قراءة في المجموعة القصصية:الرسالة الاخيرة.

احمد العربي

الكاتب : فواز حداد.

الناشر : دار التكوين .

ط ٢ . ٢٠٠٧م.

فواز حداد أيقونة الرواية السورية ونموذجها المتميز المعطاء ، قرأنا له جميع إنتاجه الروائي الذي كتبه بما يزيد عن ثلاثة عقود ، ومازال يكتب أدام الله عليه الهمة والعافية …

الرسالة الاخيرة هي المجموعة القصصية الوحيدة الذي كتبها فواز حداد ونشرها أول مرة عام ١٩٩٤م. أي بعد ثلاث سنوات عن باكورة أعماله الروائية “موزاييك – دمشق ١٩٣٩” وبوقت متزامن مع روايته الثانية “تياترو ١٩٤٩”، لعله أراد بكتابة المجموعة القصصية الرسالة الاخيرة ان يجرب دروب العمل الأدبي القصصي اضافة الى الرواية، وبذلك نستنتج نحن القراء بعد عقود على كتابة المجموعة أننا أمام موهبة أدبية لدى كاتبنا فواز حداد يمتلك من خلالها زمام الموضوع الذي يكتب عنه وفيه سواء كان رواية أو قصة قصيرة…

ونحن هنا في هذه القراءة سنتجول عبر مجموعته القصصية التي تناولت موضوعات عدة و ازمنة مختلفة وأسلوب سرد بعضه بلغة المتكلم وبعضه على لسان الراوي. كل القصص زمانها منذ بداية القرن الماضي وعقود بعد ذلك. ومكانها دمشق الاثيرة على قلبنا وقلب كاتبنا فواز حداد…

تبدأ المجموعة بقصة الرسالة الاخيرة:

تدخل القصة في عالم رجل عادي في بلادنا يعمل موظفا وله شبكة علاقات ويعيش حياته بشكل روتيني عادي. من عمله لوظيفته، يجهد ليؤسس حياة اسرية، يتابع أجواء العمل وما فيه من محسوبية ونميمة و نفاق وتزلف، يحاول أن يصنع لحياته نموذجه الذي يرضى عنه. لكن حياة صاحبنا  تتغير بشكل جذري عندما تأتيه رسالة مجهولة المصدر تعطيه نصيحة مبطنة بتهديد عن ضرورة تغيير نمط حياته، وهكذا بدأ صاحبنا يغير عاداته وسلوكه، طلبت الرسائل منه القراءة وممارسة نمط من الحياة الخاصة وبعد ذلك استقالته من العمل وصلت به أخيرا ليكون سجينا في بيته بين أكوام الكتب وحياته منهوبة منه، ميت في وضع مزري…

قصة تسلط الضوء على البرمجة الاجتماعية والسياسية للإنسان السوري ليخرج من انسانيته وفاعليته وتتحول حياته لخواء…

أما قصة الرجل الذي خرج من الورق:

نحن أمام روائي يكتب لإحدى الصحف المحلية رواية متسلسلة عن جريمة وهناك متهم بها وهو بريء، يتجول الروائي في الشارع وهو يفكر كيف سيخرج المشتبه به من التهمة الموجهة له، ويلتقي بأحدهم في الشارع ويخبره انه بطل روايته المتهم وأنه لديه مخرج من الجريمة ويحصل بينهم حوار…

القصة فيها من الغرائبية والغوص في الممكن والمستحيل، وان العمل الأدبي لا مستحيل أمامه لتوصيل ما يريد توصيله للقارئ…

أما قصة صورة امرأة:

نحن أمام حالة اجتماعية تحصل لانها ترتبط بالمرأة والرجل والحب. هم ثلاثة امرأة وزوجها وحبيبها الذي هو صديق زوجها. انهم في بيت الأسرة ثلاثتهم محترقين… وبحث عن كيف احترقوا.؟. وبراعة المحقق والتكهنات.

