ســوريـــة الأســـد: ســـوريــة الاســتــخـــبـــارات والــمـــعـــتـــقــــلات!

محمد خليفة

بصرف النظر عن مواقفهم ازاء “داعش” التي سيطرت على مدينة تدمر مؤخرا أعرب السوريون من كل التيارات عن اغتباطهم بسقوط “معتقل تدمر” الرهيب. هذا المكان الاشهر في الجغرافيا السورية، وفي وعي شعب، كان كل فرد منه يرتعد ويرتعش رعبا لسماع اسمه!

 قرأت ثلاثة كتب عن أهواله, واستمعت لروايات عدد من أصدقائي الذين قضوا فيه بين12 – 15 سنة في ثمانينات وتسعينات القرن السابق , ونجوا من براثن موته البطيء فيه بمعجزة . لأن الموت كان يتكرر يوميا في زنازينه التي لا تصلح بكل تأكيد للسكن الآدمي أو الحيواني , وكان مجرد سكناه لمدة طويلة كافيا للموت ! وقال لي أحد الناجين أنهم لاحظوا أنه إذا ضلت ذبابة طريقها الى داخل زنزانة منه يصيبها الدوار وتسقط ميتة لشدة فساد الهواء !

كانت جميع اقسامه تفتقر لدورات مياه وحمامات , ولا علاج ولا نظافة ولا ملابس او فرش مناسبة فيه, ولا يسمح لنزلائه بزيارات الاقارب والحصول على حاجيات بسيطة كالأقلام والأوراق وأدوات التسلية .

كان التعذيب فيه لا يتوقف , ليلا ونهارا, وبأقسى الوسائل والاساليب , وكانت وجبات الاعدام فيه يومية بطرق تقشعر منها الابدان , ولعسكر الذين يديرونه يتميزون بأعلى درجات السادية والوحشية , كأنهم مصنوعون وفق شروط مسبقة لاداء هذه الوظيفة .

النظام بعد انتفاضة الشعب عليه عام 1979 خصص سجن تدمر لمعتقلين محكومين بالموت بعد مرحلة تعذيب بطيئة وطويلة, ولذلك فكل من خرج منه وعاد الى الحياة ولد مرة أخرى, خاصة الذين قدر لهم أن يحتفظوا بسلامة عقولهم وأجسادهم لأن بعضهم خرجوا معاقين وعاجزين , وبعضهم انتحروا فورا , لأن الانتحار داخل المعتقل كان فاكهة محرمة وأمنية لذيذة مستحيلة !

معتقل تدمر العسكري لم يكن سجنا قاسيا كالباستيل الفرنسي أو الحبس التركي في القرن التاسع عشر الذي حاز شهرة كونية ورسم معالمه الروائي الالباني اسماعيل كاداريه , بل هو أشبه بمعسكرات الموت التي اقامها النازيون , أو السوفياتية في عهد ستالين ل(علاج) المعارضين أو الكمبودية في عهد الخمير الحمر , ومعسكرات الصرب لمسلمي البوسنة في الحرب الأخيرة ..إلخ . وكان من المقرر أن هذا المكان الرهيب تخلى عن وظيفته السابقة منذ منتصف التسعينيات , لكنه عاد لصناعة التعذيب وانتاج الموت في عهد بشار الاسد , سيما بعد ثورة 2011 حيث ضاقت سوريا بالمعتقلات وفاضت بالمعتقلين .

لهذه الرمزية التاريخية التي اختص بها “معتقل تدمر” لا بد من المحافظة عليه ليبقى شاهدا حيا يصور للأجيال القادمة ما عاشه آباؤهم وأجدادهم في عهد آل الأسد . إنه لا يقل أهمية من “أوشفيتز” . إنه جزء من تاريخ لا بد من سرده وتوثيقه والتذكير به لكي لا يتكرر في المستقبل , خصوصا وأنه ليس استثناء فريدا عن بقية المعتقلات في سوريا الاسد, وبعضها لا زال سريا ومجهولا , لأن السنوات الأخيرة شهدت انشاء عشرات المعتقلات في طول البلاد وعرضها وبعضها في كهوف ومغاور في الجبال , وانفاق تحت الارض , وبعضها في حاويات تحملها سفن عائمة في البحر! ناهيكم عن معتقلات سرية في مناطق جبلية داخل لبنان لمعتقلين خصوصيين لهم اهمية استثنائية !

