ملاحظة المحرر: نشر هذا المقال بعد أسبوع تقريبًا من بدء حرب الكيان الصهيوني الأخيرة على قطاع غزة، لكنه استشرف بدقة الواقع الذي يسود الآن، معتمدًا على السياق الطويل للسلوك الاستعماري الصهيوني.
* * *
”نحن في حالة حرب”، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في بيان مسجل في وقت مبكر من صباح يوم السبت، 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، و”سوف ننتصر فيها”. وفي حين أن الأحداث غير المسبوقة التي وقعت في ذلك اليوم -والتي شهدت “أسوأ خرق لدفاعات إسرائيل منذ 50 عامًا”- عجلت بقيام رئيس الوزراء الإسرائيلي بإعلان حرب، من المهم أن نتذكَّر السياق الذي حدث فيه ذلك: حالة الحرب المستمرة، والتهجير والقمع التي شكلت الواقع الفلسطيني لأكثر من سبعة عقود.
في وقت كتابة هذه السطور، قتل أكثر من 2.800 شخص في التصعيد الأخير للعنف الجسدي في جميع أنحاء فلسطين وإسرائيل. ويشمل ذلك أكثر من 1.500 فلسطيني قتلوا في القصف الإسرائيلي المتواصل لقطاع غزة المكتظ بالسكان -حيث أسقط الجيش نحو 6.000 قنبلة في ستة أيام فقط. وصرَّح بنيامين نتنياهو: “هذه ليست سوى البداية”، بعد مقتل 1.300 إسرائيلي على يد الفصائل الفلسطينية المسلحة التي خرقت الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة، واحتجزت أيضًا عددًا كبيرًا من الرهائن. ووسط عدم التماثل الواسع والدائم في القوة بين إسرائيل والفلسطينيين، لاحظت منظمة “الصوت اليهودي من أجل السلام”: “تقوم حكومتنا باستخدام الخسائر في الأرواح الإسرائيلية لتبرير الاندفاع إلى عملية إبادة جماعية، ولتوفير غطاء أخلاقي للاندفاع غير الأخلاقي نحو المزيد من السلاح والمزيد من الموت”.
قبل منتصف ليل الخميس، 12 تشرين الأول (أكتوبر)، تلقت الأمم المتحدة تحذيرًا من الجيش الإسرائيلي يدعوها إلى إخلاء 1.1 مليون شخص من سكان شمال غزة إلى الجنوب خلال 24 ساعة. وعلقت “وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين” (الأونروا): “هذه غزة يجري دفعها إلى الهاوية. هناك مأساة تتكشف بينما العالم يراقب. هذه هي غزة”. وفي تأكيد حازم على هذه النقطة، أضافت “منظمة الصحة العالمية” أن “أوامر الإخلاء التي تصدرها إسرائيل إلى المستشفيات في شمال غزة هي حكم بالإعدام على المرضى والجرحى”.
كانت إسرائيل قد بدأت هذه الحرب بضرب حصار كامل على قطاع غزة منذ 9 تشرين الأول (أكتوبر). والحصار شامل: فالوقود، والغذاء، والماء والكهرباء -التي تسيطر عليها قوات الاحتلال الإسرائيلي منذ فترة طويلة- كلها مقطوعة الآن.
كما أكدت منظمة “هيومن رايتس ووتش” أن إسرائيل استخدمت الفوسفور الأبيض في غزة ولبنان في الهجمات التي شنتها خلال هذا الأسبوع، وهو سلاح محظور في المناطق المدنية، ويسبب ”حروقًا شديدة ومعاناة مدى الحياة”. وفي الوقت نفسه، يبدو أن إسرائيل تستعد لغزو بري لغزة، الأمر الذي ستكون له عواقب وخيمة على المنطقة بأسرها.
بينما تستمر الأحداث في التطور، يستمر الاستعمار في فلسطين، ويشكل الأحداث والروايات أثناء تكشُّفِها. منذ النكبة الفلسطينية في العام 1948، تصرفت إسرائيل بحرية وإفلات كامل من العقاب، واتهِمت مرارًا وتكرارًا بارتكاب جرائم حرب، بما في ذلك التطهير العرقي والفصل العنصري، إلى جانب سياسات الاحتواء والاحتلال العسكري. وهذه الممارسات، كما كتب الصحفي الفلسطيني محمد الحسيني، كلها جزء من “حرب تُشن ضد وجود (الفلسطيني) ذاته”.
