الانبعاث الغريب لحل الدولتين

مارتن إنديك

كيف يمكن لحرب غير متوقعة أن تفتح الطريق الوحيد المعقول نحو تحقيق السلام

طوال سنوات كانت رؤية دولة إسرائيلية وأخرى فلسطينية تتعايشان جنباً إلى جنب في سلام وأمان موضعاً للسخرية والاستهزاء باعتبارها مفرطة السذاجة، أو أسوأ من ذلك، باعتبارها وهماً خطراً. وبعد عقود من فشل الدبلوماسية التي قادتها الولايات المتحدة في تحقيق هذه النتيجة، بدا بالنسبة إلى كثير من المراقبين أن هذا الحلم مات. لكن تبين أن حكم الموت هذا مبالغ فيه إلى حد كبير.

في أعقاب الهجوم الذي شنته “حماس” على إسرائيل في السابع من أكتوبر (تشرين الأول)، وحرب إسرائيل الخطرة على قطاع غزة المندلعة منذ ذلك الحين، أعيد إحياء فكرة حل الدولتين التي قيل إنها ماتت. وأكد الرئيس الأميركي جو بايدن وكبار مسؤولي الأمن القومي مراراً وتكراراً بشكل علني إيمانهم بأن ذلك يمثل الطريقة الوحيدة لتحقيق سلام دائم بين الإسرائيليين والفلسطينيين والدول العربية في الشرق الأوسط. في الواقع، ليست الولايات المتحدة الوحيدة التي تؤيد هذا الرأي، فالقادة في جميع أنحاء العالم العربي، ودول الاتحاد الأوروبي، والقوى المتوسطة مثل أستراليا وكندا، وحتى الصين، المنافس الرئيس لواشنطن، رددوا الدعوة التي تنادي بالعودة لنموذج الدولتين.

والسبب وراء إعادة إحياء حل الدولتين بسيط للغاية. ففي نهاية المطاف، لا يوجد سوى عدد قليل من البدائل الممكنة له. أولاً، هناك حل “حماس” المتمثل في تدمير إسرائيل، ثم هناك الحل الذي يقترحه اليمين الإسرائيلي المتطرف وهو ضم الضفة الغربية إلى إسرائيل وتفكيك السلطة الفلسطينية وترحيل الفلسطينيين إلى دول أخرى. وهناك أيضاً نهج “إدارة الصراع” الذي اتبعه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على مدى العقد الماضي أو نحو ذلك، الرامي إلى الحفاظ على الوضع القائم إلى أجل غير مسمى، وشهد العالم عدم فعاليته. وأخيراً هناك فكرة الدولة ذات الثنائية القومية التي يصبح فيها اليهود أقلية، وهذا يعني إنهاء وضع وهوية إسرائيل كدولة يهودية. ولن ينجح أي من هذه الخيارات في حل الصراع، في الأقل ليس من دون التسبب في كوارث أكبر. وبالتالي، إذا أردنا إنهاء هذا الصراع سلمياً، فالفكرة الوحيدة المتبقية هي حل الدولتين.

كان كل هذا صحيحاً قبل السابع من أكتوبر. لكن غياب القيادة الفعالة والثقة والاهتمام لدى كلا الطرفين، وفشل الجهود الأميركية بشكل متكرر في تغيير هذه الحقائق، جعل من المستحيل تصور مسار موثوق نحو حل الدولتين، والآن ازداد هذا الأمر صعوبة، إذ إن الإسرائيليين والفلسطينيين أصبحوا أكثر غضباً وخوفاً من أي وقت مضى منذ اندلاع الانتفاضة الثانية في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2000، ويبدو أن احتمال بناء الثقة المتبادلة التي يتطلبها حل الدولتين أبعد من أي وقت مضى.

وفي الوقت نفسه، في عصر المنافسة بين القوى العظمى في الخارج والاستقطاب السياسي في الداخل، وبعد عقود من التدخلات الدبلوماسية والعسكرية الفاشلة في الشرق الأوسط، تضاءل نفوذ واشنطن وصدقيتها في المنطقة بشكل كبير مقارنة بفترة تسعينيات القرن الـ20. خلال تلك الفترة، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وطرد جيش الدكتاتور العراقي صدام حسين من الكويت الذي قادته الولايات المتحدة، بدأت واشنطن العملية التي أدت في النهاية إلى اتفاقات أوسلو.

ولكن، نتيجة للحرب في غزة، تجد الولايات المتحدة نفسها أكثر حاجة إلى عملية ذات صدقية يمكن أن تسهم في التوصل إلى اتفاق في نهاية المطاف، ونفوذ أقوى من أجل تحويل إحياء حل الدولتين من مجرد موضوع للنقاش إلى واقع ملموس. وسيتطلب القيام بذلك التزاماً كبيراً من ناحية الوقت ورأس المال السياسي. وسيتعين على بايدن أن يلعب دوراً نشطاً في تشكيل قرارات حليف إسرائيلي متردد، وشريك فلسطيني غير فعال، ومجتمع دولي نافذ الصبر. ونظراً إلى أن بايدن سيدعو إلى تبني نهج تدريجي لن يتمكن من تحقيق السلام إلا بعد فترة طويلة، فمن الضروري ترسيخ حل الدولتين باعتباره الهدف الأسمى الآن من خلال قرار صادر عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الذي ترعاه الولايات المتحدة.

الطريق الطويل والوعر

يعود حل الدولتين لعام 1937 على أقل تقدير، عندما اقترحت لجنة بريطانية تقسيم الأراضي الخاضعة للانتداب البريطاني المعروفة آنذاك باسم فلسطين إلى دولتين. وبعد 10 سنوات، أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار رقم 181، الذي اقترح دولتين لشعبين: واحدة عربية وأخرى يهودية. وعلى رغم أن تقسيم الأراضي المقترح في القرار لم يرض أياً من الطرفين، إلا أن اليهود قبلوا به، في حين رفضه الفلسطينيون، مدعومين من الدول العربية المناصرة لهم. وأدت الحرب التي أعقبت ذلك إلى قيام دولة إسرائيل. ونتيجة لذلك، تحول ملايين الفلسطينيين إلى لاجئين، وتلاشت تطلعاتهم الوطنية.

