يواصل الاحتلال الصهيوني ردّه العدواني والهمجي على عملية طوفان الأقصى، إذ لم يشبه هذا العدوان معظم اعتداءاته السابقة (ربّما باستثناء حربه على المقاومة الفلسطينية في بيروت في الثمانينيات)، من حيث كثافة الإجرام، ونطاقه الواسع، فضلًا عن فجاجة قادة الاحتلال في التعبير عن مخطّطاتهم الإجرامية، من قبيل استهداف كلّ الفلسطينيين كباراً وصغاراً، نساءً ورجالاً.
فلسطينيّاً؛ أعادت عملية المقاومة الفلسطينية شحن عزيمة الشعب الفلسطيني لمقاومة الاحتلال واستعادة كل الحقوق الفلسطينية المستلبة منذ عقودٍ عديدةٍ. وطبعاً؛ لم تقتصر تأثيرات العملية الفلسطينية على ذلك فقط، بل أدّت إلى تداعياتٍ إيجابيةٍ عديدةٍ، وإلى تداعياتٍ سلبيةٍ أيضاً. معظم التداعيات السلبية لم تنتج عن عملية المقاومة الفلسطينية، بل عن رد الاحتلال الهمجي والغوغائي والإجرامي. منها ما نستطيع وصفها بـ “لوم الذات”، وهي ظاهرةٌ قديمةٌ جديدةٌ، تعود لتظهر على السطح بعد كلّ جريمةٍ صهيونيةٍ كبرى، أو بعد كلّ عمليةٍ مقاومةٍ، لكن أصحاب هذه العقلية اضطرّوا إلى كبح ذواتهم قليلاً في الأسابيع الأولى التي تلت عملية طوفان الأقصى، لتجنّب استنكار طيفٍ واسعٍ من شعب فلسطين الأصلي وغضبه تجاه أيّ انتقادٍ يطاول عملية المقاومة، إذ أدّت “طوفان الأقصى” إلى تصاعدٍ كبيرٍ في شعبية فصائل المقاومة؛ حركة حماس تحديدًا، ليس في الوسط الفلسطيني فقط، بل وفي الوسط الإقليمي كذلك. أما اليوم، وبعد قرابة أربعة أشهر على كلٍّ من عملية “طوفان الأقصى”، وعدوان الاحتلال الوحشي، عاد بعض روّاد ظاهرة “لوم الذات” إلى عادتهم القديمة الجديدة، رافعين أصواتهم اليائسة، ومحملين عملية المقاومة ما لا تحتمل، مستشهدين بأعداد ضحايا جرائم الاحتلال الكبيرة، وبطبيعة جرائم الاحتلال الإرهابية.
لظاهرة “لوم الذات” مرتكزات عديدة منها نقاش النمط النضالي الأفضل فلسطينيًا، إذ يسوق روّاد هذه الظاهرة ذرائع عديدة تؤكّد صحة استنتاجاتهم الموضوعية؛ وفق اعتقادهم، التي تخلص إلى مطالبتهم بوقف العملية النضالية العنيفة/ المسلحة في الوقت الراهن، لصالح الرهان على النضال السلمي المدني، طارحين نموذج الانتفاضة الأولى مثالاً يحتذى.
النضال العنيف يعيق النضال السلمي
يعتبر روّاد ظاهرة “لوم الذات” أن المقاومة العنيفة/ المسلحة تعيق نموّ المقاومة السلمية وانتشارها (كما في هبّة كلّ فلسطين)، وهذا أمرٌ سلبيٌ، لأن مواجهة الاحتلال تتطلب الاستمرارية وتوسيع رقعة المقاومة جغرافيًا، لإرهاق الاحتلال واستنزافه، فضلاً عن أن المقاومة الشعبية تساعد في فضح وجه الاحتلال، وفي تعريف شعوب العالم أجمع بالمأساة والحقوق والقضية الفلسطينية. يتفق الكاتب مع ضرورة توسيع رقعة المواجهة مع الاحتلال واستمراريتها، في حين يختلف مع اعتبار المقاومة المسلحة عائقاً أمام المقاومة السلمية حقيقةً مطلقةً ودائمةً، ففي أحيانٍ كثيرة، قد تساهم المقاومة المسلحة في تأجيج المقاومة السلمية، بل وربّما في إطلاقها.
