هل الاحتجاجات والتظاهرات تهدد الديمقراطية أم تضمنها؟

شون أوغرايدي

يعتقد ريشي سوناك وحكومته أنّ حركة التظاهرات من أجل غزة “لا هي بريطانية ولا هي ديمقراطية”. لكن التاريخ والمنطق مخالفان لهذا الرأي

هل تطرح حرية التعبير إشكالية أمام حكم الديمقراطية في المملكة المتحدة؟

يشنّ رئيس الوزراء (البريطاني) على ما يبدو حرباً على شيء غير موجود بتاتاً، ألا وهو “حكم الغوغاء”. فقد وجّه ريشي سوناك، ربما بدفع من بعض العناصر من يمين حزبه الذين يولون أهمية للنظام أكثر منها لحرية التعبير، تنبيهاً إلى قادة الشرطة حول وجود “إجماعٍ متزايد بأن حكم الغوغاء يأخذ مكان الحكم الديمقراطي”.

وقد دفع بمقترحات غامضة لإنهاء هذا التهديد المفترض على الحضارة، بعضها منطقي ومتوافق عليه- مثل وضع حد للتجمعات المثيرة للترهيب خارج منازل النواب، على سبيل المثال. فيما بعضها الآخر مبهم وخطابي فقط، مثل قوله “ببساطة، لا يسعنا السماح بهذا النمط من السلوك الذي يزداد عنفاً وترهيباً، والهادف، بحسب ما يرى الجميع، إلى قمع النقاش الحرّ ومنع الممثلين المنتخبين من أداء مهامهم. فهذا مخالف للديمقراطية بكل بساطة… وسوف أقوم بكل ما تتطلبه حماية ديمقراطيتنا والقيم التي نثمّنها”.

تشي تصريحات سوناك كما استخدامه عبارة “حكم الغوغاء” بما تحمله من مبالغة بأنه يشارك آراء لي أندرسون حول هذا النوع من التظاهرات مع أنه قال إن الكلام الذي استخدمه أندرسون نفسه كان “خاطئاً”.

وبتناغم تام مع رئيس الوزراء، ألمح وزير الداخلية جيمس كليفرلي أنّ المتظاهرين من أجل غزة “عبروا عن موقفهم” وعليهم التخلي عن هذه التظاهرات التي أصبحت أسبوعية. وفي هذا التوجه بعض التعالي، فيما يستند إلى الاعتقاد بأنّه يجب تقنين المعارضة الشعبية نزولاً عند طلب وزير يصدف أنه لا يحمل قدراً كبيراً من التعاطف مع المتظاهرين. وزارة الداخلية تقول إن هذا الشكل من التظاهر “لا هو بريطاني ولا هو ديمقراطي”. لكن التاريخ والمنطق يخالفان هذا الرأي…

هل ننزلق إلى “حكم الغوغاء”؟

كلا، طبعاً. قامت أخيراً العديد من التظاهرات الصاخبة والتي تسببت بتعطيلٍ كبيرٍ، احتجاجاً على الحرب في غزة، وأعرب عدد من البرلمانيين عن هواجسهم بشأن احتمال تشكيلها ضغطاً على النواب، لكي يغيروا من سلوكهم وتصويتهم. كما قامت عدة محاولات لمقاطعة المتاجر والمواقع الصناعية التي يُزعم بأنها مرتبطة بالحرب في غزة؛ إضافة إلى مقاطعة سير العمل في مجلس تشورلي البلدي.

لكن في واقع الأمر، الدليل الوحيد على تأثير هذا الضغط على عملية اتخاذ القرار السياسي كانت طريقة اختيار رئيس مجلس العموم ليندسي هويل لتعديلات على مقترح تقدّم به الحزب الوطني الاسكتلندي في جلسة النقاش المخصصة لمقترحات المعارضة. ويقول منتقدو هذه الخطوة إنه على رغم عدم وجود أي تأثير عملي لإقرار أي مقترح على السياسة الخارجية، فهو يشكّل انحداراً نحو حكم الغوغاء؛ ومن الناحية الأخرى، يفيد هويل كذلك أنه أراد السماح لكل الأحزاب بالتعبير عن رأيها في هذه القضية.

في أي حال، لا تؤثر الاحتجاجات والتظاهرات نفسها كثيراً على السياسة- وإن أثّرت عليها، فذلك من حيث كونها أحد أوجه التعبير عن شعور ديمقراطي أقوى بكثير. بالتالي، فإن الاحتجاجات السلمية والعنيفة على ضريبة المجتمع المعروفة باسم ضريبة الاقتراع في 1990 لم تكن السبب الوحيد الذي أدّى إلى التخلّي عن فرض هذه الضريبة وعزل مارغريت تاتشر؛ بل إن درجة الرفض الشعبي الواسع للضريبة نفسها شكّلت تهديداً لاستمرارية حكومة المحافظين نفسها (ناهيك عن فرصها بالفوز في الانتخابات التالية). وعندما تخلى عنها جون ميجور، لم يخضع لـ”حكم الغوغاء” بل لنوابه والرأي العام.