ظلت فكرة الدولة الفلسطينية في حالة سبات لعقود من الزمن، إذ أصبحت إسرائيل وجيرانها العرب منهمكين بصراعهم الخاص، مما أدى إلى الاحتلال الإسرائيلي والاستيطان في غزة والضفة الغربية بعد حرب الأيام الستة عام 1967، التي أخضعت ملايين الفلسطينيين للسيطرة الإسرائيلية المباشرة ولكن من دون إعطائهم الحقوق الممنوحة للمواطنين الإسرائيليين. ولكن في نهاية المطاف، أدت الهجمات الإرهابية التي شنتها منظمة التحرير الفلسطينية وانتفاضة الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال الإسرائيلي في الثمانينات من القرن الماضي إلى إجبار إسرائيل تقبل حقيقة عدم إمكان استمرار الأحوال على ما هي عليه. في عام 1993، وقعت إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية اتفاقات أوسلو بوساطة أميركية، واعترف كل منهما بالآخر ووضعا الأساس لعملية تدريجية متعددة المراحل تهدف في النهاية إلى إنشاء دولة فلسطينية مستقلة، وبدا أن مرحلة حل الدولتين حانت.

وبحلول نهاية عهد إدارة كلينتون، كانت عملية أوسلو أنتجت مخططاً تفصيلياً لما قد يبدو عليه حل الدولتين: دولة فلسطينية تغطي 97 في المئة من الضفة الغربية وكامل قطاع غزة، مع تبادل للأراضي متفق عليه يعوض الدولة الفلسطينية عن نسبة ثلاثة في المئة من أراضي الضفة الغربية التي كانت إسرائيل تعتزم ضمها، إذ كان يعيش في ذلك الوقت حوالى 80 في المئة من جميع المستوطنين اليهود على الأراضي الفلسطينية. وكانت عاصمة الفلسطينيين ستكون في القدس الشرقية، إذ تخضع الضواحي ذات الأغلبية العربية للسيادة الفلسطينية، بينما تخضع الضواحي ذات الأغلبية اليهودية للسيادة الإسرائيلية. وكانت الدولتان ستتشاركان السيطرة على ما يسمى بـ”الحوض المقدس” في القدس، وهو موقع يضم أهم مقدسات الديانات الإبراهيمية الثلاث.

لكن الاتفاق النهائي على هذه الشروط لم يتحقق قط. وبصفتي عضواً في فريق التفاوض التابع لإدارة كلينتون في ذلك الوقت، أدركت أن أياً من الطرفين لم يكن مستعداً لتقديم تنازلات والمساومة في شأن مسألة عاطفية للغاية تتعلق بتحديد من سيسيطر على القدس أو بقضية “حق العودة” للاجئين الفلسطينيين، التي كانت تشكل تهديداً كبيراً للإسرائيليين. وفي النهاية، انهار إطار السلام الذي بذل كثيرون جهوداً جبارة في سبيل بنائه، وسط موجة من أعمال العنف أثارها الفلسطينيون بإطلاق انتفاضة أخرى أكثر حدة بينما وسع الإسرائيليون احتلالهم للضفة الغربية. واستمر الصراع الذي أعقب ذلك لمدة خمس سنوات، فأودى بحياة الآلاف من الجانبين وقضى على أي أمل في التوصل إلى تسوية.

وسعى كل رئيس أميركي لاحق إلى إحياء حل الدولتين، ولكن ثبت أن مبادراتهم غير قادرة على معالجة انعدام الثقة الناجم عن لجوء الفلسطينيين إلى العنف مجدداً وتصميم المستوطنين الإسرائيليين على ضم الضفة الغربية. لقد أصيب الإسرائيليون بالإحباط لأن القيادة الفلسطينية لم تبد رغبة في التجاوب مع ما اعتبروه عروضاً سخية لإقامة دولة فلسطينية، وفي المقابل لم يصدق الفلسطينيون قط أن هذه العروض كانت صادقة أو أن إسرائيل سوف تنفذها إذا تنازلوا عن مطالبهم. وفضل القادة على الجانبين إلقاء اللوم على بعضهم بعضاً عوضاً عن إيجاد طريقة لإخراج شعبهم من المستنقع البائس الذي خلقته عملية السلام الفاشلة.

حال رفض وإنكار

بحلول الوقت الذي أصبح فيه بايدن رئيساً للولايات المتحدة في عام 2021، كان العالم تخلى عن حل الدولتين. وكان نتنياهو، الذي هيمن على سياسة بلاده على مدى السنوات الـ15 الماضية، أقنع الإسرائيليين بأنهم لا يملكون شريكاً فلسطينياً يسعى إلى السلام، وبالتالي هم لا يحتاجون إلى معالجة مسألة ما يجب فعله مع 3 ملايين فلسطيني في الضفة الغربية ومليونين في قطاع غزة الذين كانت إسرائيل تحكمهم فعلياً. وسعى نتنياهو عوضاً عن ذلك إلى “إدارة” الصراع من خلال تقويض السلطة الفلسطينية (شريك إسرائيل المفترض في عملية السلام) واتخاذ الخطوات اللازمة لكي يسهل على “حماس”، التي تتشارك معه نفوره من حل الدولتين، تعزيز حكمها في غزة. وفي الوقت نفسه، سمح لحركة الاستيطان في الضفة الغربية بالتوسع من دون أي قيود مما جعل من المستحيل أن تشكل تلك المنطقة جزءاً تابعاً للدولة الفلسطينية المترابطة جغرافياً.

واستطراداً، فقد الفلسطينيون أيضاً الثقة في حل الدولتين. فعاد بعضهم إلى الكفاح المسلح، بينما بدأ آخرون في الانجذاب إلى فكرة الدولة الثنائية القومية التي يتمتع فيها الفلسطينيون بحقوق متساوية مع اليهود. كذلك، اكتسبت صيغة “حل الدولة الواحدة” التي تبنتها “حماس” والقاضية بإلغاء إسرائيل تماماً، زخماً أكبر في الضفة الغربية، إذ بدأت شعبية الحركة تتفوق على شعبية أسلوب القيادة الفاسد والقديم الذي اعتمده محمود عباس، رئيس السلطة الفلسطينية.

لسنوات عدة، حذر الدبلوماسيون الأميركيون من أن هذا الوضع القائم غير مستدام، وأن انتفاضة فلسطينية أخرى ستندلع قريباً. ولكن تبين أن الفلسطينيين لم تكن لديهم الشجاعة أو الرغبة في بدء انتفاضة أخرى وفضلوا البقاء على أرضهم قدر المستطاع والصمود حتى رحيل الإسرائيليين. وكان هذا مناسباً لإدارة بايدن التي كانت عازمة على إزالة الشرق الأوسط من سلم أولوياتها في وقت تعالج فيه التحديات الاستراتيجية الأكثر إلحاحاً في آسيا وأوروبا. ما أرادته في الشرق الأوسط هو الهدوء. لذا، كلما كان الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني يهدد بالتصعيد، خصوصاً بسبب الأنشطة الاستيطانية الاستفزازية، كان الدبلوماسيون الأميركيون يتدخلون للحد من التوترات، بدعم من مصر والأردن، اللتين كانتا تملكان مصلحة مشتركة في تجنب انفجار الأوضاع.