هنا يعتقد الكاتب أن عملية سيف القدس قد أدّت فعلاً إلى تراجع هبّة الكرامة، لذا انتقد الكاتب في حينها توقيت العملية؛ لم ينتقدها بذاتها، إذ كان من الأفضل تأجيل إطلاقها بضعة أيامٍ، ربّما أكثر وفقاً لتطور الأحداث الميدانية، لمنح المقاومة الشعبية فرصةً لمزيدٍ من النشاط والتنظيم والنمو، الذي كان من الممكن أن يبلغ مراحل مهمة ومؤثرة، لكن ما حدث حينها أن إطلاق “سيف القدس” قد حوّل جل الاهتمام الشعبي الفلسطيني وغير الفلسطيني من المقاومة الشعبية إلى العملية العسكرية والعدوان الصهيوني الذي تبعها، أي إعاقة، نسبياً، تطور المقاومة الشعبية السلمية في حينها.
ما يتناساه أصدقاؤنا الغارقون في “لوم الذات” أن هبّة كلّ فلسطين وعملية “سيف القدس” كانتا في مايو/ أيّار 2021، أي قبل عامين ونيّف من “طوفان الأقصى”، لم تبادر خلالهما حركة حماس أو أيٌّ من فصائل المقاومة إلى شنِّ عمليةٍ عسكريةٍ منظّمةٍ، أي لم تمنع المقاومة العنيفة؛ وفقًا لهم، المقاومة الشعبية من النمو والتمدّد والترسّخ في هذه الفترة. وللأسف، ولاعتباراتٍ عديدةٍ لم تشهد هذه الفترة الطويلة تجربةً نضاليةً شعبيةً مماثلةً لهبة كلّ فلسطين أو للانتفاضة الأولى، بل عمليًا تمادى الاحتلال في طغيانه وإجرامه بحقّ كلّ شعب فلسطين، بمن فيهم فلسطينيو الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، كما سرّع الاحتلال وتيرة اعتداءاته ومخطّطاته الرامية إلى طرد الفلسطينيين قسرياً والسيطرة على مدنهم وقراهم ومقدّساتهم، وهو ما ترافق مع انتشار الإحباط في أوساطٍ شعبيةٍ فلسطينيةٍ عريضةٍ.
على النقيض من ذلك؛ ساهمت عملية طوفان الأقصى في تصاعد المقاومة الشعبية داخل فلسطين وخارجها، على نقيض ما يدّعيه أصدقاؤنا المبتلون بظاهرة “لوم الذات”، إذ عمّت التظاهرات معظم الدول، وتصاعدت حركة مقاطعة بضائع الاحتلال، والشركات الداعمة له، فضلاً عن تصاعد نشاطات المقاومة الإعلامية والقانونية، وسواهما من مظاهر المقاومة الشعبية داخل فلسطين وخارجها، بل وقد تساهم في انفجار هبّةٍ فلسطينيةٍ عارمةٍ، وربّما انتفاضةٍ وفق ما تحذر منه تقارير دوليةٌ عديدةٌ، أهمّها تقارير أميركيةٌ وصهيونيةٌ.
الظروف الذاتية والإقليمية والدولية
يتحدّث روّاد ظاهرة “لوم الذات” عن عدم توافق الظروف الذاتية والإقليمية والدولية مع نهج المقاومة العنيفة لاعتباراتٍ كثيرةٍ، منها تفوّق الاحتلال عسكرياً وأمنيّاً على مستوى التطور التكنولوجي العسكري، والمخزون العسكري، كما على مستوى الدعمين، الإقليمي والدولي الرسمي للاحتلال، في مقابل تراجع الدعم الإقليمي والدولي للمقاومة الفلسطينية ولقضيّتها العادلة. وهذه ملاحظاتٌ صحيحةٌ لا نستطيع إنكارها، لكن هل هي ملاحظاتٌ منطقيةٌ وموضوعيةٌ؟! يعتقد الكاتب أنها ليست كذلك، إذ في جميع تجارب الاحتلال السابقة، وبالتالي في جميع تجارب حركات التحرّر تفوق الاحتلال على حركات التحرر عسكريًا، من حيث القدرات والإمكانيات والعتاد، فما دون ذلك يعني فشل الاحتلال في احتلال الأرض، وفي السيطرة عليها وعلى شعبها، أيّ انسحاب الاحتلال وتحرّر الأرض والشعب.
