من الطبيعي أن يتوافق العرب على موقف موحد في مواجهة المحتل أو المستعمر، من البديهي أن يتوافقون على مواجهة التحديات الراهنة، قد يتوافقون على مواجهة خطر محدق، قد يتفقون من خلال منظمة (أوابك) على سعر محدد لبيع النفط، لما فيه مصلحة أوطانهم، قد يتضامنون في مواجهة جائحة كورونا، أو وباء الطاعون، قد يُنسقون في المحافل الدولية بالتصويت لهذا المرشح العربي أو ذاك، قد يتوحدون في التقدم بملف الترشح لرئاسة (اليونسكو)، أو حتى تنظيم (المونديال)، قد يضعون إطاراً للإعلام، لما فيه مصالح أنظمتهم، تحت مسمى (ميثاق الشرف الإعلامي)، قد يتعاونون في مجالات التعليم، أو الصحة، أو الصناعة والتجارة، أو النقل والمواصلات والاتصالات، أو حتى البيئة.
إلا أن الغريب والمثير للدهشة، هو أن يتوافق العرب على ما يضرهم ولا ينفعهم، أن يتوافقون – وربما دون تنسيق- على ما يمكن أن يدمر أوطانهم على المدى البعيد، أن يتوافقوا سلباً على الاستسلام، وليس إيجاباً على المواجهة، قد تكون الأسباب في ذلك كثيرة، إلا أن ما يجمع بينها هو الحفاظ على المناصب، الاستمرار على كرسي الحكم أكبر قدر من الوقت، لذا يمكننا أن نعي، لماذا سعى الغرب، وفي مقدمته الولايات المتحدة، إلى الانقلاب على المسار الديمقراطي في كل من الجزائر ومصر وتونس والسودان، وحتى في فلسطين المحتلة، ناهيك عن دعم كل الأنظمة الديكتاتورية التاريخية، بل أصبح يستعين ببعض هذه الأنظمة، وبأموالها النفطية، لوأد أي محاولات للحراك السياسي الديمقراطي هنا أو هناك، حتى يضمن بقاء هذه الأنظمة وتلك الدول تحت عباءته، لا تستطيع مجرد التفكير في الخروج من التبعية، أو محاولة التمرد أو التحرر، ما دامت مكبلة برشاوى من أي نوع، أو قضايا فساد يمكن الكشف عنها، أو حتى سلوكيات شخصية مشينة، وقد يصل الأمر إلى عمالة وخيانة في بعض الأحيان. من هنا، يمكن أن نفهم أبعاد ذلك الموقف المخزي على الساحة الدولية، عربياً بشكل خاص، تجاه ذلك الذي يجري على الأراضي الفلسطينية، من إبادة جماعية، وتهجير قسري، وتطهير عرقي، وتجويع وتعذيب، وغير ذلك من كل الجرائم ضد الإنسانية، التي نصت عليها المواثيق الدولية والتي لم تنص، ذلك أننا أمام أنظمة صنعها الاستعمار نهاراً جهاراً، لم تعد تخفي عواصم الصناعة ذلك، ولم يعد ينفيه المستهدفون أو المفعول بهم، حتى إن الشعوب أصبحت تسلِّم بذلك، لم نعد نرى مقاومة لهذه الأوضاع، بل لم نعد نرى مقاومة للظلم والطغيان، في وجود ديكتاتوريات أوغلت في القتل والاعتقال والتنكيل، حتى أصبحت السجون والمعتقلات لدى بعض الأنظمة تتصدر أولويات الإنفاق قبل المدارس والمستشفيات. كان من الطبيعي إذن أن نشهد مواقف إيجابية وأخلاقية من دول عديدة في أنحاء الكرة الأرضية، فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، من الشمال والجنوب، والشرق والغرب، على عكس مواقف أصحاب القضية العرب، الذين التزموا الصمت في معظم الحالات، والتواطؤ أحياناً، فيما يشبه التنسيق أو التوافق، رغم وضوح الرؤية تجاه المخاطر التي تهدد أوطانهم، إذا ما استمر ذلك الكيان الصهيوني يتمدد جغرافياً وسياسياً بالمنطقة، إلى الحد الذي لا يخفي معه أطماعه، ليس من النيل إلى الفرات فقط، إنما من المحيط إلى الخليج، فيما يشير إلى أن المخطط الأمريكي بخصوص عمليات الإعداد والتنصيب قد أتى أُكله، وأفرز ثماره بنجاح منقطع النظير. ليست مصادفة إذن، أن تصمت العواصم العربية، في مجملها، بهذا الشكل المؤلم تجاه جرائم الكيان الصهيوني، بحق شعبنا الصامد في فلسطين المحتلة، إلى الحد الذي أصبحت تشارك فيه بحكم الواقع، دون خجل، في ذلك الحصار وهذا التجويع، لم يردعها في ذلك أي وازع من ضمير، أو مسؤولية تاريخية، أو واجب تجاه المقدسات الدينية، أو أي شيء من هذا القبيل، وسط علاقات قوية وتنسيق تام، مع عواصم الاستعمار أو العواصم الكبرى، رغم المشاركة المعلنة من هذه العواصم للكيان الصهيوني في حرب الإبادة بالسلاح والمال، وفي المحافل الدولية، وهو الأمر الذي أصبح طبيعياً للدرجة التي لم تعد تثير أي علامات استفهام من أي نوع، إلا إنه في الوقت نفسه يبقى العديد من الأسئلة، فيما يتعلق بالداخل العربي تحديداً، تتمثل في الآتي:
أولاً: كيف استطاعت هذه الأنظمة من المحيط إلى الخليج، إخضاع قوى النخبة السياسية والثقافية والدينية لديها، إلى الحد الذي لم نعد نسمع معه أي أصوات مناوئة، أو معارضة لذلك الذي يجري على الأرض، على خلاف ما كانت تشهده معظم الأوطان العربية على مدى قرن من الزمان، قاومت خلاله الشعوب قوى الاستعمار الخارجي، والظلم الداخلي في الوقت نفسه.