من جانبه، اكتفى بايدن بالتشدق بحل الدولتين من دون إظهار إيمان حقيقي به. فحافظ على سياسات طبقها سلفه دونالد ترمب تخدم مصلحة المستوطنين، مثل وضع علامات “صنع في إسرائيل” على منتجات مستوطنات الضفة الغربية. إضافة إلى ذلك، فشل بايدن في الوفاء بما وعد به خلال حملته الانتخابية بإعادة فتح القنصلية الأميركية للفلسطينيين في القدس (في الواقع، دمجت القنصلية مع السفارة الأميركية عندما نقلها ترمب إلى القدس).

في الوقت نفسه، أصبحت دول عربية تنظر إلى إسرائيل باعتبارها حليفاً طبيعياً في مواجهة “محور المقاومة” الذي تقوده إيران والمتجذر في أنحاء العالم العربي. وتجلت هذه الحسابات الاستراتيجية الجديدة بشكل ملموس في اتفاقات أبراهام، التي تفاوضت عليها إدارة ترمب، وقامت بموجبها كل من البحرين والمغرب والإمارات العربية المتحدة بتطبيع العلاقات بالكامل مع إسرائيل من دون الإصرار على أن تفعل تل أبيب أي شيء قد يزيد من احتمالية قيام دولة فلسطينية.

الخطة الوحيدة القابلة للتطبيق

للوهلة الأولى، قد لا يكون من السهل أن نرى لماذا قد يسهم ما حدث بعد ذلك في إعادة إحياء حل الدولتين. من الصعب أن نجد الكلمات المناسبة للتعبير عن الصدمة التي عاناها كل الإسرائيليين في السابع من أكتوبر، بعد فشل القدرات العسكرية والاستخبارية التي تتفاخر بها قوات الدفاع الإسرائيلية فشلاً ذريعاً في حماية المواطنين الإسرائيليين، والفظائع المروعة التي ارتكبها مقاتلو “حماس” وأسفرت عن 1200 قتيل إسرائيلي تقريباً ونحو 250 أسيراً في غزة، ومشقة الرهائن المستمرة التي أصابت كل بيت إسرائيلي بالحزن والقلق، وتهجير التجمعات السكانية الموجودة على الحدود في جنوب إسرائيل وشمالها. في هذا السياق، ليس من المستغرب أن الإسرائيليين من الأطياف كافة ليست لديهم مصلحة في التفكير في المصالحة مع جيرانهم الفلسطينيين.

قبل السابع من أكتوبر، كان معظم الإسرائيليين مقتنعين بأنهم لا يملكون شريكاً فلسطينياً يسعى إلى السلام، واليوم، لديهم كل الأسباب التي تدفعهم للاعتقاد بأنهم كانوا على حق. والطريقة التي زادت بها شعبية “حماس” في الضفة الغربية منذ بدء الحرب لم تؤد إلا إلى تعزيز هذا التخمين. وفق استطلاع للرأي أجراه الباحث الفلسطيني خليل الشقاقي في نوفمبر (تشرين الثاني) وديسمبر (كانون الأول)، فإن 75 في المئة من فلسطينيي الضفة الغربية يؤيدون استمرار حكم “حماس” في غزة، في مقابل 38 في المئة من سكان غزة. ويشير الإسرائيليون إلى رفض الفلسطينيين، بمن في ذلك عباس، إدانة الفظائع التي ارتكبتها “حماس” وإنكار كثير من العرب بشكل صريح أن شيئاً من هذا القبيل حدث، ويسلطون الضوء على البعد الجديد المعادي للسامية في الدعم الدولي للقضية الفلسطينية، وبالتالي هم يستنتجون بأن الفلسطينيين يريدون قتلهم، لا إبرام اتفاق سلام معهم.

وبطبيعة الحال توصل معظم الفلسطينيين، لأسباب مفهومة، إلى استنتاج مماثل في ما يتعلق بالإسرائيليين: إذ أدى الهجوم على غزة إلى مقتل أكثر من 25 ألف فلسطيني (من بينهم أكثر من 5 آلاف طفل)، وتدمير أكثر من 60 في المئة من المنازل في القطاع، وتشريد جميع سكان القطاع تقريباً البالغ عددهم 2.2 مليون نسمة. وفي الضفة الغربية، يزداد الغضب في شأن الصراع المندلع بسبب العنف المنهجي من جانب المستوطنين الإسرائيليين الذين اعتدوا على الفلسطينيين وطردوا بعضهم من منازلهم ومنعوا آخرين من قطف الزيتون ورعي الأغنام.

لكن في الأقل بعض الفلسطينيين، ومن المحتمل أن يشكلوا الأغلبية، لا يرفضون فكرة دولة فلسطينية مستقلة باعتبارها حلاً نهائياً يمكن أن يضع حداً للاحتلال الإسرائيلي ويسمح لهم بعيش حياة كريمة وحرة. (من الجدير بالذكر أن هذا هو الموقف الرسمي الذي تتبناه السلطة الفلسطينية، في حين يتلخص الموقف الرسمي لحكومة نتنياهو في معارضة شديدة ومستمرة لإقامة دولة فلسطينية). ولكن قلة من الفلسطينيين يعتقدون أن الإسرائيليين سيسمحون لهم ببناء دولة قابلة للحياة وخالية من الاحتلال العسكري.

لكل هذه الأسباب، فإن الدعوات الدولية المتجددة إلى إعادة إحياء حل الدولتين لا تتوافق على الإطلاق مع المخاوف والرغبات السائدة حالياً في المجتمعين الإسرائيلي والفلسطيني. وجادل كثيرون بأن أفضل ما يمكن أن تفعله الولايات المتحدة في هذه الظروف هو محاولة إنهاء القتال في أقرب وقت ممكن ثم التركيز على إعادة بناء حياة الإسرائيليين والفلسطينيين المدمرة، وتنحية مسألة إيجاد حل نهائي للصراع جانباً في الوقت الحالي إلى أن تهدأ النفوس، وتظهر قيادة جديدة، وتصبح الظروف أكثر ملاءمة للنظر في ما يبدو الآن وكأنه أفكار بعيدة المنال تتعلق بالسلام والمصالحة.