أما إقليميّاً؛ نلحظ أن دعم المقاومة محدودٌ، بل ومحصورٌ بأطرافٍ إقليمية معدودةٍ، أهمّها إيران، طبعًا إلى جانب الدعم الشعبي العريض في معظم؛ ربّما كلّ، دول الإقليم. الإشكالية هنا في طبيعة النظام الإيراني، وسياساته الكارثية والمدمرة إقليميّاً، وجرائمه المتعدّدة بحقّ شعوب الإقليم. هنا لا بدّ من الإشادة برفض فصائل المقاومة الفلسطينية الانخراط في سياسات النظام الإيراني إقليميّاً، بل وفي مواجهتها في فتراتٍ محدّدةٍ، كما في حالة الثورة السورية، لتقتصر العلاقة بينهما على علاقةٍ نفعيةٍ متبادلةٍ محدودةٍ تحصل فصائل المقاومة من خلالها على دعمٍ ماليٍ وأحيانًا عسكريٍ، مقابل استفادة إيران سياسيًا منها، ما يضعنا أمام تعاونٍ محدودٍ لا يحمل في طياته أي بعدٍ استراتيجيٍ بعيد المدى أو قريبه.
دوليّاً؛ لا تحظى القضية الفلسطينية بأيّ دعمٍ يُذكر على مستوى الدول الكبرى بشقّيها الغربي؛ أميركا وأوروبا، والشرقي؛ روسيا والصين، بل يتمتّع كلا المعسكرين؛ إن جاز التعبير، بعلاقاتٍ مميزةٍ مع الاحتلال ترقى، في أحيانٍ كثيرةٍ، إلى مستوى العلاقات الاستراتيجية الوطيدة. ولكن، وفي مقابل اصطفاف دول العالم الكبرى مع الاحتلال، نلحظ انزياحاً حسناً لصالح الفلسطينيين على مستوى دولٍ عديدةٍ، منها دولٌ ذات مكانة إقليمية بارزة، وذات إمكانياتٍ وقدراتٍ مستقبلية قد تضعها في مصافّ الدول المؤثرة دوليّاً، مثل جنوب أفريقيا والبرازيل وبدرجةٍ أقلّ باكستان وإندونيسيا. هنا لا بدّ من الإشارة إلى أن دعوى جنوب أفريقيا في محكمة العدل الدولية كانت من نتائج عملية طوفان الأقصى، التي ساهمت في دفع جنوب أفريقيا نحو لعب دورٍ دوليٍ جريءٍ بالحدّ الأدنى، وهو ما قد يبنى عليه مستقبلاً دورٌ أكثر فعاليةً وتأثيراً، إن أحسن الفلسطينيون استثمار دعم دول عديدة القضية الفلسطينية والحقوق الفلسطينية.
خسائر الفلسطينيين
بلغ عدد شهداء العدوان الصهيوني الحالي على قطاع غزّة نحو 30 ألف فلسطينيٍ معظمهم من الأطفال، وهو رقمٌ ضخمٌ ومرعبٌ، يعتبر وفق ظاهرة “لوم الذات” من تداعيات المقاومة المسلحة، على اعتبار العدوان ردّاً همجيّاً صهيونيّاً على عملية طوفان الأقصى. ورغم خطأ هذا الربط سياسيّاً وقانونيّاً، بل وحتّى معرفيّاً، إلّا أنه ربطٌ ناقصٌ ومخلٌّ، لأنه ينطلق من دون قصد من ظاهرةٍ خطيرةٍ سعى الاحتلال إلى تكريسها، مفادُها قبولٌ فلسطينيٌ وإقليميٌ ودوليٌ بقتل الفلسطينيين البطيء، كما في قتلهم في ظلّ حصارٍ صارمٍ لا إنسانيٍ ولا قانونيٍ ممتدٍ منذ 17 عاماً.
