بانتظار ما ستفضي إليه مساعي المبعوث الأممي غير بيدرسون حول تحديد مكان انعقاد الجولة التاسعة للجنة الدستورية في الثاني والعشرين من شهر نيسان القادم، تبدي هيئة التفاوض السورية رغبة شديدة في أن تكون الرياض مكاناً لانعقاد اللقاء المنتظر، وذلك بعد خلافات بدت واضحة بين الأطراف المعنية باللقاء حول أكثر من عاصمة كان قد اقترحها المبعوث الدولي (نيروبي – بغداد – مسقط – القاهرة)، ولعله من الصحيح أنّ دَفْعَ هيئةِ التفاوض نحو تعزيز طرح اختيار الرياض لاجتماعات نيسان المقبل يحمل في طياته أكثر من مبرّر، باعتبار الرياض هي من أشرف وشهد ولادة هيئة التفاوض ككيان سوري معارض في شهر كانون الأول عام 2015، وظل هذا الكيان يحظى برعاية الرياض حتى نهاية شهر كانون الثاني عام 2021 إذ أصدرت الخارجية السعودية آنذاك قراراً بتعليق أعمال هيئة التفاوض.
ولكن بعيداً عن الحوافز الذاتية لهيئة التفاوض للتوجه نحو الرياض فإنه يمكن التأكيد على أن هذه الرغبة ذاتها تحظى بدعم تركيا التي تبدو أكثر رغبةً وحماساً لإكمال مسار اللجنة الدستورية باعتباره المسار الوحيد المتبقي لحل القضية السورية من وجهة نظر أنقرة، وسواء حصل اللقاء المرتقب في الرياض أو في أي مكان آخر، فإن الحماس التركي نحو ضرورة رفع وتيرة هذا المسار سيبقى قائماً، باعتبار أن القضية السورية لم تعد استحقاقاً أخلاقياً يواجه الحكومة التركية، بل هو استحقاق سياسي تواجهه أنقرة أمام القوى السياسية التركية، فضلاً عن أن تداعيات المشكلة السورية – اقتصادياً وأمنياً واجتماعياً – باتت عبئاً على حزب العدالة والتنمية الذي بات يدرك حاجته إلى تقديم مخارج لهذه التداعيات تأخذ باعتبارها مقاربة المصالح التركية فيما تواجهه من أولويات.
تدرك الحكومة التركية قبل سواها جملةً من المعطيات بخصوص القضية السورية، لعل أبرزها صعوبة تنفيذ القرارات الأممية كما هو منصوص عنها بسبب التعطيل الذي يمارسه نظام دمشق بدعم من روسيا وإيران، وهذا ما يجعلها لا ترى أي جدوى من انتظار تغيّر ما، في موازين القوى الدولية من شأنه أن يغيّر مواقف حلفاء نظام الأسد أو يسهم في إحداث وقائع ميدانية جديدة من شانها تغيير معادلة الصراع، ولعل هذا ما يدفعها نحو التركيز على خيار أستانا ورديفه (مسار اللجنة الدستورية)، كما تدرك أنقرة أيضاً أنه من الصحيح أن الجانب الأميركي هو من يملك الجزء الأكبر من القدرة على فرض حلول في سوريا، إلّا أنها تدرك في الوقت ذاته أن استراتيجية واشنطن تملك القدرة على تعطيل أي حل سياسي لا تريده ولكنها في الوقت ذاته ليس لديها أي مبادرة للحل لا في الوقت الراهن ولا في المدى المنظور، باعتبار أن القضية السورية ما تزال ملحقةً بالملف الإيراني ذي الطابع الاستراتيجي بعيد المدى بالنسبة إلى واشنطن.
ومن هنا فإن جميع العقوبات والقوانين الصادرة من واشنطن والتي تزيد الخناق والضغط على نظام الأسد لا تندرج ضمن خطة واضحة لتغيير نظام دمشق بقدر ما ترمي إلى الضغط على إيران عبرَ محاصرة أذرعها، ولعل هذه الأمور ليست طارئة على التوجهات السياسية التركية التي حسمت خياراتها منذ مطلع العام 2017 بالتوجه إلى بناء تفاهمات مباشرة مع روسيا وإيران لتكون القضية السورية هي إحدى المسائل الخاضعة للتفاوض في إطار البحث في المصالح المشتركة للدول الثلاث الراعية لأستانا.
