تمر علينا هذه الأيام الذكرى الرابعة والعشرين لغياب إحدى القامات الوطنية والعروبية في لحظة تاريخية فارقه، فقد كان غيابه في لحظات بروز مؤشرات عملية التوريث الأولى على الساحة العربية والسورية في الأنظمة الجمهورية، وبداية ترهل النظام الحديدي الذي كان ممسكاً بالحياة السياسية في سورية، مما أدى في فترات لا حقة إلى ما سمي بربيع دمشق، والذي وإن لم يطل إلا أنه في اعتقادي شكل إرهاصاً للربيع العبي.
يُعد الدكتور جمال الأتاسي من مؤسسي التيار العروبي في المشرق العربي، منذ كونه رئيساً للجنة التحضيرية للمؤتمر التأسيسي لحزب البعث وأحد واضعي دستور الحزب الأول وواضع شعاره، ولم يكن دوره في اللجنة التي شكلها ناظم القدسي في عام 1963 لدراسة موضوع إعادة الوحدة وبحث أمورها والتهيئة لها، سوى تجسيداً لإنتمائه للتيار العروبي وأحد أبرز رموزه في المشرق العربي، وهذا مايتماشى مع كونه مساهم في أول وزارة بعد 8 آذار 1963 وزيراً للإعلام إضافة لعضويته فيما سمي حينه بمجلس قيادة الثورة، مجسداً لقناعاته بأن ما حدث كان هدفه إعادة الوحدة، مما حدى به حين تبين له أن الممسكين حقيقة بمقاليد السلطة لا تتفق نواياهم مع إعادة الوحدة بين مصر وسورية، فاستقال من الوزارة وجميع مناصبه في الحزب ولم يعد إليها.
ونظراً لكون العمل الثوري وحلم الوحدة في صلب حياته، نجده في عام 1964 أحد المشاركين في المؤتمر التأسيسي لحزب الإتحاد الإشتراكي العربي وقد عين عضواً في المكتب السياسي في الداخل، فرئيساً للأمانة العامة في هذا المكتب عام 1965م، فأميناً عاماً للإتحاد الإشتراكي العربي في عام 1968م، مركزاً اهتمامه تجاه الوحدة العربية وتزعم الناصرية السورية. ولم يكن اعتقاله في أواخر الستينات، سوى لإصراره على استمرارية العمل الثوري لجعل الوحدة السورية المصرية بوصلة العمل العربي لمواجهة المشروع الصهيو-أمريكي في المنطقة العربية. ولم يكن دوره في الجبهة الوطنية التقدمية سوى محاولة لوضع جميع المطالب الحزبية جانباً لتحقيق هدف إزالة آثار العدوان الصهيو-أمركي ووضع الآمال لتحقيق الوحدة العربية التي طرحت بشعار الوحدة الثلاثية (مصر -سورية- ليبيا)، إلا أنه عندما انكشفت النوايا الحقيقية لمحركي اللعبة في سورية ومصر، انشق عنها وحمل لواء المعارضة حتى وفاته.
ولطالما كان لجمال الأتاسي خصوصيته وموقعه في النضال الوطني والقومي، فسيرته الذاتية كانت أنموذجاً لجيل من المناضلين العرب، تماهى عندهم الخاص بالعام، الشخصي بالموضوعي، الأنا بالآخر، الوطني بالقومي بالإنساني، اعتقدوا مبكراً أن أمتهم على أبواب عصر من النهوض، والتنوير، واعتقد، كل واحد منهم، أنه المعني بذلك، وأن المسؤولية ملقاة على عاتقه، كانوا جيلاً لا يتردد في الاقتحام، وأن الانسحاب من المعركة عار، يجب أن تحاول، وتحاول مهما كانت الأوضاع، ومهما كانت المخاطر. فالسياسة التي استأثرت بالقسط الأوفر من اهتماماته كانت في حياته التزاماً بقضية، وإحساساً بمسؤولية، وواجباً وطنياً وقومياً لتغيير الواقع، والعمل في إطار جماعة ومجموعة ملتزمة بأهداف النضال القومي، كمشروع للتحرر والنهوض العربي والوحدة.