يتناسى روّاد ظاهرة “لوم الذات” واقع الحصار قبل “طوفان الأقصى”. وبالطبع، يتناسون تداعياته على القطاع وسكّانه، هذا الواقع الذي وصفته بياناتٌ صادرةٌ عن جهاتٍ فلسطينيةٍ ودولية في نهاية عام 2022 بما يلي: 57% من سكان القطاع يعانون من انعدام الأمن الغذائي، كما بلغت نسبة البطالة 47%، وبلغت نسبة الفقر 64%، و80% من سكان قطاع غزّة يعتمدون على المساعدات والمنح، هاجر (يتحفظ الكاتب على مصطلح الهجرة هنا، لأنها تهجيرٌ قسريٌ تفرضه ظروف الحصار الصهيوني، فالهجرة عادةً طوعية تنتج عن الظروف السياسية الداخلية وسوء الإدارة والقمع والفقر، أما في الحالة الفلسطينية فالهجرة ناتجة عن سياسات الاحتلال الساعية إلى تدمير سبل عيش الفلسطينيين، لذا هي تهجيرٌ قسريٌ واضحٌ) أكثر من 60 ألف شاب فلسطيني، 73% من أطفال قطاع غزّة يعانون من فقر الدم، ونحو 43% من الحوامل أيضاً، نتيجة سوء التغذية، كما بلغت نسبة العجز في الأدوية 49%، وفي المستهلكات الطبية 38%، و49% في الفحوصات المخبرية، كما منع الاحتلال سفر نحو 56% من المرضى الذين هم بحاجةٍ لتلقي العلاج في الخارج، خصوصاً مرضى السرطان، فضلاً عن عشرات المؤشّرات الاقتصادية والتعليمية والصحية المرعبة، التي تصف واقع الحصار الصهيوني للقطاع منذ 17 عاماً.
أدّى هذا الواقع المأساوي الناتج عن الحصار اللا قانوني طويل الأمد إلى تصاعدٍ كبيرٍ في وفيات الرّضع والأطفال والنساء والرجال لأسبابٍ غذائيةٍ أو طبيةٍ، ما يمثّل قتلاً صهيونيّاً بطيئاً للفلسطينيين بأدواتٍ غير عسكريةٍ، عبر الحصار تحديداً. لا يُصنّف هؤلاء الشهداء عادةً كضحايا الاحتلال والحصار اليومي، رغم أن وفاتهم نتيجةٌ مباشرةٌ لسياسات الاحتلال الساعية إلى تدمير سبل عيشهم.
لا ترى ظاهرة “لوم الذات” في هذه الخسائر اليومية والمتراكمة؛ بل المتصاعدة، على مرّ سنوات الحصار، خسائر فلسطينية يجب تجنّبها، أو إنهاؤها فوراً، بل باتت للأسف أمراً واقعاً معاشاً غير قابلٍ للتغيير، كما سعت حكومة الاحتلال؛ خصوصًا الحالية، إلى نقل تجربة حصار قطاع غزّة إلى مدن الضفّة الغربية وبلداتها، عبر تقسيم الضفّة وعزل مدنها وبلداتها عن بعضها، وحصارها بجدار الفصل العنصري والمستوطنات غير الشرعية ونقاط التفتيش الصهيونية ومراكزها العسكرية، بل طرحت بعض الأطراف الصهيونية خطّةً لمرحلة ما بعد محمود عبّاس، مفادها تحويل سلطة رام الله إلى معازل عديدةٍ لكل منها سلطةٌ مستقلةٌ عن الأخرى.
يتجاهل روّاد ظاهرة “لوم الذات” غياب أي فعلٍ نضاليٍ فلسطينيٍ أو إقليميٍ أو حتّى دوليٍ لإنهاء حصار قطاع غزّة قبل عملية “طوفان الأقصى”، وهو ما كان يجعل من استمرار الحصار أمراً واقعاً وثابتاً، في حين تصاعد النضال الشعبي الإقليمي والدولي والفلسطيني الساعي إلى كسر الحصار بعد “طوفان الأقصى”، ما يفتح الباب جدّياً أمام إنهاء هذه الجريمة الموصوفة في القانون الدولي كلّيّاً.
هنا لا بدّ من الإشارة إلى دور السلطة الوظيفية في قمع أي حراكٍ فلسطينيٍ لكسر الحصار قبل “طوفان الأقصى” وبعدها، في مقابل دور السلطة في تكريس الحصار، خصوصاً في سنواته الأولى، مقابل دورها المحدود اليوم في جهود كسر الحصار، إذ فرضت العملية على السلطة الوظيفية تغيير خطابها السياسي؛ ولو شكليّاً، ما قد يصبّ كذلك في جهود كسر الحصار.
كذلك لا بدّ من الإشارة إلى مسيرات العودة، التي هدفت، في ما هدفت، إلى كسر حصار قطاع غزّة عبر نضالٍ سلميٍ شعبيٍ، إذ انطلقت تلك المسيرات في 30/3/2018، واستمرّت 21 شهراً، بواقع مسيرةٍ أسبوعيةٍ على محاذاة الشريط الفاصل بين قطاع غزّة ومناطق سيطرة الاحتلال في محيط القطاع. لم تنجح تلك الجهود في كسر الحصار، بل واجهها الاحتلال بالنار والقتل، إذ أدّت دموية الاحتلال في حينها إلى استشهاد قرابة 215 فلسطينيّاً، منهم 47 طفلاً وسيدتان وأربعة مسعفين وصحافيين وتسعة من ذوي الإعاقة، فضلاً عن إصابة نحو 20 ألف فلسطينيٍ، قرابة ربعهم من الأطفال.