الموت البطيء: التجريد من الإنسانية وحصار غزة
قطاع غزة موطن لنحو 2.3 مليون فلسطيني، وهو منطقة طولها 25 ميلاً، وعرضها من 3 إلى 7 أميال، بمساحة إجمالية تبلغ نحو 360 كيلومترًا مربعًا. وهو أرض محتلة، تملي السلطات الإسرائيلية طريقة حصولها على المياه والطاقة والغذاء. وبالمثل، يتم التحكم في الخروج من القطاع والدخول إليه. ويتم التحكم بصرامة في المواد الحيوية اللازمة لبناء البنية التحتية. بل إن حاكما عسكريا إسرائيليا هو الذي يحدد من هو الذي يُسمح له بالتماس العلاج المنقذ للحياة خارج القطاع.
يعمل هذا الحصار الأمني على شل القطاع عمدًا. وقد كشفت برقيات دبلوماسية مسربة في العام 2012 أن المسؤولين الإسرائيليين أرادوا أن يبقى اقتصاد غزة دائمًا على حافة الانهيار.
وفي الوقت نفسه، يشكل الاحتلال العسكري الإسرائيلي لفلسطين جانبا رئيسيا من جوانب المجمع الصناعي العسكري العالمي، ويثبت كونَه مربحًا للغاية للدولة الإسرائيلية والحلفاء الغربيين. وفي واقع الأمر، ارتفعت القيمة السوقية لشركة “إلبيت سيستمز” الإسرائيلية المصنعة للأسلحة بنسبة 37 في المائة منذ بداية هذا العام. وفي الوقت نفسه، ارتفعت أسهم المقاول العسكري الأميركي “لوكهيد مارتن” بنسبة 8.6 في المائة خلال الأيام الخمسة الماضية منذ بدء حملة القصف الإسرائيلية.
على مدى السنوات التسع عشرة الماضية، شنت إسرائيل هجمات جوية متعددة على غزة -التي وُصفت بأنها أكبر “سجن في الهواء الطلق” في العالم. وفي الوقت نفسه، فرض الحصار الإسرائيلي حالة من “الموت البطيء” على القطاع: سياسات إسرائيل المستمرة المتمثلة في إلحاق الضرر المتعمد بالبنية التحتية، وممارسات مثل “أطلق النار لتشل”، وتقييد دخول البضائع الضرورية لعيش حياة كاملة ومزدهرة، تحيل كلها إلى ملاحظة جاسبير بوار Jasbir Puar عن التشويه الجسدي كاستراتيجية متعمدة للنظام الاستعماري الإسرائيلي -إضعاف السكان الفلسطينيين الأصليين مع تجنب ظهور بصريات “الأضرار الجانبية”.
على الرغم من كونها موضوعًا لـ140 قرارًا للأمم المتحدة تنتقد معاملتها للفلسطينيين، ظلت إسرائيل قادرة على التهرُّب من المساءلة. ويضعف هذا الانتهاك المتكرر والصارخ للقانون الدولي والسلوك الدولي ثقة الناس في هذه المنظومات. وكثيرًا ما يظهَر العنف الاستعماري والاحتلال على آليات النظام القانوني الدولي.
وكما كتب مصطفى بيومي: “لكي تعتبَر كائنا سياسيا يجب على الأقل اعتبارك إنسانًا”. ومع ذلك، فإن ملاحظة المحامي رجا شحادة المتكررة بأنه ”نحن، الفلسطينيين، الذين يطلَق عليهم الآن اسم الإرهابيين، يمكن قتلنا، والتخلص منا كالذباب من قبل الآلات الكبيرة للجيش من دون أدنى تردد”، تثبت صحتها الآن بطريقة قاتلة. وقد أودت العمليات الإسرائيلية المتتالية في قطاع غزة، مثل “عملية الرصاص المصبوب” أو “عملية الجرف الصامد” مُسبقًا بحياة 6.407 فلسطينيين وإصابة أكثر من 150.000 آخرين بجروح منذ العام 2008.