ومن هنا يطرح التساؤل، لماذا لم يثمر ذلك الجهد النضالي الهائل الذي قامت به قامات شامخة في شتى أرجاء الأمة، في وضع الأمة على سكة التطور، أين المشكلة؟، وأين الحل؟ كيف يمكن للأمة ألا تجني ما زرعه فيها رجال عظام وكيف يمكن أن يضيع ذلك كله؟، كيف يمكن لذلك المخزون الهائل من النضال، والتضحيات، أن يتحول إلى وضع إشكالي حتى بين أولئك الرموز؟، كيف يمكن للأمة أن تهدر هذا كله؟ وألا تستثمر هذا الميراث العظيم من العطاء، والتضحية، كيف يمكن لهذا الميراث العظيم أن يضيع في ساحات من الصراع، والفتن؟ نطرح هذه التساؤلات بعد سنوات مضت على رحيل المناضل الدكتـور جمال الأتاسي في محاولة منا لتلمس الفجوات والعثرات التي وقعنا بها خلال السنوات الماضية علنا نصيغ آلية تنقذنا وتصوب عملنا خلال تطلعنا نحو المستقبل الذي يستوعب الحالة العربية، ويقرأ معطياتها، ويسبر غور ماهيتها، باتجاه إعادة صياغة أداة التغيير نحو بناء مستقبل عربي أفضل.
فإن كانت العقلية السائدة في حينه هي (العقلية النخبوية) التي كانت تعتقد بأنه بامتلاك النخبة للوعي وتمسكها بالحقيقة وإخلاصها للقضية فـإن الشعب سوف يندفـع ورائها. غير مدركين لكون الجماهير مكبلة بميراث واقعها الاجتماعي والثقافـي، وأنه لن تستطيع تجاوز هذا إلا إذا ارتبطت بها الطليعة ارتباطاً عضوياً، وأن تساعدها على الشعور بواقعها وإمكانياتها، وبامتلاكها المقدرة على التغيير نحو الهدف الذي تصبو إليه، لا أن تبقى القيادات الثورية بمعزل عنها وأسيرة عقليتها النخبوية.
والآن، هل بقي من سبيل للخروج بمجتمعاتنا من حالة التفتت والتخلف والعجز، وهل من حياة كريمة يمكن أن يعيشه شعبنا في ظل دولة الحق والقانون، دولة تقوم وتتأسس على مجتمعات مدنية قائمة بذاتها وتسوسها روح المواطنة والمساواة وقيم الحرية والكرامة وحقوق الإنسان، وهل يمكن لنا أن نتقدم كعرب وأن نقوى وننهض ونتعامل مع الحداثة وروح العصر؟ وبعد كل هذا الذي جرى ويجري في العالم من متغيرات وبخاصة في السنوات الأخيرة، وهذه الدنيا التي تضيق وتصغر على البشرية ويتواصل فيها التفاعل والتبادل بين المجتمعات الإنسانية، هل هنالك من دور لنا في حركة نضج وتقدم الوعي البشري وفي التشكيل الحديث للمجتمعات الإنسانية.
وعلينا جميعاً تلقى تبعات إكمال الحداثة الإبداعية النظرية التي لا مناص من الخوض فيها ليكون المشروع القومي الديمقراطي العربي النهضوي مشعلاً للأمل الذي لا ينضب زيته، ولا تنطفئ شعلته وجمال الأتاسي كان واحداً مهماً من جيل قدم ما يستطيع في مرحلة النهوض القومي، ومعلماً بارزاً من معالم تلك المرحلة لن ننساه ما حيينا، وستتذكره الأجيال القادمة بالتأكيد كأحد أبرز المناضلين الذي استطاع أن يجمع بين الثقافة العميقة والعقلانية السياسية والإحساس المرهف بنبض الجماهير وامتلك الوعي بأهمية الاصطفاف مع الجماهير وعدم الانغلاق والابتعاد عنها، وحفز على امتلاك الوعي الثوري عن طريق النقد المتواصل للتجربة الثورية، والدفع باتجاه الوعي الجماعي، الذي يصنع حيوية الثورة وتجددها المستمر وهو ما افتقدته النخب الثورية في مرحلة تاريخية فارقة في ظل الربيع العربي.
الذكرى الأربعة والعشرين لرحيل المناضل القومي العروبي الدكتور جمال الأتاسي أحد مؤسسي التيار العروبي في المشرق العربي من حزب البعث الى الأمين العام للإتحاد الإشتراكي والأمين العام للتجمع الوطني الديمقراطي، قامة وطنية عروبية لقد كان غيابه بلحظات تاريخية للتوريث الأولى على الساحة العربية والسورية،الله يرحمه ويغفر له ويسكنه الفردوس الأعلى,