ومع ذلك، فإن اتباع نهج عملي قصير المدى ينطوي على أخطار في حد ذاته: فهذا ما فعلته واشنطن بعد جولات القتال الأربع بين “حماس” وإسرائيل التي اندلعت بين عامي 2008 و2021، وانظروا إلى ما آلت إليه الأمور. فضلاً عن ذلك فإن إسرائيل بعد هذه الجولة لن تنسحب ببساطة وتترك لـ”حماس” السيطرة، كما فعلت في الماضي. وسبق أن بدأ نتنياهو يتحدث عن وجود أمني إسرائيلي طويل الأمد في غزة، مما قد يؤدي إلى وقوع كارثة. إذا ظلت إسرائيل عالقة في غزة، فإنها ستواجه تمرداً تقوده “حماس”، تماماً مثلما حاربت تمرداً قاده “حزب الله” وجماعات أخرى لمدة 18 عاماً عندما كانت عالقة في جنوب لبنان بعد اجتياحه عام 1982.

لا توجد أية طريقة موثوقة لإنهاء الحرب في غزة من دون محاولة صياغة نظام جديد أكثر استقراراً هناك، ولكن لا يمكن تحقيق هذا الهدف من دون التأسيس لمسار جدير بالثقة نحو حل الدولتين. وتصر الدول العربية السنية، بقيادة السعودية، على ذلك باعتباره شرطاً أساسياً لكي تسهم في دعم تنشيط السلطة الفلسطينية مجدداً وإعادة إعمار غزة، كما الحال مع بقية المجتمع الدولي. ولكي تتمكن السلطة الفلسطينية من إضفاء الشرعية على دورها في حكم غزة، لا بد من أن تكون قادرة على تأييد هذا الهدف. وفي المقابل، يجب أن تكون إدارة بايدن قادرة على إدراج هدف الدولتين كجزء من الاتفاق الإسرائيلي – السعودي الذي لا تزال حريصة على التوسط فيه.

ستتمثل الخطوة الأولى في تأسيس الفلسطينيين سلطة حاكمة ذات صدقية في غزة تملأ الفراغ الذي خلفه استئصال حكم “حماس”. هذه هي الفرصة المناسبة للسلطة الفلسطينية لكي توسع نفوذها وتوحد الكيان السياسي الفلسطيني المنقسم. ونظراً إلى صدقيتها المتضائلة حالياً إلى أدنى مستوياتها، لا يمكنها أن تخاطر بأن ينظر إليها على أنها وكيل لإسرائيل، يحافظ على النظام من أجل المصالح الأمنية الإسرائيلية. ومن حسن الحظ أن معارضة نتنياهو لتولي السلطة الفلسطينية السيطرة على غزة جاءت على ما يبدو بنتائج عكسية، ولم تؤد إلا إلى إضفاء الشرعية على تلك الفكرة في أذهان عدد من الفلسطينيين.

ولكن في وضعها الحالي، فإن السلطة الفلسطينية ليست في موقع يسمح لها بتحمل مسؤولية الحكم وحفظ الأمن في غزة. وكما قال بايدن، يجب “إعادة تنشيط” السلطة الفلسطينية. فهي تحتاج إلى رئيس جديد، ومجموعة جديدة من التكنوقراط الأكفاء غير الفاسدين، وقوة أمنية مدربة تتولى أمور غزة، ومؤسسات خضعت للإصلاح فما عادت تحرض ضد إسرائيل أو تكافئ السجناء و”الشهداء” على الأعمال الإرهابية ضد الإسرائيليين. وفي الواقع، بدأت الولايات المتحدة والدول العربية السنية تنخرط بالفعل في مناقشات تفصيلية مع السلطة الفلسطينية حول كل هذه الخطوات ويبدو أنها راضية عن استعداد هذه الأخيرة لتنفيذها. لكن الأمر يتطلب تعاوناً نشطاً ودعماً فعالاً من جانب حكومة نتنياهو، التي تعارض بشدة دور السلطة الفلسطينية في غزة، ورفضت حتى الآن اتخاذ أي قرارات بشأن “مرحلة ما بعد النزاع” هناك.

وبمجرد أن تبدأ عملية إعادة التنشيط، فمن المحتمل أن يستغرق الأمر حوالى عام لتدريب كوادر أمنية ومدنية تابعة للسلطة الفلسطينية ونشرها في غزة. خلال هذه الفترة، من المرجح أن تقوم إسرائيل ببعض الأنشطة العسكرية ضد ما تبقى من قوات “حماس”. وفي هذه الأثناء، ينبغي أن تخضع تلك المنطقة لإدارة هيئة حكم موقتة ستحتاج إلى اكتساب الشرعية من خلال قرار من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وستتولى الإشراف على النقل التدريجي للمسؤوليات إلى السلطة الفلسطينية هناك. وستقود هذه الهيئة قوة لحفظ السلام مكلفة بالحفاظ على النظام. ومن أجل تجنب حصول أي توتر أو احتكاك مع الجيش الإسرائيلي، يجب أن يكون على رأس تلك القوة جنرال أميركي.

ولكن لن يكون من الضروري أن توجد قوات أميركية على الأرض، بل من الممكن أن تأتي القوات من بلدان أخرى صديقة لإسرائيل تتمتع بخبرة كبيرة في عمليات حفظ السلام ويتقبلها الفلسطينيون في الوقت نفسه، على غرار أستراليا، وكندا، والهند، وكوريا الجنوبية. ويجب دعوة الدول العربية السنية إلى المشاركة في تلك القوة، على رغم أنه من المستبعد أن ترغب هذه الدول في تحمل مسؤولية الإشراف على الفلسطينيين.

ولكن حتى من دون المشاركة في تلك القوة، سيكون للدول العربية السنية دور حاسم تلعبه. والقاهرة لها مصلحة كبيرة في تأمين الاستقرار من أجل إبعاد ملايين من سكان غزة عن حدودها، إذ يشكلون تهديداً مستمراً بالتدفق إلى مصر. وفي الواقع، تتمتع المخابرات المصرية بمعرفة ميدانية جيدة للأرض في غزة، ويمكن للجيش المصري أن يساعد في منع تهريب الأسلحة إلى غزة من شبه جزيرة سيناء، على رغم أنه فشل في القيام بذلك قبل السابع من أكتوبر. في المقابل، فإن النفوذ الذي يتمتع به الأردن في غزة أقل من النفوذ المصري، لكن الأردنيين دربوا قوات الأمن الفلسطينية في الضفة الغربية بمهارة، ويمكنهم أن يفعلوا الشيء نفسه مع قوات السلطة الفلسطينية في غزة.

