيش في العالم، لكنها على رغم ذلك ستنتصر في نهاية المطاف في كفاحها من أجل الاستقلال. وقد تساعد هذه القصة في إطلاق العنان لمزيد من المساعدات الغربية.

قطع وعود مبالغ فيها وعدم تحقيقها

خلافاً لأوكرانيا، تتمتع إسرائيل بعقود من الخبرة مع جبروت التوقعات، بدءاً بحرب يوم الغفران في أكتوبر 1973. خلال ذلك الصراع، تغلبت إسرائيل بشكل جلي على الجيشين المصري والسوري، لكن الإسرائيليين على رغم ذلك نظروا إلى الحملة باعتبارها إخفاقاً مكلفاً. وبعد انتهاء القتال، أنشأت البلاد لجنة مسؤولة عن معرفة ما الذي سار بشكل خاطئ، واستقال كبار المسؤولين في قوات الدفاع الإسرائيلية. وكذلك فعلت رئيسة الوزراء الإسرائيلية غولدا مائير.

كان الإسرائيليون متشائمين جزئياً لأن حرب يوم الغفران شكلت فشلاً استخبارياً حكومياً. لكن السبب الأعمق هو أن الإسرائيليين وضعوا توقعات عالية وعقدوا آمالاً كبيرة على قدرة قواتهم العسكرية، وهي توقعات تمتد جذورها إلى تجارب من الماضي. في حرب الأيام الستة عام 1967، هزمت إسرائيل تحالفاً من الدول العربية بسرعة هائلة، مما دفع الإسرائيليين إلى الاعتقاد بأن جيشهم كان في الواقع لا يقهر. ومن هذا المنظور، بدت المعركة الأصعب في عام 1973 وكأنها هزيمة. (وبالاسترجاع، أسهمت الثقة المفرطة الإسرائيلية في عام 1973 أيضاً في التسبب في فشل استخباري، لأن الإسرائيليين افترضوا أن الدول العربية لن تجرؤ مطلقاً على الهجوم). وفي الوقت نفسه، أدت النتيجة الكارثية لحرب 1967 في مصر إلى خفض سقف النجاح في حرب عام 1973 بشكل كبير. وما زال المصريون يحتفلون بحرب أكتوبر باعتبارها انتصاراً على رغم خسارتهم في ساحة المعركة.

وتكرر هذا النمط في عام 2006، عندما قاتلت إسرائيل “حزب الله”، الجماعة المسلحة المدعومة من إيران، في الأراضي اللبنانية. خلال الحرب قتلت إسرائيل مئات من مقاتلي “حزب الله”، وبعد ذلك، أصبحت الحدود الإسرائيلية – اللبنانية أكثر هدوءاً إذ استبدلت قوات “حزب الله” بالجيش اللبناني وقوات الأمم المتحدة. على رغم ذلك، اعتبر الإسرائيليون أن الحرب كانت خاسرة. كانوا افترضوا أن بضعة آلاف من مقاتلي “حزب الله” لن يضاهوا قوات الدفاع الإسرائيلية الجبارة قوة، وأن الجماعة المسلحة ستدمر. ولذلك، شعر الإسرائيليون بالغضب عندما نجا “حزب الله” واستمر في إطلاق الصواريخ على أراضيهم. وقال وزير الدفاع السابق، موشيه أرينز، إن إسرائيل قدمت لـ”حزب الله نصراً في لبنان”. وأشارت استطلاعات الرأي إلى أن أغلب الإسرائيليين أرادوا استقالة رئيس الوزراء إيهود أولمرت (على رغم تمسكه بالسلطة لبضعة أعوام أخرى). وعلى غرار ما حدث بعد حرب يوم الغفران، أنشأت الحكومة الإسرائيلية لجنة رسمية للتحقيق في الأخطاء التي ارتكبت.

إن جبروت التوقعات قد يسهم اليوم في تشجيع الإسرائيليين على النظر إلى صراعهم في غزة على أنه حرب فاشلة. فـ”حماس”، تماماً مثل “حزب الله”، أضعف بكثير من إسرائيل من الناحية المادية، مما يزيد ثقة الإسرائيليين في قدرة جيشهم على تحقيق نصر سهل. وعمل المسؤولون الإسرائيليون على تعزيز هذه التوقعات من خلال قطع وعود كبيرة، مثل إعلان نتنياهو أن الحرب في غزة ستنتهي بانتصار إسرائيلي شبيه بذاك الذي حققه الحلفاء في الحرب العالمية الثانية. وأعلن في فبراير (شباط) أنه “لا يوجد حل آخر” لإسرائيل “سوى النصر الكامل والنهائي”. ومن المغري بالنسبة إلى نتنياهو أن يستخدم مثل هذا الخطاب لحشد الدعم، وإظهار الإصرار، وتبرير التضحية بالأرواح. لكن المغالاة في أهداف الحرب والوعود بالنصر تمهد الطريق لشعور الإسرائيليين بخيبة الأمل من خلال الإيحاء بأن النتيجة الوحيدة المقبولة هي النصر التام. وفي الواقع، يتطلب تحقيق الانتصار إما إخراج “حماس” بالكامل من غزة أو إجبار الحركة على الاستسلام. ومن غير المرجح حدوث أي من الأمرين.

