لم تمر طرابلس عبر تاريخها بما تمرّ به منذ عدة سنوات من فقر وحرمان وإهمال على كل المستويات، فقد غدت العضو المريض في جسم هذا الوطن، وأصبحت وللأسف، بحاجة إلى كل شيء، وأبناؤها عدا عن آفة الفقر الذي ينخر في مفاصلهم، فهم بحاجة أيضا إلى كل شيء… وعندما نقول كل شيء.. فذلك لأن المدينة لم يعد فيها شيء، سوى البطالة، والركود الاقتصادي، وتفشي الإدمان والسرقات…!
ولن أتحدث عن ذلك الصخب والضجيج السياسي، الذي كان يملأ المدينة عندما كانت بوصلة العروبة والوطنية والنضال وربان الوطن بلا منازع.. عندما كانت تظاهرة صغيرة تخرج من أمام إحدى مدارسها الرسمية، أو من أمام باب الكلية الإسلامية، وينضم إليها شباب المدينة ورجالاتها ورموزها، فيسقطون «حكومة» يتمترس على كراسي وزاراتها أرهاط في عالم السياسة والإقطاع والطائفية، ويربكون كل الدولة وأجهزتها… ولا أريد الخوض في ذلك أكثر، لأنه زمان قد ولّى، ولم يعد رجال المدينة الحاليين كأولئك الرجال.. ولا ساستها كأولئك الرهط الذين كان قلبهم على المدينة وأبنائها، وعلى كل حيّ وزقاق وسلم وبيت فيها… وحتى الذين كنا نتظاهر يوما ضدهم، ابتلانا الله سبحانه بعدهم بأشباه رجال وزعامات، جعلونا نترحم على أيامهم، ونذكرهم بالخير…!
لن أغوص في أعماق التاريخ بعيدا، بل، منذ سنوات تعتبر قليلة في عمر هذه المدينة، التي هي أكبر من الجميع مهما امتلكوا من ثروات ومال وجاه وسلطان… نعم البارحة، وفي سبعينات القرن الماضي، وعندما حوصرت طرابلس في بدايات الحرب الأهلية، هرع ابنها البار، وزعيمها، وابن الشعب، ونائبها، الدكتور عبد المجيد الطيب الرافعي ـ رحمه الله ـ إلى إرسال أحد الذين يثق بهم، واشترى حمولة باخرة من الطحين والمواد الغذائية.. فتم توزيع الطحين على ستة أفران تغطي أحياء المدينة الشعبية، فكانت تخبز وتوزع الخبز مجانا على كل من يطلبه، وكذلك تم توزيع المواد الغذائية على كثير من الأهالي مجانا، ثم تم افتتاح عدة محلات في الأحياء الشعبية، كانت تبيع ما تبقى بسعر التكلفة… وحتى لا يقول قائل من الأتباع وصبيان الزعامات الحاليين، إنها من أموال العراق، لا.. بل كان بعضها من صندوق الحزب وهو يسير، وتدبر الطيب ابن الطيبين الباقي من ميسورين من أهل المدينة كانوا يثقون به… في الوقت الذي يسطو فيه البعض هذه الأيام، على ما كل ما تطاله أيديهم من أموال الدولة، وحقوق المواطنين…!
وهذا الموقف النبيل والعظيم، الذي لم تنسه المدينة، ذكّر الناس حينها بعام «الرمادة» وبالصحابي الجليل عثمان بن عفان رضي الله عنه، الذي رفض بيع أحمال تجارته لتجار المدينة المنورة، وقال لهم: إني أشهد الله تعالى، أني جعلت ما حملت هذه العير صدقة على فقراء المسلمين، لا أبتغي من أحد درهما ولا دينارا…!