المهم لنا ان هكذا حال لا بد أن ينتهي ولو بعد حين الى هكذا مآل…

اما قصة الحلم وتفسيره:

صاحبنا الدمشقي يسير في شوارع وأحياء دمشق العريقة يستحضر فيها ازمنه مختلفه، دمشق أيام الترام ونمط الحياة المختلفة ودمشق الآن وصاحبنا يلاحق حلم حب يتجسد أمامه في امرأة يتحدث معها. هو وهي من صنع خياله ..

القصة تقول ليس غريبا أن تكون دمشق أعرق مدينة في التاريخ…

أما قصة تلافيف الذاكرة:

فهي قصة أستاذ التاريخ النموذجي العصامي الفاهم للتاريخ ولحياته، أخبره مدير المدرسة انه سيكتب اسئلة الامتحان النهائي لهذه السنة، وهو امتياز له وشرف يستحقه، ارتفعت معنويات الاستاذ الى السماء واحس ان الدنيا قدمت له هدية عصاميته وجهده ووفائه لرسالته كاستاذ. لكن ذلك لن يدوم طويلا حيث سيخبره المدير ان من الافضل له ان يسرب الأسئلة التي سيكتبها للمدير حتى يعطيها للمسؤولين ليستفيدوا باعطائها لأولادهم وأولاد المسؤولين الآخرين.. فجع صاحبنا الأستاذ وعاش صراعا في نفسه بين اخلاصة لضميره. وبين خوفه على نفسه وعائلته. هذه حكاية لا لعب فيها وسلطة لا لعب معها. يعيش صراعا قاسيا في نفسه ينهيه منتحرا برمي نفسه من سقف بنائه للشارع، هاربا من حمل لم يستطع أن يحمله…

القصة إشارة واضحة للفساد المستشري في بلد يعرف الكل ذلك ومفروض على الكل الصمت عنه وكأنه غير موجود. لأن التصريح عنه يعني مواجهة النظام صانع الفساد والمستفيد منه ومن ثم سيعاقب من يتجرأ في التصريح عنه أو التشهير به… هي ذي سوريا دولة القمع…

أما قصة ليالي الغرام:

فهي قصة تعود بنا الى نهايات العصر العثماني في سوريا. وذلك الرجل الذي يعمل استخباراتيا لدى قوى الثورة العربية وكيف كان يحضر الى بيته في دمشق بالسر ليلتقي زوجته ويعيش معها حبا ممتلئا اشباعا جسديا ونفسيا ويحصل على رضى والديه العجوزين. وزوجته تعيش توقها له ولزيارته وخوفا عليه مما يعمل لكن ليس لها إلا الصبر والانتظار والأمل بعودته القريبة…

قصة تعيدنا إلى مرحلة خروج العثمانيين و هزيمتهم في الحرب العالمية الأولى وبداية دخول سوريا في عهدة الفرنسيين المحتلين…

أما قصة ما بعد الختام:

انها قصة معممة لكثير من العلاقات الزوجية، نحن امام زوج وزوجة وعشرة بينهم في قضاء وطرهم الجنسي. الزوجة في النهار حالها مع مرور الأيام والعشرة تصبح روتينية واحيانا صراعية مع الزوج. وخاصة انها اقترنت مع عدم الإنجاب. والزوج الذي يعيش تخيلات استعاضة جنسية عن زوجته التي يجامعها لكنه يتصورها جنية تأتي إليه بدل زوجته في كل جماع. ينهمكان في العشرة ويتمتعان بكل كيانهما، وتحبل زوجته وهو لا يصدق كيف ذلك هو يعاشر تلك التي تحضر اليه كل مرة، يصمت ويتأكد الحمل وتمر الايام وتلد زوجته طفلا ميتا…

قصة تريد القول أن كثير من العلاقات الزوجية تستعيض بخيالها عن أقرانهم بالعشرة مع آخرين وأخريات، في حياة حب زائف معاش بشكل متبادل. تلك مشكلة…

اما قصة المشكلة الميتة:

