حجي جابر، روائي ارتيري متميز، قرأت له رواية سمراويت، وهذه الرواية الثانية مرسى فاطمة، التي يطل بها على الواقع الحياتي لإريتريا وجوارها.
تبدأ الرواية من بطلها المتحدث بلغة المتكلم، كان متلهفا للقاء محدد مع حبيبته ” سلمى” أمام مدرستها في “مرسى فاطمة” ، احدى المدن الارترية، سلمى ابنة مدينته، التي احبها واحبته، صاحبنا انتهى من الدراسة الثانوية، ويعمل في أحد المتاجر في السوق، أما سلمى فلا زالت مستمرة في الدراسة، هي متفوقة ومجتهدة، لكنها تتعمد الرسوب كل سنة، لأنها ان أنهت الدراسة يأخذونها إلى الخدمة العسكرية الإلزامية ، التي يؤديها الرجال والنساء، والتي تمتد لسنين طويلة، فبعد انتهاء الخدمة العسكرية، يحول الشباب والنساء إلى أعمال الخدمة الاجتماعية، “السخرة ” بحياة اقرب للاستعباد، تحت دعوى خدمة الوطن، ولسنوات طويلة، صاحبنا وحيد امّه، لذلك هو مطمئن أنه معفي من الخدمة العسكرية المؤبدة. أرتيريا، كانت قد استقلت حديثا، بعد صراع حرب تحرير طويلة الأمد، حكّامها يحملون الفكر اليساري، و”الجبهات” (جماعات مسلحة) التي تشاركت في التحرير، تتصارع على الحكم، فهناك انقلابات متتالية، والسمة الأساسية للحكم، الاستبداد والظلم وسوء الادارة، والناس ضحايا الفقر والجهل والمرض والتخلف، بعضهم يبقى والكثير يهاجر هربا من هذه الحياة. يذهب صاحبنا إلى موعده مع حبيبته سلمى، فلا يجدها، ينتظرها فلا تأتي، يسأل عنها صديقاتها ، فيخبرّنه أنها لم تأتي إلى المدرسة، يتوتر نفسيا، هي لا تتخلف عن موعد، ولا بد أن هناك مصاب كبير، يذهب إلى بيتها، ويسأل جيرانها عنها، فأخبروه أنها اختفت، فقد تكون هربت إلى السودان وهو بلد مجاور لارتريا، أو ان الشرطة قد قبضت عليها وأخذتها إلى معسكر الجيش في “ساوا” لتؤدي الخدمة العسكرية. لم يحتمل صاحبنا أن يفارق حبيبته ولا يعرف اين ذهبت، خاصة أنهما قد تزوجا بالسر، وأنها حامل منه، وأنها إن علموا في ساوا انها حامل، سيسرحونها من الجيش، ويعرفون منها من أب الطفل ويسجن، لأنها تزوجت و حملت قبل الخدمة العسكرية، التي لها الأولوية على كل شيء. قرر صاحبنا أن يلحق بها في ساوا ، لكنه وحيد ومعفي من الخدمة، قرر إخفاء بطاقته الشخصية المدون عليها الإعفاء، حاول أكثر من مرة أن يجعل دوريات الشرطة الباحثة عن الشباب والشابات المتخلفين عن الجيش و يلحقونهم بالخدمة، ولكنه لم ينجح، وما كان منه إلا أن ذهب إلى مركز التطوع وقدم نفسه أنه يريد أن يتطوع في الجيش رغم أنه وحيد ومعفي، وهكذا تمكن من الوصول إلى معسكر ساوا. في المعسكر العيش في الخيام، الطعام خبز وعدس، المعاملة سيئة، والتدريب قاس جدا ومجهد، تعرف هناك على “مازن” الشاب الارتري، الذي ولد وعاش في جدة بالسعودية، حيث طرد من السعودية مع عائلته، بعد أن انهى كفيل والده كفالته عنه، كان متدينا ويتكلم العربية أكثر من اللغات الأخرى المتداولة في أرتيريا، في أرتيريا تعدد ديني وقبائلي ولغات ولهجات، وتعرف صاحبنا أيضا على “كداني” شاب متميز كان يتمرد على الاوامر، يساق للتعذيب، احتكاكه بالآخرين قليل، بعد وقت قصير علم حكاية كداني أنه ينتمي لمجموعة ثورية تؤمن بضرورة التغيير، ترفض النظام والظلم الاجتماعي، تقول إن الحكم الجديد، أصبح مستبدا مستغلا ويعمل ضد مصلحة الناس، ويجب أن يتغير، له حبيبة هي أيضا في المعسكر نفسه في قسم الفتيات، نظام المعسكر تدريب وإجهاد، لهم في الأسبوع مرة واحدة للاستحمام، ومرة كل شهر للّقاء بالفتيات والسهر وممارسة الجنس، حيث يكون لكل شاب فتاة يصاحبها، شرط أن لا يحصل حمل، وإن حصل فهناك السجن للشاب والتسريح للفتاة، لذلك كان يتم توزيع الواقيات