بناء عليه، يبدو من التدقيق في حيثيات حصار غزّة والنضال الفلسطيني، أن عامل الوقت وتأجيل العمليات المقاومة العنيفة لم تؤدِّ إلى إنهاء الحصار، أو حتّى التخفيف منه ومن تداعياته، على الرغم من طول فترة الحصار، وذلك مردّه عوامل عديدة، أهمّها دور سلطة رام الله الوظيفي، ومعوّقات تطور المقاومة الشعبية السلمية في ظلّ سياسة المعازل الصهيونية، وفي ظلّ تحكم الاحتلال بالعوامل الاقتصادية.
التضامن الدولي
ساهم التضامن الدولي، على مستوييه الرسمي والشعبي، في تقويض نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، كما ساهم في دعم حركاتٍ تحرّريةٍ أخرى بدرجاتٍ متفاوتة، وهو الأمر الذي تنشُده جهود تحرير فلسطين واستعادة حقوق الفلسطينيين المستلبة، ويسوّقه رواد ظاهرة “لوم الذات” أحد أسباب دعواتهم المتكرّرة إلى تبنّي المقاومة السلمية أسلوباً نضاليّاً أوحد. العمل على توطيد علاقة حركة التحرّر الفلسطينية مع المجتمع الدولي، أو قسمٍ منه، ومع شعوب العالم أجمع مسألةٌ حيويةٌ واستراتيجيةٌ على درجةٍ عاليةٍ من الأهمّية، لبعدين رئيسيين: أولهما؛ حاجة حركة التحرّر لحاضنة شعبية ومناخٍ دعمٍ سياسيّاً واقتصادياً وإعلامياً وقانونياً، وهو ما تجسّد في الآونة الأخيرة في نماذج كثيرةٍ، كما في تعدّد ودورية التظاهرات الداعمة للحقوق الفلسطينية، والمندّدة بجرائم الاحتلال الصهيوني، كما في دعوى جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية. وثانياً؛ نظراً إلى طبيعة الاحتلال الطفيلية، إذ يعتمد الاحتلال على دعمٍ سياسيٍ وإعلاميٍ واقتصاديٍ وثقافيٍ غير محدودٍ تقدّمه دول المعسكر الغربي، وتحديداً الولايات المتّحدة، لذا فإنّ تصاعد الأصوات الداعمة الحقّ الفلسطيني في دول هذا المعسكر، وتصاعد قوتها وتأثيرها، قد تساهم في كبح جماح هذا الدعم بالحدّ الأدنى، وربّما تفضي مستقبلاً إلى ما هو أكثر من ذلك.
هل المقاومة السلمية السبيل الوحيد والأوحد لدعم المجتمع الدولي بشقّيه الرسمي والشعبي؟ أثبتت تبعات عملية طوفان الأقصى وتداعياتها خطأ هذا التقدير، إذ تصاعدت حركة التضامن مع فلسطين وقضيتها وشعبها في الأشهر الأخيرة في العالم، وتحديداً في أهمّ الدول الداعمة للاحتلال الصهيوني، الولايات المتّحدة والمملكة المتّحدة، وبدرجة أقلّ تصاعدت كذلك في ألمانيا، على الرغم من طبيعة “طوفان الأقصى” العنيفة أو المسلحة، وذلك مردّه عوامل أخرى عديدة، أهمّها تراكم إنجازات الجهود التوعوية والثقافية، التي عملت سنواتٍ عديدةٍ على إعادة تعريف شعوب العالم بالقضية الفلسطينية، استناداً إلى الوثائق التاريخية والإحصائية الدقيقة، بعيداً عن الخطاب العاطفي غير المسند بالأدلّة المادية المناسبة. وكذلك العمل القانوني الدؤوب والمستمر منذ سنواتٍ عديدةٍ خلت أيضًا، الذي عمل على توثيق جميع انتهاكات الاحتلال والتعريف فيها، فضلاً عن إعداد ملفاتٍ قانونية عديدةٍ بهذا الشأن، وهو ما عزّز من موقف الفلسطينيين القانوني، وساهم في توعية شعوب العالم بحقيقة ما جرى ويجري في فلسطين. أيضاً؛ ساهم الاحتلال؛ من دون قصدٍ، عبر ممارساته الإجرامية الدورية، وعنجهية قادته، وفجورهم، بل وبفجاجة إقرارهم بإجرامهم وأهدافهم الإرهابية في كشف حقيقة الاحتلال وأحقّية الفلسطينيين بالحرية وباستعادة جميع حقوقهم المستلبة.