لا تخفي أنقرة وجهة النظر التي تعتقدها المآل الوحيد للحل في سوريا، إذ تتواتر تصريحات المسؤولين الأتراك مؤكّدةً أن السبيل إلى ذلك هو مصالحة بين النظام والمعارضة، موازاة مع تعديل دستوري أو دستور جديد، ثم الدخول في انتخابات عامة، وهذا ما تعبر عنه المعارضة الرسمية السورية بمصطلح (البيئة الآمنة) كبديل عن تشكيل (هيئة حكم انتقالي)، إلّا أن هذه المصالحة المنشودة بين نظام دمشق ومعارضته مرهونة بمصالحة تسبقها بين أنقرة ودمشق، وهذا ما سعت نحوه تركيا وما تزال لولا انكفاء نظام الأسد واشتراطه انسحاب تركيا من جميع الأراضي السورية قبل البدء بأي تفاهمات جديدة، ومن هنا تعود أنقرة لتواجه استعصاءً راهناً ربما يوجب عليها مقاربة الموقف من أكثر من اتجاه، إذ ربما بات من البديهي أن انسحاب تركيا من مدن وبلدات الشمال السوري من المستبعد حصوله في ظل وجود كيان الإدارة الذاتية بقيادة حزب الاتحاد الديمقراطي على حدودها الجنوبية، موازاة مع تعثّر أنقرة طيلة السنوات السابقة في إقناع واشنطن بتخلّيها عن رعاية قسد، وكذلك إخفاقها في أخذ الموافقة الأميركية بترحيل قوات سوريا الديمقراطية عسكرياً من شمال شرقي سوريا، ولعل هذا ما يدفعها إلى مقاربة هذا الهدف مرة أخرى ولكن لمَ لا يكون من بوابة دمشق؟
لقد دشّن حزب العدالة والتنمية في تركيا فوزه بانتخابات الرئاسة في أيار الماضي بانتهاج سياسات إقليمية جديدة كان من أبرز معالمها تصحيح العلاقة مع المحيط العربي، وبخاصة دول الخليج ومصر، انطلاقاً من مفهوم (تصفير المشكلات) الذي يبدو باتت تفرضه التحدّيات الاقتصادية والأمنية على الحكومة التركية، وبالتالي بات إيجاد حل للقضية السورية يندرج في سياق السياسات التركية استحقاقاً مهمّاً نظراً لما تجسّده سوريا كقناة اقتصادية بين أنقرة والدول العربية من جهة، وللمضي في حسم المشكلة الأمنية التي يجسدها كيان قسد من جهة أخرى، وذلك بغض النظر عن المعايير الناظمة للحل السوري الذي تسعى إليه تركيا سواء أكان يحقق المصلحة الوطنية السورية أم لا، إذ إن إعادة العلاقة مع دمشق عبر حل سياسي يمكن لتركيا وروسيا أن تفرضاه على المعارضة والنظام، ربما يفضي إلى مشروعية نظام الأسد بمطالبته الولايات المتحدة الأميركية بالانسحاب من سوريا، موازاة مع إحراج واشنطن بإيجاد مخرج لقوات قسد، وغني عن البيان أن تركيا، إلى جانب روسيا، تطالب على الدوام بانسحاب أميركي من سوريا، بل لا تخفي خيارها القائم على أفضلية سيطرة الأسد على كامل الجغرافيا السورية إن كان ذلك سيؤدي إلى طرد قوات قسد.
لعل مجمل المسوّغات التي تبيح لجميع الأطراف الإلحاح على استمرار مسار اللجنة الدستورية وضرورة عدم تعطيل لقاءاتها، ربما تبدو وجيهة من الناحية الشكلية على الأقل، نعني بذلك الحديث عن معاناة السوريين وضرورة عودة النازحين واللاجئين السوريين إلى ديارهم ووقف شلال العنف والدمار، ولكنْ من الوجاهة أيضاً تساؤلُ الكثير من السوريين: هل الحل المنتَظَر من حصاد اللجنة الدستورية – إن حصل ذلك – سوف يسهم في وضع حدّ لمعاناة السوريين أو يلبي الحدّ الأدنى من تطلعاتهم، أم سيكون استجابة لحاجة إقليمية قبل ذلك كله؟
المصدر: موقع تلفزيون سوريا
هل الحل المنتَظَر من حصاد اللجنة الدستورية سيسهم بوضع حدّ لمعاناة شعبنا أو يلبي الحدّ الأدنى من تطلعاته؟، أم سيكون استجابة لحاجة إقليمية ودولية قبل ذلك كله؟ الإصرار بالتبريرات لإستمرار اللجنة الدستورية يجعلنا نطرح سؤال ماذا حقق السائح الدبلوماسي لشعبنا حتى الآن؟ هل سطرت اللجنة خلال أكثر من ثلاثة أعوام وثماني جلسات سطر بالدستور؟.