وبطريقة موازية، تمتلك دول الخليج العربية الغنية بالنفط الموارد اللازمة لإعادة إعمار غزة وتمويل تنشيط السلطة الفلسطينية. لكن لن يكون من السهل إقناع تلك الدول بدفع التكاليف ما لم تتمكن من إخبار شعوبها بأن ذلك سيؤدي إلى إنهاء الاحتلال الإسرائيلي وإقامة دولة فلسطينية في نهاية المطاف، وهذا من شأنه أن يمنع اندلاع جولة أخرى من الحرب تجبرهم على تحمل العواقب [العبء المالي] من جديد.

صديق في ضيق

بالطبع، هناك عائقان رئيسان أمام تنفيذ مثل هذه الخطة، وهما الطرفان الأساسيان المتحاربان في هذا الصراع. وفي حين أن سيطرة “حماس” على شمال غزة غير مؤكدة الآن، إلا أنها لا تزال تحتفظ بمعاقلها تحت الأرض في مدينتي خان يونس ورفح الجنوبيتين. وحتى لحظة كتابة هذه السطور، لا تزال الحركة تحتجز حوالى 130 رهينة تنوي استخدامهم كورقة مساومة، وكلما طال أمد القتال، ستكون هناك ضغوط داخلية متزايدة على نتنياهو للموافقة على وقف شبه دائم لإطلاق النار في مقابل إطلاق سراح الرهائن المتبقين، مما قد يؤدي إلى ترك جزء كبير من البنية التحتية وآليات السيطرة التابعة لـ”حماس” سليمة.

ويمكن لواشنطن أن تحاول إقناع الجيش الإسرائيلي بالتحول إلى نهج أكثر استهدافاً ودقة يؤدي إلى تقليل الخسائر. ولكن في سبيل إنشاء أي نظام في مرحلة ما بعد الحرب، لا بد من تعطيل نظام القيادة والتحكم التابع لـ “حماس”، وهذه النتيجة ليست مضمونة على الإطلاق.

في المقابل، تعتمد استمرارية ائتلاف حكومة نتنياهو مع الأحزاب اليمينية والدينية المتطرفة على رفض حل الدولتين وأية عودة للسلطة الفلسطينية إلى غزة. وعلى رغم أن التكهنات منتشرة في إسرائيل بأن نتنياهو سيجبر على التنحي من منصبه قريباً وأن الانتخابات الجديدة ستجلب ائتلافاً وسطياً معتدلاً إلى السلطة، إلا أن مهارات البقاء التي يمتلكها، لا مثيل لها، وبالتالي ليس من المفترض استبعاده مطلقاً من الحسابات.

ومع ذلك، يتمتع بايدن بتأثير كبير في نتنياهو. ويعتمد جيش الدفاع الإسرائيلي بشكل كبير الآن على الإمدادات العسكرية من الولايات المتحدة في الوقت الذي يدرس فيه احتمال اضطراره إلى خوض حرب على جبهتين ضد “حماس” في غزة و”حزب الله” في جنوب لبنان. واستهلكت إسرائيل كميات هائلة من العتاد في حملتها في غزة، مما تطلب من إدارة بايدن مرتين بذل جهود طارئة لتسريع إعادة الإمداد من خلال تجاوز عملية مراجعة الكونغرس. وحتى لو اختارت إسرائيل شن حملة أكثر استهدافاً ودقة في غزة، فسيتعين عليها إعادة بناء ترسانتها والاستعداد لحرب مع “حزب الله” تستهلك الموارد بشكل كثيف.

ويتردد بايدن في تأخير عملية إعادة الإمداد لأنه لا يريد أن يبدو وكأنه يقوض أمن إسرائيل. لكن في مواجهة مع نتنياهو، يمكن لبايدن أن يماطل في اتخاذ قرارات معينة من خلال ربط الأمور بإجراءات بيروقراطية أو طلب مراجعات من الكونغرس. وقد يدفع ذلك الجيش الإسرائيلي إلى الضغط على نتنياهو للرضوخ، وقد يأتي الضغط أيضاً من العسكريين الحاصلين على أوسمة الذين يخدمون في حكومته الحربية الطارئة، على غرار الجنرالين المتقاعدين بيني غانتس وغادي أيزنكوت، اللذين يقودان حزب المعارضة الرئيس، ويوآف غالانت، وزير الدفاع.

وبدأت تتجلى هذه الديناميكية بالفعل. فعلى رغم أن الأمر استغرق جهداً جباراً، إلا أن إدارة بايدن نجحت في إقناع الجيش الإسرائيلي بإعادة تشكيل استراتيجيته وتكتيكاته، والحد من نطاق عملياته ضد “حماس” ومنع توسعها في مواجهة “حزب الله”، وأقنعته بأن يسمح بدخول مزيد من المساعدات الإنسانية إلى غزة، وشمل ذلك فتح ميناء أشدود الإسرائيلي أمام الإمدادات. بطريقة موازية، أعرب غالانت علناً عن دعمه لفكرة اضطلاع السلطة الفلسطينية بدور في غزة، وهو ما يتعارض بشكل مباشر مع موقف رئيس الوزراء.

على المدى الطويل، سيظل جيش الدفاع الإسرائيلي يعتمد بشكل كبير على الدعم العسكري الأميركي لإعادة بناء قوته الردعية التي عانت انتكاسة في السابع من أكتوبر. ويتجلى هذا الاعتماد الجديد بوضوح في التزام الولايات المتحدة بنشر مجموعتين من حاملات الطائرات القتالية في شرق البحر الأبيض المتوسط وإرسال غواصة تعمل بالطاقة النووية إلى المنطقة من أجل ثني إيران و”حزب الله” عن الانضمام إلى المعركة في بداية الحرب. قبل السابع من أكتوبر، كانت القدرات العسكرية الإسرائيلية وحدها بمثابة رادع كاف، مما سمح للولايات المتحدة بنشر قواتها الأساسية في أماكن أخرى. ولكن وفقاً لتقارير القناة الـ12 الإسرائيلية، في يناير (كانون الثاني)، عندما قرر المسؤولون الأميركيون أن الوقت حان لسحب واحدة من مجموعتي حاملات الطائرات القتالية، طلب منهم الجيش الإسرائيلي إبقاءها في مكانها.