أحادية النمط النضالي
يكرّر روّاد ظاهرة “لوم الذات” دعواتهم الفلسطينيين إلى التعلّم من تجارب الماضي القريب والبعيد، قائلين إن حركة التحرّر الفلسطيني قد جرّبت النضال العنيف سنواتٍ عديدة خلت، أهمّها في ستّينيات القرن المنصرم وسبعينياته، فضلاً عن تجربة الانتفاضة الثانية، أو ما آلت إليها من نضال مسلحٍ عنيفٍ، مؤكّدين أن هذه التجارب الطويلة تثبت أن نمط النضال العنيف لم يفضِ إلى تحرير فلسطين، واستعادة جميع الحقوق الفلسطينية. في مقابل ذلك، يقدمون الانتفاضة الأولى نموذجًا رائدًا ونوعيًا حقق نجاحاتٍ عديدة تثبت أهمّية ونجاعة النضال السلمي. كلا التصوّريْن أو الاستنتاجين صحيحٌ، لكنه ناقصٌ أو مشوّهٌ، بل ومؤطرٌ بما يخدم رؤى رواد ظاهرة “لوم الذات” وأفكارهم، بدلاً من خدمته لغرض تطوير حركة التحرّر وتعزيز قدراتها وإمكانياتها.
بدايةً؛ لم يقتصر نضال الفلسطينيين السلمي على الانتفاضة الأولى، بل سبق ذلك بأعوام كثيرةٍ تعود بنا إلى مرحلة الانتداب البريطاني، كما في الإضراب الشهير، الذي دام ستة أشهر متواصلةٍ في 1936، لكن النضال السلمي الفلسطيني لم يُفضِ إلى تحرير فلسطين واستعادة الحقوق الفلسطينية المستلبة. أما الانتفاضة الأولى؛ وعلى الرغم من أيقونتها، إلا أنها لم تفض أيضاً إلى التحرير واستعادة الحقوق، بل أفضت، للأسف، إلى ولادة السلطة الوظيفية، ذات الدور الأمني الكارثي على مجمل النضال الفلسطيني بشقّيه، السلمي والمسلح.
يروّج روّاد ظاهرة “لوم الذات” أن المقاومة العنيفة فشلت في تحقيق الأهداف الوطنية الفلسطينية المشروعة، في مقابل تجاهلهم فشل المقاومة السلمية في ذلك أيضاً، لأنّهم محافظون على العقلية السائدة نفسها في مرحلة أوج حركة التحرّر في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته، تلك العقلية الأحادية الموجّهة، التي همّشت جميع الأنماط النضالية الأخرى لصالح نمط أحاديةٍ متمثّلٍ في حينه بالنضال المسلح، داعين اليوم إلى تهميش جميع الأنماط النضالية لصالح نمطٍ أحاديٍ، هو النضال السلمي، في حين يشنّ الاحتلال الصهيوني على شعب فلسطين وأرضها معارك متعدّدة الجبهات، منها العنيفة والإجرامية، ومنها الناعمة بأنواعها المختلفة الثقافية والإعلامية والاقتصادية والسياسية، إن طبيعة الاحتلال وعدوانه متعدّد المستويات يتطلبان نضالاً تحرّرياً فلسطينيّاً متعدّد الأنماط كذلك، سلمياً وعنفياً، سياسياً واقتصادياً، ثقافياً وقانونيّاً.
المصدر: العربي الجديد
قراءة ووجهة نظر حول ظاهرة “لوم الذات” ونقد نهج المقاومة بسبب عدم توافق الظروف الذاتية والإقليمية والدولية معها لاعتباراتٍ عديدة وفق تقييم البعض، تفوّق قوات الاحتلال عسكرياً وأمنيّاً بمستوى التطور التكنولوجي العسكري والمخزون العسكري، ومستوى الدعم الإقليمي والدولي الرسمي، ولكن هل ظل أمام شعبنا غير هذا النهج بعد أن سلك جميعها ؟