الذكرية عليهم بكثرة. بدأ صاحبنا بالبحث عن حبيبته في معسكر الفتيات، واستعان بحبيبة كداني وحاول أن يتسلل إلى هناك أكثر من مرة ولم ينجح، وحتى في الموعد الشهري للقاء الجماعي بين الشباب والبنات لم يجد لها أثرا، لفت صاحبنا نظر الضابط المدرب “منجوس” الذي ضمه اليه سائقا خاصا، فارتاح من إجهاد التدريب وسوء الغذاء، ومع الوقت تأكد أن سلمى غير موجودة في المعسكر، وأنها قد تكون هربت إلى السودان، لذلك قرر ان يلحقها إلى هنالك، و استعان بالتصريح الذي أخرجه له الضابط منجوس، وأخذ سيارة الضابط العسكرية التي يتركها معه كلما غادر المعسكر إلى منزله . وفعلا هرب صاحبنا من المعسكر بالسيارة العسكرية إلى الحدود السودانية، واستطاع أن يتجاوز الحواجز الأمنية والعسكرية، بمساعدة كداني الذي أرسله إلى اصدقائه، حيث اخذوا منه السيارة العسكرية، واعطوه بدلا منها سيارة مدنية، وكان بحوزته بعض المال، وقبل وصوله للحدود السودانية، تعرض لإطلاق نار أصيبت السيارة وتوقفت، وجاء من ضربه على رأسه وفقد الوعي، وعندما عاد وعيه وجد نفسه بين مجموعة كبيرة من النساء والأطفال والرجال، في مجمع أقرب للسجن، وعندما تساءل عن حالهم، أخبروه ان “الشفتا” قد قبضت عليهم، وتريد منهم فدية ليسمحوا لهم بمواصلة طريقهم والهروب إلى السودان، وعلم أن الشفتا قبائل بدوية ، كانت مناطقها قد تصحّرت فهاجروا إلى هنا، وهي تعتمد على أخذ الفدية من كل من يريد أن يعبر إلى السودان، الرجال يعملّن ليوفوا ماقرر عليهم من مال، النساء يعملن ويغتصبن ، ومن يمرض يبعثونه إلى سيناء حيث يتحول إلى سلعة في تجارة الأعضاء التي تسوّق في اسرائيل، كانت هذه الأخبار مؤلمة لصاحبنا، وسرعان ما ساعد رجلا وامرأة كانت تغتصب دوما على ايفاء ما عليهم من فديتهم مما معه من مال، وتمكنا من المغادرة إلى السودان، وسرعان ما ساعده الرجل حيث أعاد تسليم نفسه للسلطات الارتيرية التي تعطي المال مقابل ذلك، وبعض المال كان فدية لصاحبنا الذي اقتيد من الشفتا إلى الحدود السودانية، وهناك تم القبض عليه من السلطات السودانية التي الحقته بمخيم للاجئين الارتيريين اسمه “الشجراب”، حيث يعيش الارتيريين الهاربين إلى السودان في مخيم كبير، وتمنع السلطات السودانية عنهم الدخول للسودان، سيحصلون على بعض المعونات من منظمات الامم المتحده، ويشتري قماشا وأدوات ويبني لنفسه خيمة، حتى يستقر حاله ومن ثم يبحث عن حبيبته سلمى، في الشجراب يعيش اللاجئون منذ سنين عديده، والبعض من مواليد المخيم نفسه، القليل من يستطيع الحصول على الجنسية السودانية ، ويصبح عينا للسلطات السودانيه، النادر من يستطيع الهرب للداخل السوداني. يتعرف رويدا رويدا على الناس وحكاياهم، فهذه “أم أوّاب” الجدة العجوز التي استقرت منذ سنين طويلة هنا، فقد ارادت الهجرة وكان معها ابنها الصغير، الذي خطفه منها الشفتا ليبيعوه لمن يأخذ أعضائه، أو ليهرب لأوروبا ليباع كعبد أو تشتريه اسرة ما و تتبناه ، وكانت قد وشمته في كتفه قبل أن تعطيهم اياه، ومنذ ذلك الوقت وهي تسمي نفسها أم أواب وعندما يأتي أي شاب جديد ، تتفحصه لعله ولدها، وتعرف على “أمير” الشاب الذي يعمل في سوق المخيم على عربة بيع خضار، وقرر أن يساعده ويجعله يعمل معه، لكي تتحسن حياته، فما تعطيه بطاقة المساعدة كلاجئ لا تكفي لأيام من الشهر. أمير الذي حكى له قصته، جاء هاربا من قسوة الحياة من أرتيريا الى السودان، لكن حياة المخيم ودوامها وعدم الخروج منها خيبت أمله، وكان قد سمع أن من يذهب إلى إسرائيل يعيش حياة سعيدة، وتعرف على بعض المهربين، وعمل كثيرا ليؤمن مبلغا ويعطيه لأحد للمهربين، ليوصله إلى سيناء ، ومن هناك