والجدير بالذكر أن هذا الاعتماد الكبير على الولايات المتحدة للحصول على الدعم التكتيكي والاستراتيجي يمثل ظاهرة جديدة. لطالما كانت واشنطن بمثابة خط الدفاع الثاني لإسرائيل، بيد أن نشر مجموعتي حاملات الطائرات الأميركية يشير إلى أن الولايات المتحدة أصبحت، في بعض النواحي، تشكل خط الدفاع الأول عن تل أبيب. ولم تعد إسرائيل قادرة على فعل ما تباهى به نتنياهو في كثير من الأحيان قبل السابع من أكتوبر وهو “الدفاع عن نفسها بنفسها”. وعلى رغم أنه قد يبذل قصارى جهده ربما لتجاهل هذا الواقع الجديد، إلا أن قوات الدفاع الإسرائيلية لا تستطيع أن تتحمل تكاليف القيام بذلك.

وبطريقة موازية، تواجه إسرائيل موجة عارمة من الانتقادات الدولية بسبب استخدامها العشوائي للقوة في المراحل الأولى من الحرب حينما كان ترد بدافع الغضب وليس وفقاً لحسابات معينة، مما أسفر عن سقوط أعداد كبيرة من الضحايا بين المدنيين. لقد كانت الولايات المتحدة الدولة الوحيدة التي لعبت دور الحصن المنيع الذي دافع مراراً وتكراراً عن إسرائيل في وجه الانتقاد الدولي ودعم حقها في مواصلة الحرب ضد “حماس” على رغم المطالبات شبه العالمية بوقف إطلاق النار. وهذا يخدم المصالح الأميركية أيضاً، لأن تدمير “حماس” يشكل شرطاً أساسياً لتأسيس نظام أكثر استقراراً وسلاماً في غزة. لكن إذا امتنعت الولايات المتحدة مرة واحدة عن التصويت على قرارات مجلس الأمن الدولي فمن الممكن أن يؤدي ذلك إلى فرض عقوبات على إسرائيل. وهذه العزلة السياسية، إلى جانب اعتماد تل أبيب المتزايد على الدعم العسكري من واشنطن، تمنح الولايات المتحدة نفوذاً كبيراً على إسرائيل.

حتى الآن، بدا نتنياهو عازماً على مقاومة نفوذ حليفة إسرائيل الحقيقية الوحيدة في المجتمع الدولي، من خلال الرفض العلني الصريح لحل الدولتين في سبيل تعزيز ائتلافه وكسب الثناء بين مؤيديه لوقوفه في وجه الولايات المتحدة. لكن بايدن يمتلك بعض مصادر النفوذ الأخرى إلى جانب إمكان المماطلة في عملية إعادة الإمداد أو إعلان أنه يفكر في الامتناع عن التصويت على قرارات الأمم المتحدة التي تستهدف إسرائيل. في الواقع، يعتمد نتنياهو على المجتمع الدولي لتمويل إعادة إعمار غزة. فإسرائيل ليست في وضع يسمح لها بدفع مبلغ 50 مليار دولار أو نحو ذلك، وهو المبلغ المطلوب لإصلاح الأضرار الناجمة عن حملتها العسكرية. وإذا لم يتوصل نتنياهو إلى تفاهم مع بايدن في شأن مسار قابل للتطبيق نحو حل الدولتين، فستتحمل إسرائيل العواقب. لقد أوضحت الدول العربية الغنية بالنفط والغاز مراراً وتكراراً أنها لن تتحمل تكاليف إعادة إعمار غزة من دون التزام راسخ بإقامة دولة فلسطينية. وإذا تركت غزة في حال خراب، فهذا من شأنه أن يضمن استعادة “حماس” السيطرة على القطاع، وسيؤدي إلى إنشاء دولة منهارة على حدود إسرائيل. قد لا يدرك نتنياهو ذلك بعد، لكن ليس لديه خيار سوى إيجاد طريقة لتلبية هذا الطلب.

أخيراً، يستطيع بايدن التأثير في النقاش العام في إسرائيل من خلال تجاوز نتنياهو ومخاطبة الشعب الإسرائيلي. إنهم يقدرون بشدة أنه كان هناك من أجلهم في أحلك الأوقات بعد هجوم السابع من أكتوبر. بالاسترجاع، أسهمت زيارته لإسرائيل في طمأنة البلاد عندما لم يتمكن نتنياهو من فعل ذلك. ومنذ ذلك الحين، شاهد الإسرائيليون رئيس الولايات المتحدة وهو يدافع عنهم، ويناضل من أجل عودة الرهائن الإسرائيليين، ويسارع إلى إرسال الإمدادات العسكرية إلى جيش الدفاع الإسرائيلي، ويستخدم حق النقض ضد قرارات الأمم المتحدة التي تنتقد إسرائيل. وعلى النقيض من ذلك، كانت شعبية نتنياهو بين الإسرائيليين في أدنى مستوياتها على الإطلاق قبل السابع من أكتوبر بسبب حملته المثيرة للانقسام التي تخدم المصالح الشخصية والرامية إلى الحد من صلاحيات القضاء. ولو أجريت انتخابات اليوم، فسيواجه هزيمة ساحقة، إذ تظهر استطلاعات الرأي الأخيرة أن أكثر من 70 في المئة من الإسرائيليين يريدون منه التنحي. وفي الوقت نفسه، عبر أكثر من 80 في المئة من الإسرائيليين عن استحسانهم ورأيهم الإيجابي تجاه القيادة الأميركية في أعقاب الحرب، وأشاروا إلى أنهم يفضلون بايدن على ترمب بفارق 14 نقطة مئوية، وهي المرة الأولى منذ عقود التي يفضل فيها الإسرائيليون المرشح الديمقراطي على المرشح الجمهوري لمنصب رئيس الولايات المتحدة.

ما يجب على بايدن فعله

إذا وجد بايدن نفسه في مواجهة مع نتنياهو، فإن إلقاءه خطاباً يتوجه فيه إلى الشعب الإسرائيلي يمكن أن يمنح الرئيس الأميركي الأفضلية. والتوقيت الأمثل لفعل ذلك هو بعد أن تتوسط الولايات المتحدة في عملية تبادل أخرى للرهائن في مقابل السجناء، وهي خطوة سيكون الشعب الإسرائيلي ممتناً جداً لها. والهدف هنا لن يكون الترويج لحل الدولتين لأن الإسرائيليين غير مستعدين بعد لتقبله، بل تقديم تفسير ودي لما تحاول الولايات المتحدة القيام به من أجل ضمان الاستقرار في “مرحلة ما بعد الصراع” في غزة وبالتالي منع تكرار ما حدث في السابع من أكتوبر وتوفير مسار تدريجي لإنهاء الصراع الأوسع مع مرور الوقت.