ثانياً: كيف استطاعت هذه الأنظمة وتلك في آن واحد، إخضاع مؤسسات القضاء والشرطة والجيش والإعلام والبرلمانات، وإدخالها حظيرة الاستسلام، أو بيت الطاعة، في الوقت الذي سجلت فيه كتب التاريخ حضورا قوياً لهذه المؤسسات، في مواجهة أنظمة الاستبداد والبغي، في العديد من الدول، وفي مقدمتها مصر والعراق وسوريا ولبنان، وكان لها دور فاعل في حماية الشعوب من بطش الحكام.
ثالثاً: كيف استطاعت هذه الأنظمة وتلك بالتزامن، في تحويل المواطن العروبي الثائر، إلى كيان رعديد، أو حتى قانع مستكين، لا يستطيع أن يرفع صوته في منتدى، أو آلة إعلامية، أو حتى في الشارع العام، إما عن لامبالاة لما يجري حوله، نتيجة عمليات تغييب، أو إيثاراً للسلامة، نتيجة علمه بحجم البطش الذي يمكن أن يتعرض له، في ظل وجود عشرات آلاف المواطنين بالسجون والمعتقلات، أصبحوا في طي النسيان.
رابعاً: كيف استطاعت هذه الأنظمة، رغم اختلاف أشكالها، ما بين جمهوريات ومَلَكيات وإمارات، أن تتوافق فيما بينها، على التبعية والخضوع لقوى الحماية الخارجية، الأكثر تكلفة من الاعتماد على حماية الشعوب، والعمل على تحقيق رغباتها، وتحقيق تطلعاتها، في الوقت الذي تسود فيه الخلافات بين هذه الأنظمة في مجالات عديدة، إلا أن التنسيق الأمني في مواجهة الشعوب كان الأكثر توافقاً على الإطلاق.
خامساً: كيف استطاعت هذه الأنظمة، الاستمرار كل هذه السنوات، في حكم شعوب على غير إرادتها، بالحديد والنار، من نظام مستبد إلى آخر أكثر استبداداً، ومن نظام قمعي إلى آخر دموي، مدنياً كان أو عسكرياً، في الوقت الذي تتطور فيه التجارب السياسية وحكم الشعوب في القارات المختلفة، خصوصاً القارة الافريقية، على الرغم من كونها عانت كثيراً تحت حكم الاستعمار.
على أية حال، يمكننا التأكيد من شواهد ومعطيات الأحداث الجارية على الساحة الآن، أن ما بعد طوفان الأقصى، لن يكون أبداً كما كان قبله، في كامل المنطقة العربية، ذلك أن خيانة القضية الفلسطينية تختلف عن كل القضايا، فنحن أمام قضية دينية وعربية، إنسانية وأخلاقية، قضية أمن قومي بالدرجة الأولى، قضية ماض وحاضر ومستقبل، قضية عدو لا يخفي أطماعه، جرثومة وبائية كان يجب العمل الجماعي على استئصالها، ولن يكون مقبولاً مع ما يجري على الأرض، التسامح مع المتواطئين أو الصامتين، في ظل هول الفاجعة من أعداد الشهداء، وحجم الدمار، وهو ما أصبحت تفطن له الأجيال الأكبر عمراً بعد طول تزييف، وتكشفه الأجيال اللاحقة بعد طول تغييب. ولأن الأمر كذلك، أعتقد أن المنطقة العربية باتت على صفيح ساخن، إذا لم تبادر الأنظمة الفاعلة فيها خصوصا، إلى تغيير بوصلة المسارات السياسية، بما يتواءم مع إرادة الجماهير الغاضبة، التي استخلصت العبر والدروس من أحداث الماضي القريب، الذي شهدته الميادين الكبرى، حين تغاضت عن إقامة محاكم ثورية هنا، أو تصفية حسابات هناك، خصوصاً بعد الكشف الآن عن مكنونات شريرة بهذه الأنظمة، ترقى إلى حد العمالة، من خلال الانحياز التام للكيان الصهيوني، ليس ذلك فقط، بل دعم مخططات الإبادة التي ينتهجها بحق الأشقاء، وهي الجريمة التي لن تسقط أبداً بالتقادم أو مرور الوقت.
كاتـب مصـري
المصدر: القدس العربي
أن ما بعد طوفان الأقصى، لن يكون أبداً كما كان قبله، في كامل المنطقة العربية، مأظهرته الأنظمة العربية من إخضاع شعبها ونخبه طواعية لإرادتها بخيانة قضايا الأمة كقضية فلسطين كونها قضية تختلف عن كل القضايا، لأن لمنطقة العربية باتت على صفيح ساخن، إذا لم تبادر الأنظمة الفاعلة فيها خصوصا، إلى تغيير بوصلة المسارات السياسية.