تفويض مطلق بالعقاب الجماعي
أعدّت هذه الأحداث المشهد لتصاعد العنف الجسدي الذي يتكشف الآن: نخشى أن الفلسطينيين، بمن فيهم العديد من الأطفال، يواجهون إبادة جماعية وشيكة، من دون أي وسيلة للهرب، وتضاؤل الإمدادات الأساسية والحاجة طويلة الأجل إلى الدعم النفسي والاجتماعي.
وُصفت قدرة حماس على خرق الحصار الإسرائيلي على غزة وتجنب ما يتم تقديمه في كثير من الأحيان على أنه نظام استخباراتي متطور للغاية، بأنها “مفاجأة كاملة”. ومما لا شك فيه أن حجم الهجوم الذي شنته حماس على إسرائيل مثير للدهشة، خاصة في ضوء الاختلال الهائل في ميزان القوة العسكرية، والنفوذ الدولي، والمراقبة الإسرائيلية المستمرة للسكان الفلسطينيين.
لكنَّ ما لم يكن مفاجئًا، مع ذلك، هو رد القوات الإسرائيلية، والدعم “الثابت الذي لا يلين” من حلفائها الغربيين. بينما كانت إسرائيل تشرع في تصعيد ردها العسكري، أيد زعيم حزب العمال البريطاني، كير ستارمر، حق إسرائيل في قطع إمدادات الكهرباء والمياه عن غزة. وتم تفسير هذا الموقف بأنه ضوء أخضر لإسرائيل لخرق القانون الدولي.
وفي معرض تعهده بتحويل مخابئ حماس إلى “أنقاض”، حذر بنيامين نتنياهو سكان غزة بضرورة “المغادرة الآن”. ومن غير الواضح إلى أين سيذهب الفلسطينيون في القطاع المحاصر. ثم مضت الدولة الإسرائيلية إلى قصف معبر رفح -جسر غزة إلى الأراضي المصرية.
وبالفعل، أفاد ”مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية” بأن 33.000 شخص في غزة فروا من منازلهم، حتى الآن، بعد أقل من أسبوع من بدء حملة القصف الإسرائيلية، ولجأ معظمهم إلى مدارس (الأونروا) التي تضررت الآن هي الأخرى جراء القصف.
وأصدرت الولايات المتحدة، إلى جانب العديد من المعلقين، دعوات إلى إجلاء السكان من غزة إلى مصر. ومع ذلك، فإن الشعب الفلسطيني شعب ولد من تاريخ من التشريد. وأكثر من ثلثي سكان غزة هم لاجئون تاريخيا من بقية فلسطين. ومطالبتهم بمغادرة منازلهم، تحت إكراه ومطالب الطائرات الحربية الإسرائيلية، من دون ضمانات بالعودة الآمنة، هي تجاهل لذلك التاريخ.
في الوقت نفسه، أدانت الأمم المتحدة فرض الحصار الكامل على القطاع. وأعلن وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف غالانت، أنها “لن تكون هناك كهرباء، ولا طعام، ولا ماء ولا وقود -كل شيء مغلق” أمام “الحيوانات البشرية” كما يصف الناس في قطاع غزة -حيث تقل أعمار 50 في المائة من السكان عن 15 عامًا.
إنهاء الاستعمار ليس مَجازا
مر الآن ما يقرب من عام منذ أن غردت رئيسة الاتحاد الأوروبي، أورسولا فون دير لاين، على “تويتر”: “إن هجمات روسيا ضد البنية التحتية المدنية، وخاصة الكهرباء، هي جرائم حرب. وقطع المياه والكهرباء والتدفئة عن الرجال والنساء والأطفال مع قدوم الشتاء -هذه أعمال إرهاب خالص”. ألا تنطبق المشاعر نفسها على الفلسطينيين؟
بالنسبة للقادة الغربيين لا يبدو أنه ينطبق. بدلاً من ذلك، كان الرد هو أن “لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها”. وفي الوقت نفسه، علقت الدنمارك والسويد وألمانيا والنمسا برامج المساعدات الإنمائية الثنائية للضفة الغربية وغزة، في رد الفعل. وقد بعث الغرب برسالة لا لبس فيها إلى الفلسطينيين: إن حياتكم لا تهم.