وسيشرح بايدن أنه لا يريد أن يرى إسرائيل العزيزة على قلبه عالقة في حرب لا نهاية لها، مع اضطرار كل جيل لاحق إلى إرسال أبنائه للقتال في شوارع غزة ومخيمات اللاجئين في الضفة الغربية. سيقترح عوضاً عن ذلك مساراً بديلاً يعطي الأمل في تحقيق سلام دائم، شرط أن تحذو الحكومة الإسرائيلية حذوه. وسيتعين عليه أن يتصدى لادعاء نتنياهو بأنه يتعين على إسرائيل الحفاظ على السيطرة الأمنية الشاملة في الضفة الغربية وغزة من خلال التأكيد على الترتيبات الأمنية البديلة التي تشرف عليها الولايات المتحدة، بما في ذلك تجريد الدولة الفلسطينية من السلاح، مما قد يوفق بين الاحتياجات الأمنية الإسرائيلية من جهة واحترام السيادة الفلسطينية من جهة أخرى، ويضمن أن يحظى الإسرائيليون بدرجة أكبر من الأمن والسلامة مقارنة مع ما قد يوفره الاحتلال العسكري الدائم.

سيتعارض الرضوخ لبايدن مع كل غرائز نتنياهو السياسية. والسبيل الوحيد الذي يستطيع نتنياهو من خلاله البقاء في منصبه بشكل مضمون الآن هو الحفاظ على ائتلافه مع القوميين المتطرفين، الذين يعارضون بشدة إعادة تنشيط السلطة الفلسطينية وحل الدولتين. وإذا استسلم نتنياهو، فسيواجه خطراً كبيراً بفقدان موقعه في السلطة. عادة، عندما يجد نتنياهو نفسه في مأزق مع خيارات قليلة متاحة، يلجأ إلى المناورة للتعامل مع الموقف، فيقدم تنازلات بسيطة للولايات المتحدة في حين يطمئن مؤيديه المتشددين إلى أن تنازلاته ليست جوهرية. وفي ما يتعلق بقضية المستوطنات الإسرائيلية على وجه الخصوص، فقد نجح باستخدام تلك الحيلة على مدار 15 عاماً.

لكن الخدعة انكشفت الآن. لا يستطيع نتنياهو أن يدعي بشكل مقنع أنه يدعم حل الدولتين. لقد فعل ذلك من قبل، في عام 2009، ولكن أصبح من الواضح منذ ذلك الحين أنه كان يكذب، إذ إنه يتباهى الآن بأنه منع قيام دولة فلسطينية. ولكن حتى لو استمر نتنياهو في معارضته لهذا الحل، فإن التعاون مع الخطة الأميركية في مرحلة ما بعد الحرب في غزة من شأنه أن يلزمه باتخاذ إجراءات، مثل السماح للسلطة الفلسطينية بالعمل في غزة وتقييد النشاط الاستيطاني في الضفة الغربية، وهو ما سيشكل طريقاً موثوقاً نحو تحقيق حل الدولتين، وبالتالي سيعرض ائتلافه الهش للخطر وسيؤدي على الأرجح إلى إنهاء مسيرته المهنية.

من الواضح أن بايدن يفضل تجنب المواجهة مع نتنياهو، لكن يبدو أن ذلك أمراً لا مفر منه. وبينما يفكر الرئيس في كيفية جذب انتباه نتنياهو، فإنه يحتاج إلى إيجاد طريقة لتغيير حسابات رئيس الوزراء الإسرائيلي، أو، في حال أصر هذا الأخير على المقاومة، العمل على حشد الدعم الشعبي الإسرائيلي للنهج الذي يفضله بايدن في “مرحلة ما بعد الصراع”.

وينبغي على بايدن أن يوضح للإسرائيليين الخيارات التي أمامهم. يمكنهم مواصلة السير على الطريق المؤدي إلى حرب أبدية مع الفلسطينيين، أو تبني الخطة الأميركية لـ”مرحلة ما بعد الصراع”، والفوز باتفاق سلام مع السعودية وعلاقات أفضل مع العالمين العربي والإسلامي الأوسع. وعلى رغم أن نتنياهو سبق أن رفض هذه الشروط علناً، إلا أنه فعل ذلك بعد اقتراحها عليه في جلسة خاصة. لذا يجب على بايدن أن يحاول مرة أخرى، ولكن هذه المرة، عليه أن يعرض الصفقة مباشرة على الجمهور الإسرائيلي بطريقة من شأنها أن تحول تركيزهم بعيداً من صدمة السابع من أكتوبر.

واستكمالاً، سيواجه بايدن مشكلة مماثلة ولكن أقل حدة عندما يتعلق الأمر بإقناع الفلسطينيين والقادة العرب، الذين لا يملكون سبباً كافياً ليضعوا ثقتهم في التزامه بإقامة دولة فلسطينية، خصوصاً وأنهم يدركون أنه من الممكن ألا يكون موجوداً في البيت الأبيض عام 2025. لن يكون الحصول على تأييدهم سهلاً. لذا، اقترح بعضهم أن الولايات المتحدة يجب أن تعترف بالدولة الفلسطينية الآن، على أن يجري التفاوض على حدودها في وقت لاحق. ولكن أية مبادرة كبرى من هذا النوع من شأنها أن تضع العربة أمام الحصان وبالتالي تعالج الأمور بطريقة منافية للتسلسل المنطقي، إذ يتعين على السلطة الفلسطينية أولاً أن تشرع في بناء مؤسسات تتمتع بالصدقية والشفافية وخاضعة للمساءلة، وإظهار أنها “دولة في طور التكوين” جديرة بالثقة، قبل أن تحظى باعتراف دولي.

ولكن هناك طريقة أخرى لإظهار الالتزام الأميركي والدولي بحل الدولتين. إن الأساس الذي تستند إليه كل المفاوضات بين إسرائيل وجيرانها العرب والفلسطينيين هو قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 242، الذي أقرته إسرائيل والدول العربية وقبلت به في أعقاب حرب الأيام الستة في عام 1967. (وفي عام 1988، قبلت منظمة التحرير الفلسطينية أيضاً بالقرار كأساس للمفاوضات التي أدت إلى اتفاقيات أوسلو). إلا أن القرار 242 لم يتطرق إلى القضية الفلسطينية، باستثناء الإشارة بشكل عابر إلى ضرورة التوصل إلى حل عادل لقضية اللاجئين، والقرار لا يذكر أياً من قضايا الوضع النهائي الأخرى، على رغم أنه يؤكد بوضوح على “عدم جواز الاستيلاء على الأراضي بالحرب” وضرورة الانسحاب الإسرائيلي من أراض احتلتها (وليس “كل الأراضي” التي احتلتها) في حرب 1967.