وقبلها بفترة وجيزة، أي قبل ثورة 1958، كان إذا دخل على الطرابلسيين شعبان، بدأت القوافل « الطنابر »، المحملة بالسكر والملح والأرز والشاي والسمن والزيت والبقوليات الخ… تمخر شوارع المدينة وأحياءها، وتقوم بإيصال حمولتها من تلك المواد إلى بيوت العائلات ذات الدخل المحدود، التي كان يطلق عليها «العائلات المستورة»، وفي كثير من الأحيان، كان لا يُعرف اسم مرسلها… فكان يدخل رمضان الكريم على الطرابلسيين، ولديهم مؤنتهم للشهر الفضيل، بل لديهم ما يفيض أحيانا عن حاجتهم …
كان الحاج عبد الله الغندور ـ رحمه الله ـ يسأل أئمة المساجد عن العائلات المستورة، ويرسل لها ما قسمه الله، وكان كثيرون من أمثال الحاج فضل أديب والحاج حسني أديب والحاج خالد منقارة والحاج… والحاج… رحمهم الله جميعا، وهم بالعشرات، يرسلون لهذه العائلات من قبل أن تطلب، ومن قبل أن يدخل شهر الخيرات.. وعندما قيل يوما للحاج فضل أديب ـ رحمه الله ـ عن عائلة، أن فلان أرسل إليها، كان رده وهو يبتسم: هو رزق من عند الله قسمه الله لها… وكان في المدينة أيضا رجال ثقات، معروفون بتقواهم في الأحياء، يمرّ عليهم بعض الرجال والنساء في دكاكينهم، ويتركون عندهم مبالغ من المال، بعضها من نذر نذره، وآخر من زكاة أو صدقة أراد أن يتصدق بها… وكان هؤلاء الرجال يقومون بتوزيعه على مستحقيه بالقسط، طبعا لم تكن قاعدة «والعاملين عليها» قد استشرت بعد، كما هو الحال اليوم…!
أتحدث في هذا الموضوع، وفي نفسي ألم وغصة، بل حسرات… وأنا أقرأ على صفحات التواصل الاجتماعي أن الدولة العتيدة، قد أوقفت العمل بما يسمى «بطاقات الأمان»، عن أبناء طرابلس من ذوي الاحتياجات الخاصة، وغيرهم ممن هم في أوضاع اقتصادية صعبة… في الوقت، أن هذه الدولة العظيمة جدا، يتربع على رأس هرمها ابن طرابلس…! كذلك في الوقت الذي لم نسمع فيه عن أي تحرك لنواب المدينة الأشاوس، ومن يدعون الزعامة فيها، وأنهم رجالها…!
ومن دون الدخول في التفاصيل، والأسباب والمسببات في توقف هذه البطاقات هذه الأيام.. ولا كيف كانت تحسب، وقيمتها…؟ فالساسة والمسؤولون وكما عودونا، لا ينقصهم الذكاء والحيلة، ويستطيعون اختراع المبررات، وغزل الحجج والسفسطات بلا نهاية.. ويستطيعون أيضا الكذب البواح وهم صيام، دون خوف من الله، لأنهم لا يستحون…! ولأنهم لا يملكون ذلك الإحساس الإنساني… ولا تلك الأخلاق التي كانت يوما عند رجالات هذه المدينة الطيبة… ولأنهم قد تحجرت قلوبهم، فهي كالحجارة أو أشد قسوة…!
وإن كان من كلمة أخيرة، فهي: عيب وعار، أن يكون ابن طرابلس على رأس السلطة، ولا تطبق مثل هذه الإجراءات إلا في مدينته…! لأننا نعلم تمام العلم أنها ستبقى سارية المفعول في المناطق الأخرى، ولا يجرؤ أحد على إيقافها.. هذا إن لم يزيدوا على قيمتها المادية.. ولو قالوا عكس ذلك، وأقسموا الأيمان المغلظة، فلن يجدوا من يصدقهم…
نعم، من العيب والعار، أن يكون بيننا أغنياء آتاهم الله بسطة من المال وسعة، ذات أرقام فلكية… وفي مدينة طرابلس من يركض وراء بطاقة تساوي «30 دولار» يصرفه أحدهم على إفطار الصباح… ومن العيب والعار أيضا، أن يصم نواب طرابلس، ومن يدعون الزعامة فيها آذانهم عن أنين الجياع والفقراء والمحتاجين…
وختاما، رحم الله رجالات طرابلس الذين أعطوا للرجولة معنى… وكانوا إلى جانب أبنائها في أوقات الأزمات والشدائد، وفي ساعات الرمادة… ولعنات بلا حدود على كل من يتاجر بقوت الشعب ويستغله، ويصم أذنيه عن أنينه، وتضجر أمعائه… وبشر الظالمين…
* باحث لبناني مقيم في باريس
المصدر: المدار نت