على المدى القصير، يتعين على المزيد من زعماء العالم أن يطالبوا إسرائيل بإنهاء هجومها على غزة والسماح بإيصال المساعدات على الفور. وينطوي الغزو البري، إذا حدث، على خطر إلقاء المنطقة بأكملها في أتون الصراع، الأمر الذي سيزيد من حدة حالات الطوارئ الإنسانية المتعددة المستمرة في المنطقة -كل ذلك في وقت يتم فيه قطع التمويل في جميع أنحاء العالم.
وعلى المدى الطويل، من المهم للغاية التأكيد أن إنهاء الاستعمار ليس مجازًا، وقد حان الوقت الآن للاعتراف بأن الإمبريالية الغربية، والمشروع الاستعماري الاستيطاني الإسرائيلي -ودورة العنف التي تعجل بها هذه الجهات- هي الخلفية الحاسمة للأحداث المروعة التي تصل إلى عناوين الصحف الدولية هذا الأسبوع.
*كلوي سكينر Chloe Skinner: زميلة باحثة في “مجموعة السلطة والسياسة الشعبية” في “معهد دراسات التنمية” IDS. تتقاطع اهتماماتها البحثية مع النسوية والنظرية الكويرية، والتجسيد والتأثير، وتحدي الاستعمار -وتحديدًا الأبعاد المادية والمعرفية للعنف الاستعماري الاستيطاني- والسياق الأوسع لرد الفعل العنيف وسط الأزمات العالمية المتقاطعة. جغرافياً، لديها خبرة وتجربة محددة في العمل في فلسطين المستعمرة.
*فيليب براودفوت Philip Proudfoot: عالم أنثروبولوجيا مقيم في “مجموعة السلطة والسياسة الشعبية” في “معهد دراسات التنمية” IDS. تتركز اهتماماته الجغرافية على لبنان وسورية واليمن، وكذلك المملكة المتحدة. تتناول أعماله عدم المساواة الاقتصادية، والهجرة القسرية والإنسانية، والتقاطع والصراعات المطوّلة والحركات السياسية.
*علي رضا Ali Reda: باحث في المعهد.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Contextualising Gaza: Colonial violence and Occupation
هامش المترجم:
في كتابها “الحق في التشويه” The Right to Maim، تجلب جاسبير بوار عملها الرائد عن الدولة الليبرالية، والجنسوية والسياسة البيولوجية، للتأثير على فهمنا للإعاقة. وبالاعتماد على مجموعة مذهلة من الأطر النظرية والمنهجية، تستخدم بوار مفهوم “الوهن” -الإصابة الجسدية والإقصاء الاجتماعي الناجمين عن العوامل الاقتصادية والسياسية- لتفكيك فئة الإعاقة. وتوضح كيف يشكل الوهن، والإعاقة، والقدرة معًا تركيبًا تستخدمه الدول للسيطرة على السكان. وتتوج تحليلها باستنطاق سياسات الكيان الصهيوني تجاه فلسطين، حيث تبيّن الكيفية التي يجلب بها الفلسطينيين إلى وجود سياسي بيولوجي من خلال تصنيفهم على أنهم متاحون للإصابة. وباستكمال حقها في القتل بما تسميه بوار “الحق في التشويه”، تعتمد دولة الكيان على الأطر الليبرالية للإعاقة لإخفاء وتمكين الوهن الجماعي للأجساد الفلسطينية. ومن خلال تعقب تفاعل الإعاقة مع الوهن والقدرة، تعرض بوار مراجعة بارعة في مفهوم فوكو لـ”السياسة الحيوية” biopolitics، مع إظهار كيفية عمل الإعاقة عند تقاطع الإمبريالية ورأس المال المصطبغ بالعنصرية.
جاسبير ك. بوار Jasbir K. Puar: أستاذة دراسات المرأة والنوع الاجتماعي في جامعة روتغرز، ومؤلفة كتاب ”التجمعات الإرهابية: القومية المثلية في الأوقات الكويرية” Homonationalism in Queer Times، الذي نشرته أيضا مطبعة جامعة ديوك.
المصدر: الغد الأردنية/(معهد دراسات التنمية)