إلى “إسرائيل”، وهكذا جمع المال وسلمه للمهرب الذي أخذه مع كثيرين غيره في رحلة طويلة إلى مدن على البحر الأحمر، ليصل بعد تعب شديد إلى سيناء، واستلمهم المهربين من بدو سيناء ، وكان معهم نساء وأطفال، والبعض مقيد، وعرف ان هؤلاء مختطفين أو مباعين كعبيد، وعندما وصل إلى سيناء واقترب من الحدود مع “اسرائيل” لاحظ تناثر الجثث وقد قطعت أو شوهت، ارتعب وأدرك المأساة التي وقع بها، انهم ضحايا عصابات دولية للتجارة بالاعضاء، انهم مجرد سلعة، البعض تؤخذ كليته فقط، والبعض أكثر، والبعض يموت، ولا رحمة في مملكة الرعب والموت هذه. وصل إلى نقطة اللاعودة، بعض الأطفال اختفوا ، و المرأة الحاملة ماتت وهم يأخذون منها كليتها، وهو أخذ بالقوة لعملية حيث نزعت منه كليته ، وعندما صحى من العملية، أدرك مأساته، وحتى الذهاب لإسرائيل لم يكن متاحا، وعاد إدراجه إلى الشجراب حيث وجدها بلده الاخير ، وعمل ببيع الخضار في سوقها المتواضع. بحث صاحبنا عن حبيبته سلمى في الشجراب بمساعدة الخالة ام أوّاب وأمير ولكن لم يجد لها أثرا، لا هي قدمت إلى هنا، ولا غادرت إلى إسرائيل ولا إلى السودان ، وتعرف هنا على المنظمات الدولية لدعم اللاجئين، وكانت بينهم فتاة اسمها “كلارا”، ايطالية تتقن العربية، جدّها كان ممن خدموا في الجيش الإيطالي ايام احتلال إيطاليا لارتريا، قررت أن تساعد صاحبنا من خلال تأمين فرصة عمل، ومساعدته للسفر إلى أوروبا والاستقرار هناك، لعل حياته تتحسن، ويعوّض عن حب ضائع، ووطن يطرد أبناءه، يقبل هذا العرض مضطرا، ويجهز نفسه للسفر، ولكنه في اللحظات الأخيرة يقرر أن يعود إلى موطنه أرتيريا، الى مدينته مرسى فاطمة، ليبحث مجددا عن حبيبته، لعلها تكون هناك، ويبدأ طريق العودة ويصل بصعوبة إلى مدينته، إلى أمه التي تفتقده، وصديقه، وصاحب المتجر الذي يعمل به في السوق، ويسأل عن اخبار سلمى، ويعلم أنها عادت بعد غيابه عن المدينة وبحثت عنه، وعندما لم تجده عادت ثانية تبحث عنه بين ساوا والشجراب وقد تكون ذهبت الى السودان ايضا. هكذا أدرك أن حبيبته تبحث عنه وهو يبحث عنها، في حلقة دائرية دون أن يلتقيان، وقرر الاستقرار في مرسى فاطمة لعل سلمى تعود ثانية ويلتم شمل الأحباب مجددا.
.هنا تنتهي الرواية.
.في تحليلها نقول: أننا أمام رواية تطل على بلدان وأحوال اجتماعية في أرتيريا أو السودان، قليلة المدونات عنها، رواية تجعلنا ندخل عوالم مجهولة بالنسبة لنا، بمقدار ما هي مجهولة ، هي قاسية، واقع التخلف والفقر والتصحر والصراع والفاقة، واقع الحكام المستبدين الذين يدّعون شعارات كبيرة، ويمارسون قهرا اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا على كل الناس، مما يجعلهم يقررون الهجرة والهرب من بلدانهم، لعل الحياة في الغربة افضل، سيكونون ضحايا تجّار البشر، حياتهم مهدورة، واجسامهم مستباحة، واعضائهم للبيع، بعض أوطانهم خيام على الحدود الفاصلة بين البلدان، والكل يحلم أن يأتي من ينقذهم ويأخذهم إلى أوروبا لعلهم يعيشون بعضا من عمرهم وانسانيتهم محترمه، لذلك نتابع كل يوم قوارب الموت تحمل الأفارقة والعرب من جحيم بلدانهم لحلم الحياة في أوربا، القليل القليل يصل، والأكثر يغرق في البحار، ويكون طعاما لأسماكها.
ما أرخص الإنسان في بلادنا.
21 / 8/ 2018
رواية “مرسى فاطمة” للروائي الأرتيري “حجي جابر” قراءة جميلة وتعقيب موضوعي من الكاتب “احمد العربي” تتحدث الرواية عن سيرة شاب ارتيري والفتاة التي احبها ومسيرة حياتهم الاجتماعية بأرتيريا والسودان وبسبب القهر يقررون الهجرة ، لذلك نتابع كل يوم قوارب الموت تحمل الأفارقة والعرب من جحيم بلدانهم لحلم الحياة في أوربا،