فهي استعادة مرحلة الانقلابات الأولى التي حصلت في سوريا بعد الاستقلال بقليل. من خلال الحديث عن اعتقال أحد قادة الانقلاب بعد الانقلاب عليه. وكيف سُجن وتحول بعد ذلك الى معتقل ميت لمجرد أن خبرا أذيع أنه قتل… وهو لم يحتمل أن يعلن ذلك عنه فيستغني عن حياة جديدة مغايرة بموت إرادي يصنعه بنفسه لنفسه…

قصة غرائبية غير مطابقة للواقع الذي حصل تريد اعادتنا للتعريف بما حصل…

أما قصة هيئة التنفيذ:

نحن أمام قصة ذلك الرجل المتهم بأنه قتل أحد الضباط الفرنسيين. وذلك في الفترة التي سقطت بها فرنسا فيشي مع مجيء الجنرال ديغول رئيسا لفرنسا وسيطرة الفرنسيين بالاستعانة بالانكليز على سوريا في نهاية الحرب العالمية الثانية قبل الاستقلال السوري. هذا الرجل من “رجال الله” يقول انه ليس هو القاتل ويسعى أحدهم لتهريبه من السجن لكنه رفض و ينتظر إعدامه ولكن اعدامه لم يتم لان حبل الإعدام ينقطع لثلاث مرات. ليفرج عنه بعد ذلك…

قصة تحكي عن طاقات خفية يعطيها الله لبعض عباده. البعض يؤمن بذلك والبعض ينكره. لكنه موجود في بلادنا ويكثر في أجواء الصوفية…

أما قصة طبيعة صامتة:

محقق ومعه الشرطة في بيت عاهرة مقتولة، يبحثون عن أدلة وثبوتيات تحدد القاتل…

نهاية متوقعة لامرأة امتهنتها الحياة وأصبحت ميتة تحت التنفيذ حتى وهي حيّة…

أما قصة رجل وامرأة في غرفة:

فهي قصة غرائبية مصنوعة من ذات حبيب وحبيبته. احبا بعضهما في زمن غابر هي ماتت وهو وها هما يعودان للغرفة التي تعايشا فيها ويتحدثان يستعيدان حبهما الماضي ويتذكران  ما كان…

قصة حب يدافع عن وجوده بتحدي المستحيل..

هنا تنتهي المجموعة القصصية .

في التعقيب عليها اقول:

إن تنوع الموضوعات والأزمان في المجموعة القصصية لم يؤثر على إحساس الحميمية والعمق في تناول الموضوعات القصصية وأن الحياة ممتلئة بحكايا تريد أن يحضر كاتب متمكن يحولها إلى  حياة جديدة تدخل في السرد القصصي والروائي لتصنع وجودها الخاص الذي يخلدها ويحولها إلى مادة معرفة وخبرة ومتعة…

نعم هكذا هي قصص الرسالة الاخيرة لفواز حداد مقاربة للحياة وصناعة حياة موازية لتقدم إلينا رسالة الحياة وأن الإنسان وجد ليعيش انسانيته باسمى معانيها. منتصر لكرامته الانسانية والحرية والعدالة وحقه بالحياة الأفضل…

هذه هي رسالة الأدب…

٦ . ٣ . ٢٠٢٤م.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. المجموعة القصصية “الرسالة الاخيرة” للروائي السوري فواز حداد” قراءة جميلة وتعقيب موضوعي من الكاتب “احمد العربي” مجموعة قصصية تبدأ المجموعة بقصة “الرسالة الاخيرة” والثانية “قصة الرجل الذي خرج من الورق” والثالثة “قصة صورة امرأة” والرابعة “قصة الحلم وتفسيره” والخامسة “قصة تلافيف الذاكرة” والسادسة “قصة ليالي الغرام” والسابعة “قصة ما بعد الختام” والثامنة “قصة المشكلة الميتة” والتاسعة “قصة هيئة التنفيذ” والعاشرة “قصة طبيعة صامتة” والحادية عشر والأخيرة “قصة رجل وامرأة في غرفة” .

زر الذهاب إلى الأعلى