نحن المخضرمين الذين خبرنا نمط الحياة السورية قبل البعث ثم عشنا تجربة الحياة في ظله كاملة منذ 1963 الى اليوم نحوز ميزة فائقة الأهمية هي القدرة على المقارنة بين عصرين , والتمييز بين وجهي الحياة في بلدنا خلالهما , والقدرة على تحديد التغييرات التي حدثت , ويمكننا الجزم أن أهم انجازات النظام في خمسين سنة هو انشاء عدد قياسي من أجهزة الاستخبارات والمعتقلات , وتجنيد مئات ألوف المخبرين لمراقبة المواطنين والتقاط سكناتهم وحركاتهم, وتمتع هذه الاجهزة بسلطة اعتقال أي شخص وتعذيبه وقتله بلا محاسبة بفضل (قانون) اصدره الاسد منذ الشهر الاول لعهده يحصن رجال الامن من المحاسبة لأي سبب ! ونتيجة ذلك كله شاع مناخ رعب لا سابق له , وصار لكل مواطن مكان محجوز في أقبية المخابرات قد ينتقل اليه في أي لحظة بلا سبب سياسي . مئات المباني تخفي معتقلات سرية لا يعلمها إلا الله بما في ذلك المستشفيات والثكنات والملاعب الرياضية ! وللمرة الاولى في تاريخ سوريا تحققت المساواة التامة بين الذكر والانثى في المعتقلات , وصار للنساء والفتيات حصة فيها , وكذلك الاطفال والفتيان .

في الثمانينات صارت أجهزة الاستخبارات تتصارع وتتنافس في انجازاتها للتقرب من الاسد والبرهنة على اخلاصها له , وتفانيها في خدمته وضبط الناس , والمعيار هو عدد المعتقلين , حتى صار أحدها يعتقل من يفرج عنه الجهاز الآخر فيحقق معه عن سبب الافراج عنه !

سوريا الاسد هي سوريا المعتقلات الأشهر في المنطقة , وربما في العالم , كسجن المزة , معتقل تدمر , سجن صيدنايا , سجن القلعة , سجن الشيخ حسن , مركز فلسطين , الجوية , سجن حرستا , سجن كفر سوسة ..إلخ والقائمة تطول , ولكن غالبية المعتقلات صارت تعرف بالأرقام لا بالاسماء , فهذا المعتقل 204 وذلك 630 و..و !

 وتتباين قسوة المعتقلات بحسب الأجهزة , والسوريون يتنبأون بمصير كل معتقل تبعا لكل منها , فأشدها وحشية المخابرات الجوية, ويليه المخابرات العسكرية ,ثم أمن الدولة ثم الامن السياسي ..وهكذا دواليك. ويحتل “سجن تدمر” المرتبة الأولى في القسوة يليه صيدنايا , ويليه الشيخ حسن ,ثم فلسطين , ومعتقل المخابرات الخارجية. ولكل واحد من الاجهزة مقابر سرية خاصة , غالبا ما تكون في الحقول والهضاب والصحارى النائية .

متوسط مدة الاعتقال عشر سنوات, بعض المعتقلين بقي ربع قرن , وكثيرون تخطوا فترة اعتقال مانديلا التي كانت سبب شهرته, وكثيرون بلا تهمة , ولا محاكمة من أي نوع .

كثيرون من ساسة سوريا ومثقفيها الكبار ووزرائها بل ورؤسائها دخلوا المعتقلات وبعضهم مات خلف القضبان حتى أصبحت السجون والمعتقلات أشهر ما فيها .

 شخصية عربية معروفة دعي لزيارة سوريا في عهد الاسد الأول , ولما وصل دمشق سأله موظف البروتوكول عن الاماكن العامة التي يرغب بزيارتها ليعد له البرنامج فأجابه الضيف قبل أي شيء أريد زيارة سجن المزة .. فذهل الموظف, وأعاد السؤال فتكرر الطلب , فقال له : يا سيدي هذا ليس من صلاحيتنا . وبعد يومين كان الضيف مدعوا الى العشاء عند حافظ الاسد , ولما وصل استقبله ضاحكا وسأله : لماذا تريد زيارة سجن المزة ..؟ فأجابه بشجاعة : يا سيدي منذ طفولتي وانا أسمع هذا الاسم يتردد في الاخبار أكثر من أي مكان آخر في سوريا , وعلمت أن كبار الساسة دخلوه , فحرصت على زيارته لأنه اشهر وأهم معالم سوريا !

ويقول الضيف إنه عرف أن زيارة سجن المزة تتطلب إذنا من الرئيس شخصيا !!

*****************************************************

هذا المقال منشور في مجلة (الشراع) اللبنانية , العدد 277 الصادر في 29 / 5 / 2015 في بيروت .

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. نظام طاغية الشام الأب والإبن عنوان للإرهاب المنظم والإستبداد كامل الأوصاف ، والسجون والمعتقلات أهم معالمه، كسجن المزة للسياسيين، ومعتقل تدمر الذي له رمزية تاريخية اختص بها لأنه شاهد يصور للأجيال القادمة ما عاشه آباؤهم وأجدادهم في عهد آل الأسد الأب والإبن، رحم الله المناضل العروبي الكاتب محمد خليفة وأسكنه الفردوس الأعلى لرؤيته الموضوعية.

زر الذهاب إلى الأعلى