لقد أصبح من الواضح على نحو متزايد أن هزيمة “حماس” ليست بالأمر السهل، فهي منظمة راسخة تعمل من خلال شبكات عائلية وعشائرية. وهي جزء من “محور المقاومة”، المؤلف من شبكة من الجهات الفاعلة الحكومية وغير الحكومية التي تضم إيران، و”حزب الله”، والحوثيين في اليمن، وميليشيات مختلفة في العراق وسوريا، وجميعها قادر على تزويد مقاتلي “حماس” بالدعم الدبلوماسي والمادي. كانت أمام “حماس” أشهر لإعداد الأنفاق والدفاعات الأخرى في غزة. ونتيجة لذلك، وعلى رغم الخسائر التي تكبدتها الحركة، إلا أن تدميرها ليس وشيكاً. تزعم إسرائيل أنها قتلت 13 ألف من مقاتلي “حماس”، ولكن قد يكون لدى الحركة 30 ألف مقاتل أو أكثر في المجموع. وارتفعت شعبية “حماس” بين الفلسطينيين في الضفة الغربية. وربما لم يعد أمام إسرائيل الوقت الكافي لإلحاق مزيد من الضرر. إنها تتعرض لضغوط من الدول العربية لإنهاء الصراع، فيما تتزايد الانتقادات الأميركية في شأن عدد الضحايا الفلسطينيين. على سبيل المثال حذر الرئيس الأميركي جو بايدن نتنياهو من شن غزو واسع النطاق على رفح اعتبره نتنياهو ضرورياً من أجل القضاء على “حماس”. حتى أن بعض كبار المسؤولين الإسرائيليين يشعرون بالقلق إزاء استمرار القتال إلى أجل غير مسمى، ويدركون أنه من المستحيل تحقيق النصر الكامل. في يناير، قال غادي آيزنكوت، وهو عضو بارز في مجلس الحرب الإسرائيلي، عن الحملة ضد “حماس”: “من يتحدث عن إلحاق هزيمة مطلقة [بحماس] لا يقول الحقيقة”.

في المقابل، تستفيد “حماس” من جبروت التوقعات وتأثيرها الهائل. وباعتبار الحركة هي الطرف الأضعف في الصراع، فقد يرى المراقبون أن نجاتها هو نوع من النصر في حد ذاته، تماماً مثلما حدث مع “حزب الله” في عام 2006. إذاً، على المدى الطويل فإن الحملة التي تشنها إسرائيل قد تؤدي عن غير قصد إلى تعزيز قوة خصمها أو خلق منظمة أشد خطورة تخلف “حماس” لاحقاً.

بالنسبة إلى إسرائيل، ربما يكون الأوان فات لإعادة ضبط التوقعات، خصوصاً وأنها لم تكن الطرف المستضعف قط (خلافاً لأوكرانيا). ومن المرجح أن ينظر الإسرائيليون إلى الحرب باعتبارها حملة مكلفة وفرصة ضائعة، وربما هزيمة كبرى. تشير استطلاعات الرأي في إسرائيل إلى أن الثقة في أمن البلاد آخذة في التراجع. وقد يكون للإحساس بالفشل عواقب وخيمة على السياسة والمجتمع الإسرائيلي. في داخل البلاد، يمكن أن يؤدي ذلك إلى ظهور عقلية الحصار [حالة نفسية تتميز بمشاعر العزلة والدفاع والبارانويا، غالباً ما تنتج من صراع طويل أو محنة. وفي سياق السياسة والمجتمع الإسرائيلي يمكن أن تتجلى هذه العقلية في السياسات التي تعطي الأولوية للأمن والإحجام عن الانخراط في التسوية أو التفاوض، والميل إلى النظر إلى الجهات الفاعلة الخارجية بعين الشك أو العداء]، وتشدد السياسة الإسرائيلية، والبحث عن كبش فداء. لكن الذكريات المتعلقة بالخسارة من الممكن أيضاً أن تحفز رغبة أكبر في تقديم تنازلات للفلسطينيين، تماماً مثلما أدت الهزيمة في عام 1973 إلى جعل الإسرائيليين أكثر استعداداً لمقايضة الأرض في مقابل السلام مع مصر. إن جبروت التوقعات يمثل مشكلة صعبة بالنسبة إلى الدول القوية، لكن النقد الذاتي في بعض الأحيان ضروري لصنع السلام.

*- دومينيك تيرني هو أستاذ كرسي كلود سميث للعلوم السياسية في كلية سوارثمور، وباحث بارز في معهد أبحاث السياسة الخارجية، ومؤلف كتاب “الطريقة الصحيحة لخسارة الحرب: أميركا في عصر صراعات لا يمكن تحقيق النصر فيها”.

مترجم عن “فورين أفيرز” 25 مارس 2024

المصدر: اندبندنت عربية

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. لقد كان جبروت التوقعات في الحروب والمعارك سلطان بتحديد نتائجها ، بقراءة موضوعية لمآلات حروب خاضتها الدول وخاصة الكيان الصهيوني من يوم الغفران و1982 و2006 وحالياً بغزة، قد تربح المعركة ولكنها خسرت الحرب لأن فارق القوة والإمكانيات تجعل الموازين تحدد المنتصر بالحرب وبالمعركة، قراءة موضوعية.

زر الذهاب إلى الأعلى