ومن الممكن أن يضفي قرار جديد منقح، يهدف إلى تحديث القرار 242، طابعاً رسمياً على التزام الولايات المتحدة والمجتمع الدولي بحل الدولتين ضمن إطار القانون الدولي، فضلاً عن أنه قد يستشهد بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181 للدعوة إلى إقامة دولتين لشعبين على أساس الاعتراف المتبادل بين دولة إسرائيل اليهودية ودولة فلسطين العربية. ويمكنه أيضاً أن يدعو الجانبين إلى تجنب الإجراءات الأحادية التي من شأنها أن تعرقل تحقيق حل الدولتين، بما في ذلك النشاط الاستيطاني والتحريض والإرهاب. علاوة على ذلك، من الممكن أن يطالب القرار بمفاوضات مباشرة بين الطرفين “في الوقت المناسب” من أجل حل قضايا الوضع النهائي كافة، وإنهاء الصراع وكل ما ينشأ عنه من قضايا ومطالبات. وإذا اقترحت الولايات المتحدة مثل هذا القرار، وإذا أيدته السعودية ودول عربية أخرى، وجرت المصادقة عليه بالإجماع، فلن يكون أمام إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية أي خيار سوى القبول به، تماماً مثلما وافقتا على القرار رقم 242.

لقد حان الوقت

لا تنتهي الحروب في كثير من الأحيان إلا بعد أن ينهك الطرفان أنفسهما ويقتنعا بأن التعايش مع العدو أفضل من مواصلة جهود عقيمة ترمي إلى تدميره. والإسرائيليون والفلسطينيون بعيدون كل البعد من هذه النقطة. ولكن ربما، بعد أن ينتهي القتال في غزة وتهدأ الأنفس، قد يبدآن في التفكير مرة أخرى كيف سيبلغان تلك المرحلة. وهناك بالفعل بعض الأسباب التي تدعو إلى الأمل. وأحد أسباب التفاؤل هنا على سبيل المثال هو رفض المواطنين العرب في إسرائيل حتى الآن الاستجابة لدعوة “حماس” لبدء انتفاضة. في الواقع، لم يحدث نسبياً سوى قليل من أعمال العنف الطائفي في المدن العربية اليهودية المختلطة في إسرائيل منذ السابع من أكتوبر، فضلاً عن أن أحد أبرز قادة المجتمع العربي – الإسرائيلي، وهو السياسي وعضو الكنيست منصور عباس (لا يمت بصلة قرابة للرئيس الفلسطيني)، دافع بشجاعة عن هدف التعايش.

وفي ذلك الإطار، كتب في صحيفة “تايمز أوف إسرائيل” في أواخر أكتوبر: “علينا جميعاً، المواطنين العرب واليهود، أن نبذل قصارى جهدنا للتعاون من أجل الحفاظ على السلام والهدوء”. وأضاف: “سنعزز نسيج العلاقات، ونزيد التفاهم والتسامح، في سبيل تجاوز هذه الأزمة سلمياً”. بطريقة موازية، لم يلجأ الفلسطينيون في الضفة الغربية والقدس الشرقية إلى العنف الشعبي (إلا في حوادث إرهابية فردية)، على رغم الاستفزازات والنهب من جانب المستوطنين المتطرفين؛ وربما يشعر الفلسطينيون من الضفة الغربية الذين اعتادوا العمل في إسرائيل قبل السابع من أكتوبر، والبالغ عددهم حوالى 150 ألفاً، بالإذلال الشديد، وهذا أمر مبرر ومفهوم، لكنهم يفضلون العودة لوظائفهم عوضاً عن رؤية أطفالهم في مواجهة مع الجنود الإسرائيليين عند نقاط التفتيش.

والحق أن الإسرائيليون والفلسطينيون على حد سواء غير مستعدين لتقديم التنازلات العميقة التي يتطلبها التعايش الحقيقي، والواقع أنهم أقل استعداداً للقيام بذلك مما كانوا عليه في نهاية عهد إدارة كلينتون، حينما فشلوا في إتمام الصفقة [حل الدولتين المقترح آنذاك]. لكن التكاليف الهائلة المترتبة على رفض التسوية أصبحت أوضح في الأشهر الأخيرة، وستزداد وضوحاً في السنوات المقبلة. وبمرور الوقت، ربما تدرك الأغلبية في كلا المجتمعين أن الطريقة الوحيدة لتأمين مستقبل أطفالهم هي الانفصال بدافع الاحترام عوضاً عن الانخراط في صراع تغذيه الكراهية. ومن الممكن التعجيل في إدراكهم لهذه الفكرة من خلال ظهور قيادة مسؤولة وشجاعة في كلا الجانبين، هذا إذا ما ظهرت يوماً ما. وفي غضون ذلك، يمكن أن تبدأ العملية بالتزام دولي تجاه قيام دولة فلسطينية عربية تعيش في سلام وأمن إلى جانب دولة إسرائيل اليهودية، وهو وعد قطعته الولايات المتحدة، وأيدته الدول العربية والمجتمع الدولي، واكتسب صدقية من خلال الجهود المتضافرة الرامية إلى توليد نظام أكثر استقراراً في غزة والضفة الغربية. في النهاية، ربما تدرك أطراف الصراع وبقية العالم أن عقوداً من الدمار والإنكار والخداع لم تقض على حل الدولتين، بل جعلته أقوى.

*مارتن إنديك هو زميل مميز في مجلس العلاقات الخارجية ضمن منحة “لوي” وعمل بشكل وثيق مع القادة العرب والإسرائيليين والفلسطينيين خلال تنقله في عدد من المناصب البارزة خلال إدارتي كلينتون وأوباما، بما فيها السفير للولايات المتحدة لدى إسرائيل والمبعوث الأميركي الخاص للمفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية. وهو مؤلف كتاب “سيد اللعبة: هنري كيسنجر وفن دبلوماسية الشرق الأوسط”.

مترجم عن “فورين أفيرز”، مارس/أبريل 2024

المصدر: اندبندنت عربية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى