ثمة قول بارز في رواية جورج أورويل الديستوبية “1984″، يقول: “من يسيطر على الماضي يسيطر على المستقبل: ومن يسيطر على الحاضر يسيطر على الماضي”. وفي الحقيقة، ليس هذا مجرد استحضار لخيال قصصي. إن جميع الدول تسعى إلى السيطرة على التصورات السائدة لماضيها بطرق تعزز الوطنية.
ونحن نعرف أيضًا مدى السهولة النسبية لزرع ذكريات زائفة -أو في هذه الحالة، “ذكريات” تاريخية متناغمة مع نظرة أيديولوجية مخصوصة. وقد أدت الثورات إلى تجديد كتب التاريخ، كما أن الرقابة على الأيديولوجيا ليست غير شائعة. قم بتعليم مثل هذه النظرة المختلقة لجيلين أو ثلاثة أجيال من أطفال المدارس وستكون قد ساعدت في تشكيل السلوك المستقبلي عن طريق التحكم بكيفية فهم الماضي.
يتم تسهيل هذا الجهد بحقيقة أن معظم الناس ليسوا مهتمين كثيرًا بالحصول على صورة دقيقة للماضي. وإذا وضعنا الشغف الحالي بعلم الأنساب جانبًا، فإن معظم الناس يبدون مركِّزين محليا، سواء في ما يتعلق بالمكان أو الزمان. ويُعرف هذا الاتجاه باسم “المحلية الطبيعية” natural localism، وهو توجه كان موجودًا معنا (ومع الحيوانات الأخرى) منذ زمن سحيق لا تطاله الذاكرة. ولأغراضنا، يعني هذا أن الماضي يمكن أن يكون tabula rasa، أو “صفحة بيضاء”، يملؤها الناس وفقًا لـ(1) ما يتم تدريسه في المدرسة؛ و، (2) الطبيعة المعزِّزة في العادة للبيئة الثقافية التي ينشأون فيها.
ماضيان متنافسان
على هذه الخلفية، يمكننا أن نطور فهمًا للتصورات الإسرائيلية للفلسطينيين وحقيقة أن “الغالبية العظمى من الإسرائيليين مقتنعون بعدالة الحرب” (في غزة) -وهي حرب قررت “محكمة العدل الدولية” أنها “يمكن أن تشكل، بشكل معقول، إبادة جماعية”. كيف توصلوا إلى هذا الحكم؟ في الأساس، بنى الإسرائيليون ومؤيدوهم الصهاينة، وهذا يشمل بالتأكيد الرئيس الأميركي جو بايدن، ماضيًا مختلفًا نوعيا عن ذلك الذي عاشه الفلسطينيون.
باختصار، إليكم فهمي لهذين الماضيَين المتعارضين، وكيف يشكلان فهمًا للحاضر:
* * *
إسرائيل:
يأخذ العديد من الإسرائيليين المعاصرين على محمل الجد، بلاغيا على الأقل، الزعم بأن الله قد أعطى أرض إسرائيل في الأصل لبني إسرائيل القدماء. وبطبيعة الحال، هذه مسألة إيمان. صحيح تاريخيا أنها كانت هناك أراضٍ قبَلية إسرائيلية قديمة تسمى يهودا وإسرائيل. وقد تعرضت في النهاية لغزو الإمبراطوريات الآشورية أو البابلية. وسادت مدينة القدس كمركز ديني يهودي قديم حتى دمرها الرومان في الغالب في العام 70م. وإلى جانب الإشارات الطقسية إلى القدس وقصص “العهد القديم”، لم يبق سوى القليل من هذا التاريخ على مدى القرون التالية. وكان ما تلا ذلك غزوات متكررة لهذه المنطقة قامت بها إمبراطوريات مختلفة، بما في ذلك، حتى العام 1918، الأتراك العثمانيون.
وفي نهاية القرن 19 الميلادي، كان يمكن العثور على السكان اليهود في جميع أنحاء أوروبا والشرق الأوسط. وبسبب الميثولوجيا الجامحة للمسيحية المتغيرة، عانى اليهود في أوروبا من قرون من الفصل والاضطهاد المستلهمين من الدين. وأدى هذا في نهاية المطاف إلى استنتاج أن الاندماج اليهودي في المجتمع المسيحي كان مستحيلاً -وبحكم الواقع إلى تأسيس الحركة الصهيونية التي سعت إلى إنشاء دولة يهودية.
في العام 1917م، تحالفت الحركة الصهيونية مع بريطانيا العظمى الإمبريالية، مما دفع البريطانيين إلى إصدار “وعد بلفور”، واعدين اليهود بـ”وطن قومي” في فلسطين. وفي الوقت الذي شهد تقديم هذا الوعد، كان لفلسطين نحو ألفي عام من التاريخ كمكان بثقافة وسكان أصليين شرق أوسطيين.
وقرب نهاية الحرب العالمية الأولى، قامت بريطانيا باحتلال فلسطين. وفي هذه المرحلة بدأ البريطانيون في تسهيل الهجرة إلى المنطقة لعشرات الآلاف من اليهود الأوروبيين. وكقاعدة عامة، لا يمكنك أن تُسقِط عددًا كبيرًا من الأجانب في مساحة يهيمن عليها منذ فترة طويلة شعب وثقافة أصليان، ولا تتوقع أن تكون هناك متاعب. وهذا صحيح بشكل خاص في حالة فلسطين، حيث كان المهاجرون يهدفون إلى إنشاء دولة لأنفسهم حصريا فيها. ومع ذلك، فإن الشعور بالتفوق الحضاري الذي يتقاسمه كل من اليهود الصهاينة ورعاتهم البريطانيين أعماهم عن مستوى المقاومة الجادة التي تنتظرهم في الأمام.
عندما حدث ذلك، بدءًا من أواخر عشرينيات القرن العشرين وحتى أواخر أربعينيات القرن العشرين، فسر الصهاينة المقاومة الفلسطينية بأنها معاداة للسامية، وشنوا ما يسمونه “حرب الاستقلال” ضد السكان الأصليين والثقافة الأصلية التي كانوا في طور استبدالهم كولونياليا. وفي أيار (مايو) من العام 1948 تم إعلان قيام دولة إسرائيل، واعتُبرت كل مقاومة إضافية يقوم بها الفلسطينيون “إرهابا”.
هذا هو التاريخ، بتفصيل أكبر بكثير (وبوضع ملاحظاتي النقدية جانبًا)، الذي يجري تعليمه لكل يهودي إسرائيلي/ صهيوني، والذي تحتفي به الثقافة الإسرائيلية، والذي يهيمن على جميع وجهات النظر اليهودية الإسرائيلية التنظيمية. ويعادل التشكيكُ في هذه القصة التاريخية تشكيكًا في حق إسرائيل في الوجود.
وأخيرًا، في هذه الصورة، يظل الفلسطينيون أعداءً يريدون تدمير “دولة إسرائيل”. وبالإضافة إلى وضعهم كتحد لكل من الوجود القومي وتحقيق المصير القومي (استعمار كل فلسطين التاريخية)، فإنه ليس لوجودهم مكان كبير في العقل الإسرائيلي. وفقط عندما يعمل الفلسطينيون ضد إسرائيل، كما فعلت حماس في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، يجري تحويلهم من غير مهمين إلى “تهديد وجودي”.
* * *
فلسطين:
في حين أن احتمال أن يكون الفلسطينيون في الواقع ضحايا لعقود من الاحتلال الإسرائيلي هو شيء لا يمكن تصوره من المنظور اليهودي الإسرائيلي، فإنه يمثل حقيقة لا يمكن إنكارها للفلسطينيين -الذين يعرِّفون أنفسهم على أنهم السكان الشرعيون للمنطقة والحاملون الحافظون لثقافتها الحقيقية.
لأغراضنا، يبدأ التاريخ الفلسطيني الحديث في العام 1917 مع “وعد بلفور” المذكور أعلاه. وينظر الفلسطينيون إلى “وعد بلفور” على أنه خطة تم إعدادها لحل مشكلة أوروبية (معاداة السامية) من خلال التخلص من يهود أوروبا بإلقائهم في أرض عربية. ومع ذلك، فإن الحقيقة هي أن “وعد بلفور”، بينما أعطى الصهاينة حليفًا لا يقهر تقريبًا، أطلق سلسلة من الأحداث التي كان من شأنها أن تؤدي حتمًا إلى خلق القومية الفلسطينية.
على مدى السنوات الـ76 التالية (والعد ما يزال مستمرا) سوف يقاوم الفلسطينيون سلطة دولة إسرائيل التوسعية. ولم يتحقق سلام بين الشعبين. ويعتقد الفلسطينيون أن السبب في ذلك هو أن إسرائيل لم تكن مهتمة في أي وقت بالسلام. إنها مهتمة فقط بامتلاك الأرض.
ولأن إسرائيل هي القوة الأقوى التي تمولها وتسلحها الولايات المتحدة، لم تكن للمقاومة الفلسطينية ضد سياسات الفصل والتهجير الإسرائيلية أي فرصة حقيقية. كانت هناك العديد من الانتفاضات الشعبية التي لم تتمكن من زعزعة التصميم الإسرائيلي على تطهير الفلسطينيين عرقيا في نهاية المطاف. وكانت هناك أيضًا محاولات متعددة لتنظيم مقاومة مسلحة. وأبرز هذه المحاولات في الوقت الحاضر هي محاولة “حماس”.
قامت إسرائيل بتقسيم الفلسطينيين إلى ثلاث مناطق سياسية – جغرافية: (1) الفلسطينيون الذين تمكنوا من البقاء في مناطق إسرائيل 1948 -وهم الآن مواطنون من الدرجة الثانية، تحت الفصل العنصري العرقي. (2) غير المواطنين في الضفة الغربية المحتلة. و، (3) غير المواطنين في غزة. وكانت الظروف في غزة قاسية بشكل خاص، وسرعان ما اكتسبت هذه المنطقة الصغيرة سمعة كونها سجنًا كبيرًا في الهواء الطلق. وكانت “حماس” قد سيطرت بشكل قانوني ومشروع على غزة في العام 2006. ومنذ ذلك الحين، حاصرت إسرائيل غزة وهندست عمدًا انهيارها. وفي ظل هذه الظروف، يرى جميع الفلسطينيين تقريبًا إسرائيل كعدو يسعى إلى إزالتهم وإبعادهم من وطنهم.
الماضي يبرر الحاضر
كيف يمكن لفهمهم للماضي، الذي تم استيعابه عبر أجيال من التلقين العقائدي التعليمي والثقافي والمدعوم رسميا، فضلاً عن التجربة اليومية، أن يجعل الإسرائيليين والفلسطينيين يرون بعضهم ويتصرفون تجاه بعضهم بعضا؟
أول شيء يمكننا ملاحظته هو أن كلاً منهما يعتقد أن الآخر يريد تدميره. وبالنظر إلى كل ما حدث، ثمة بعض الحقيقة في هذا. ومع ذلك، سواء دفع الماضي الفلسطيني “حماس” إلى الرغبة في محو إسرائيل من الخريطة أم لا، فإنها ببساطة لا تملك القدرة العسكرية للقيام بذلك. وكل ما لديها حتى الآن هو قدرة متزايدة على شن حرب مقاومة منخفضة المستوى ضد دولة إسرائيلية لديها القدرة على محو الفلسطينيين من الخريطة.
منذ نكبة العام 1948، لم تتحرك إسرائيل للقضاء ماديا على أعداد كبيرة من الفلسطينيين. وربما كان هذا خوفًا من الرأي العام العالمي. ومع ذلك، في نهاية العام 2023، أدى مزيج من القادة الإسرائيليين القساة بشكل خاص وهجوم “حماس” في 7 تشرين الأول (أكتوبر)، إلى اتخاذ قرار إسرائيلي بالمخاطرة بشن حملة إبادة جماعية على غزة. وانظر وعاين فقط! لقد سمحت لهم بقية دول العالم القومية بالقيام بذلك. وقد أكد هذا الرد السلبي للإسرائيليين أن فهمهم للماضي تتقاسمه معظم الدول الغربية. وفي المقابل، يتم رفض قيام الجهات الفاعلة الدولية غير الحكومية (محكمة العدل الدولية، على سبيل المثال) بالإشارة إلى رعب السلوك الإسرائيلي، باعتبار ذلك معاداة للسامية.
في الحقيقة، قبِل القادة الغربيون على الفور الوصف الصهيوني لعمل المقاومة الذي نفذته “حماس” في غلاف غزة بأنه “عمل إرهابي غير مبرر”. وبذلك أشاروا إلى استعدادهم لتجاهل عقود من القمع الاستعماري الإسرائيلي والطرد والمصادرة ضد الفلسطينيين. لقد ابتلع هؤلاء القادة كل الرواية التاريخية الإسرائيلية. ويقدم الرئيس بايدن، الذي وصف هجوم حماس بأنه “شر محض”، مثالاً ممتازًا على هذا الاختيار المنحاز للتاريخ. وبالعودة إلى إسرائيل اليهودية، “يظهر أحدث استطلاع لـ”مؤشر السلام” (كانون الثاني (يناير) 2024) لدى جامعة تل أبيب أن أربعة وتسعين في المائة من اليهود، و82 في المائة من إجمالي السكان في إسرائيل، يعتقدون أن قوات “جيش الدفاع الإسرائيلي” قد استخدمت القدر المناسب من القوة النارية في غزة (51 في المائة بين اليهود)، أو أن هذا القدر لم يكن كافيًا، (43 في المائة)”. وبعبارات أخرى، فإن فهم الإسرائيليين اليهود للماضي لا يسمح لهم بالاعتراف بأن ما حدث في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023 كان رد فعل فلسطينيا على سلوك دولتهم. ووفق الرواية الإسرائيلية، لم يكن يمكن أن تكون “حماس” قد تصرفت إلا بدافع معاداة السامية البغيضة، مما يبرر الرد بالمذبحة الوحشية.
الخلاصة
دعونا نختتم بنظرة موجزة على موقف الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ. وهو يشكل، مثل جو بايدن، مثالا جيدا لرجل يعيش في فقاعة تاريخية تملي فهمه للراهن. بعد وقت قصير من هجوم “حماس”، ألقى هرتسوغ باللوم في ما حدث على جميع السكان الفلسطينيين في غزة: “ليس صحيحًا هذا الخطاب عن عدم وعي المدنيين وعدم مشاركتهم. هذا ليس صحيحًا على الإطلاق. إنها أمة بأكملها هناك هي المسؤولة. كان بإمكانهم القتال ضد ذلك النظام الشرير الذي استولى على غزة في انقلاب”. هنا يُظهر هرتسوغ نفسَه في حالة إنكار مطلق لمساهمة بلده في حادثة 7 تشرين الأول (أكتوبر)، وكذلك أصول حكم “حماس” في غزة.
في الحقيقة، لم تصل “حماس” إلى السلطة في غزة من خلال انقلاب. لقد وصلت إلى السلطة من خلال انتخابات قانونية تحت إشراف دولي في العام 2006. ومباشرة بعد التصويت، رعت إسرائيل والولايات المتحدة محاولة انقلاب ضد “حماس”. وعندما فشل ذلك الجهد، حاصرتا المنطقة وصعدتا عملية لإحداث تدهور قسري في القطاع. وقد اختار هرتسوغ عدم معرفة ذلك لأنه لا يتناسب مع رواية إسرائيل البديلة التي تبرر نفسها ذاتيا. وكان تأكيده المريب أن “أمة بأكملها (الفلسطينيين)… هي المسؤولة” عن هجوم “حماس” أكثر إثارة للقلق. كان ذلك، في واقع الأمر، إسقاطًا للوضع الإسرائيلي على الفلسطينيين. لأنهم الإسرائيليون هم الذين يعرفون ما يفعله قادتهم (ذلك “النظام الشرير”) بالفلسطينيين منذ أمد طويل. إنهم يعرفون عن الفصل العنصري، والاعتقالات الجماعية، والتوغلات العسكرية، وعنف المستوطنين وما إلى ذلك. والواقع أن العديد منهم شاركوا بنشاط في هذه الأعمال الإجرامية كجنود وعملاء للحكومة. إنهم يعرفون، لكنهم يفسرون هذه الأفعال من خلال “فلتر” التاريخ الطائفي الذي تمت تغذيتهم به وتربوا عليه منذ ولادتهم.
لسوء الحظ، فإن النتيجة المنطقية للرواية التاريخية الإسرائيلية/ الصهيونية هي ترحيل أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين وإبادة الباقين -كل ذلك باسم الأمن والقدَر الوطني الإلهي المقدس. وهكذا، يضطر الفلسطينيون إلى فهم ماضٍ يتكرر بثبات في الحاضر من ناحية. ومن ناحية أخرى، يمتلك الإسرائيليون القدرة على التلاعب بماضيهم واستغلاله لدعم حاضر من اختيارهم هم. ولا ضرورة لأي تحليل. بالنسبة للإسرائيليين، “الحكمة لا تجلب ربحًا”.
*لورانس ديفيدسون Lawrence Davidson: أستاذ متقاعد للتاريخ في جامعة ويست تشيستر في ويست تشيستر، بنسلفانيا.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: The Manipulated Past
المصدر: الغد الأردنية/ (كاونتربنش)
“من يسيطر على الماضي يسيطر على المستقبل: ومن يسيطر على الحاضر يسيطر على الماضي”. لإن الدول تسعى للسيطرة على تصورات ماضيها بgتعزيز الوطنية ،الكيان الصhيوني يحاول تزوير تاريخ فلسطين لتعزيز رواياتها بأحقية دويلتها وإستكملتها حول Tوفان الأقصى الحدث الذي صورته منفصل عن مسبباته والغرب بقيادة أمريكا يردد,نها ، قرhءة موضوعية لتزوير الحدث من قبل الصhاينة لخدمة أجندتها .