ما الذي قد يحدث إن قيّدت الحكومة التشريعات التي تتيح التظاهر والاحتجاج؟

سوف تكون حركة خطيرة. قد يشعر البعض- سواء كان ذلك عادلاً أم لا- بأنه مضطر، في غياب الحق في التعبير العلني عن المعارضة، إلى إيجاد طرق أخرى لتسجيل موقفه مثل التحركات المباشرة وتصعيد العنف. تعتبر التظاهرات طرقاً ممتازة وآمنة إجمالاً لكي تنفّس بعض أجزاء المجتمع عن نفسها وتوضح موقفها تماماً للطبقة الحاكمة. كما أنه من غير الممكن قمع المعارضة العلنية من دون تحويل البلاد إلى دولة بوليسية- والتضحية بالتالي بحرية التعبير التي غالباً ما تمثّلها التظاهرات.

لماذا لا تعتقل الشرطة المتظاهرين الذين يخرقون القانون؟

على الأرجح أن ذلك لا علاقة له بأي مؤامرة أبطالها رئيس بلدية لندن، صادق خان (الذي يملك صلاحيات محدودة في هذا المجال)، و”أصحابه” والمتطرفين الإسلاميين أو الإرهابيين. على رغم بعض التقارير الإعلامية المضللة، لم تشهد التظاهرات لأجل غزة عنفاً نسبياً، ولا حالات كثيرة من انتهاك القانون. ولا يعدّ السلوك الذي قد يجده البعض مهيناً، مثل تسلّق النُصب التذكارية للحرب، فعلاً إجرامياً بعينه وسيكون من الصعب إخضاعه للملاحقة القانونية؛ والأمر نفسه ينسحب على ترديد شعارات يمكن تفسيرها بعدة طرق. انتُهكت بالفعل بعض القوانين المتعلقة بالتشجيع على أعمال إرهابية (وهذه نقطة قابلة للنقاش) ولا شك في وقوع أحداثٍ انطوت على سلوك تهديدي واعتداء والتسبب بأضرار جنائية لكن لا بدّ أن يعود تنفيذ قرار الاعتقال نفسه في ظلّ ظروف محددة إلى الشرطة- ويتعيّن احترام استقلاليتها.

في حال تجمّع مئة ألف شخص في وسط لندن، إما بشكلٍ متفق عليه مع الشرطة أم لا (يشترط القانون الموافقة المسبقة على التدابير)، وتسببوا بمشكلات، فلا يمكن للشرطة أن تعتقلهم وتحتجزهم جميعاً. في العديد من الحالات، يغطّي القانون أساساً السلوك الفوضوي العنيف- ويُعتبر اجتياح مجلس العموم أو قاعة المجلس أمراً منافياً للقانون. وفي حالات أخرى، ربما يكون في القانون نقص؛ مثلاً، هل يُعتبر رفع العلم الفلسطيني من سيارة أو مجموعة سيارات تمرّ عبر منطقة يهودية جرماً؟ وإن لم يكن جرماً، فهل يجب أن يكون كذلك؟

أما البديل، الذي تطالب به شخصيات مثل سويلا برايفرمان صراحةً أو بشكل شبه صريح، فهو أن يكون للوزراء، أي السياسيين، القدرة على تقرير أيّ التظاهرات يمكن أن تُعطى الضوء الأخضر، والظروف المحيطة بها وبالتالي من يجب اعتقاله. وفعلياً، بحسب منطقها، لا يجب السماح لـ”المحامين اليساريين” الذين يملؤون نظامنا القضائي وهيئات المحلّفين المطيعة أن يتآمروا لتبرئة الأشخاص الذين تعتبرهم الحكومة مذنبين. ويعدّ هذا الانحدار نحو الفاشية الناعمة تقويضاً للحريات المدنية أخطر بكثير من الفكرة الزائفة عن حكم الغوغاء.

أليست هذه المسيرات ترهيبية؟

بلى، ويجب التعامل مع هذه النقطة. وذلك يصحّ تحديداً في هذه الحالة بالنسبة إلى المجتمع اليهودي الذي تكّلم كثير من أعضائه عن شعورهم بعدم الأمان في وسط لندن عندما تحدث هذه المسيرات الضخمة. ويمكن تفسير هتاف “من النهر إلى البحر” على أنه مطالبة بالدمار العنيف لدولة إسرائيل وشعبها (وهو يعني ذلك أحياناً)؛ والأمر نفسه ينسحب على عرض ذلك الشعار على برج إليزابيث نفسه، أي مقر البرلمان.

ومن الصعب بالتالي إقامة التوازن. إن أخذنا مثالاً آخر، سمحت الشرطة أحياناً في الماضي للنازيين الجدد بالسير عبر مناطق المهاجرين بسبب وجود حق (أصيل) يضمن لهم ذلك. وكما هي الحال مع حرية التعبير، يمكن أن نطرح فكرة أن حق التظاهر يشمل حق الإساءة أو الإهانة. لكن الشرطة اتّجهت في الآونة الأخيرة نحو منع هذه المسيرات عند وجود احتمال كبير بأن تمتد لتصبح معركة ضارية تشكّل خطراً على الحياة. من الصعب أن تقيّم بسهولة إلى أي مدى يمكن لمسيرات غزة أن توضع في نفس الخانة- إذ يجب أن تقيّم الشرطة كل واحدة منها مع مراعاة الظرف- وسوف ترتكب أخطاء في هذا المجال الذي يغيب فيه اليقين.

هل هذه ظاهرة جديدة؟

إجمالاً، أبداً. لا شك في أنّ بعض الظواهر جديدة، مثل الاغتصاب الرقمي والتهديدات بالقتل وهجمات المجموعة على أفراد في الفضاء الافتراضي، وهي أمور مخيفة ومقلقة جداً، كما اتّجاه الاحتجاج أمام منازل النواب. لكن الاضطراب المدني، الذي يتحول أحياناً إلى عنف وفوضى أسوأ بكثير مما رأيناه أخيراً، شكّل سمة ثابتة في التاريخ البريطاني. وتُعتبر أسماء وتواريخ الانتفاضات وأعمال الشغب والفوضى معروفة جيداً، وهي أحياناً سيئة السمعة، لكن هذا البلد، كما مؤسساته الديمقراطية أخيراً، تمكّن من استيعاب كل هذه الأحداث والنجاة منها.

والسجل طويل، فيما تشمل القائمة غير الكاملة: ثورة الفلّاحين (1381)؛ وحركة أنصار المساواة (أربعينيات القرن السابع عشر)؛ ومذبحة بيترلو (1819)؛ ومقاومة الحركة اللاضية والكابتن سوينغ للثورة الصناعية؛ والميثاقيين (أربعينيات القرن التاسع عشر)؛ وحركة الناشطات المطالبات بحق النساء في التصويت في العصر الإدواردي؛ ومعركة بريك لاين (1936)؛ وحملة نزع السلاح النووي (ابتداء من 1958)؛ وأعمال الشغب في ميدان جروسفينور لمناهضة الحرب على فيتنام (1968)؛ ومسيرات الجبهة الوطنية المستفزة في سبعينيات القرن الماضي؛ والإضرابات والاعتصامات الجماهيرية في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي؛ وأعمال الشغب التي عمّت المدن في 1981 وفي منطقة برودووتر فارم (1985)؛ وأعمال الشغب احتجاجاً على ضريبة الاقتراع (1990)؛ واحتجاجات مجموعة تحالف الريف حول صيد الثعالب (في مطلع الألفية الثانية)؛ والحركة “المناهضة للرأسمالية” (1999-2001)؛ واحتجاجات الوقود وقطع الطرقات (2000)؛ والتظاهرة المليونية ضد الحرب في العراق (2003)؛ وأعمال الشغب في العام 2011؛ واحتجاجات بريكست، مع وضد (منذ 2016)؛ والتظاهرات المختلفة لحركة حياة السود مهمة والبيئة خلال السنوات الأخيرة.

وبالتالي، فإنّ تاريخ الاضطرابات والفوضى طويل ومتنوّع، ولم يحدث أبداً أن حلّ عصر ذهبي اقتصر فيه نشاط الجمهور على النقاش المهذّب وكتابة الرسائل شديدة اللهجة والاحتجاج الصامت والاقتراع كل عدة سنوات. في الواقع، شكّل احتلال المساحات والتجمعات غير القانونية والضرر الجنائي والتسبب باضطراب شامل والمواجهات مع الشرطة سمة أساسية من حياتنا الديمقراطية طيلة قرون، وغالباً ما تكون هذه الأعمال غير مريحة أبداً بالنسبة إلى الوزراء ومؤسسة الحكم. حتى أننا نجونا من حرب أهلية حقيقية وموجات متعاقبة من الاضطرابات وحملات التفجير التي قام بها الجيش الجمهوري الإيرلندي.

يتطلّب وقف الاحتجاجات من أجل غزة من الدولة أن تفرض قوة كبيرة لدرجة تجعلها غير عملية وقد تأتي فعلياً بنتائج عكسية. من غير المرجّح إجمالاً أن يرغم سوناك وكليفرلي الشعب البريطاني على التصرف بلطف فيما بدائل التظاهرات المشروعة أسوأ بكثير.

المصدر: اندبندنت عربية

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. عنصرية سوناك سوناك وكليفرلي وحكومته يتجليان بوضوح بفهم معكوس لحرية التعبير في المملكة المتحدة لتشكل إشكالية للديمقراطية ببريطانيا لإعتبارهم بأنّ حركة التظاهرات من أجل غزة “لا هي بريطانية ولا هي ديمقراطية”. قراءة موضوزعية لإشكالية العنصرية وفهم الديمقراطية لدى القيادة البريطانية .

زر الذهاب إلى الأعلى