ما زالت الأمة العربية تنتقل من إخفاق إلى إخفاق، إذ نعيش اللحظة التي تلتقي فيها النهاية مع البداية، والتي تمتد جذورها في عمق التاريخ العربي الحديث، تاريخ الأزمة الواقعية التي تعيشها المدنية العربية ذاتها، بما هو تاريخ استبعاد العرب من ساحة المبادرة والفعل والمشاركة العالمية.
والسؤال الآن هو: أين يكمن الخلل؟ هل في مستوى البنى الداخلية للدول العربية؟ أم في مستوى التأثير الخارجي؟ أم في تداخل المستويين الداخلي والخارجي؟
إنّ الحقيقة التاريخية الكبرى هي أنّ العالم العربي يمثِّل نظاماً سياسياً مُخْتَرَقاً من قبل الدول الاستعمارية الكبرى. فهو، من حيث كونه منطقة محيطية تربطه بالدول الاستعمارية السابقة علاقات غير متكافئة، لا يستطيع تحقيق أهداف العرب العليا، لأنّ تلك العلاقات تعتبر معوِّقة لمسيرته نحو تلك الأهداف. ذلك أنّ في مقدمة الأهداف الأساسية للاختراق الأوروبي، منذ القرن التاسع عشر، تأتي مسألة تغيير البنى الاقتصادية والاجتماعية لتسهيل الاختراق أولاً، والسعي الدؤوب لدعم المشروع الاستيطاني الصهيوني على أرض فلسطين، وقد ظهر ذلك جلياً في غزة منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر الماضي.
أما النصف الآخر من الحقيقة فيكمن في الأوضاع والقوى الاجتماعية التي سمحت لعلاقات التبعية أن تستمر، فقد دخلت سياسات القوى الخارجية وحساباتها في توجُّهات القوى المحلية، ودخلت القوى المحلية في مخططات القوى الخارجية.
وفي الواقع فإنّ أغلب الدول العربية أقامت في داخلها بنى تحول، بذاتها، دون توجُّه هذه الدول نحو النهضة المنشودة، بل وتخنق القوى التي تتطلع إلى التوجُّه نحو دول حديثة لمواطنيها الأحرار المتساوين في الحقوق والواجبات، أو تعمل لإقامة دولة كهذه. بكلمات أخرى، لقد دأبت قوى الاستعمار القديم والجديد على خلق تحالف طبقي – سياسي تمنعه مصالحه من السير نحو هذه الدولة. بل قامت الدولة العربية بمهمتين متعارضتين: إذ فتتت مجتمعاتها بدل أن تدمجها، وأحيت القوى والمصالح ما قبل الوطنية، بدل أن تميتها. مما أضعف عملية الاندماج الوطني، باعتباره الشرط الأساسي لوجودها السياسي، بينما فتحت الحدود مع الخارج غير العربي.
إنّ المنطقة العربية لم تخرج يوماً من دائرة التنافس الدولي على مصيرها، لأنها قلب العالم القديم ونقطة التوازن بين التيارات والدول الكبرى والموقع الجغرافي والاقتصادي الأكثر أهمية. وقد شكلت إسرائيل عنصر استنزاف سياسي وأمني واقتصادي لجزء مهم من الدول العربية، فهي بشكل أو بآخر لعبت دوراً خطيراً في إعاقة تقدم مصر وتطورها، وحوَّلت المشرق العربي إلى منطقة غير مستقرة.
وبقدر ما أدى التعارض المتزايد بين أجندة إقامة نظام أمني للشرق الأوسط، يلبِّي حاجات الهيمنة الغربية بالدرجة الأولى، وأجندة بناء الدول العربية الحديثة التي تعبِّر عن إرادة مواطنيها وتلبِّي حاجاتهم المادية والمعنوية، من هوية واستقلال وخدمات اجتماعية، إلى حالة من النزاع الدائم، السياسي والثقافي، ولكن أيضاً العسكري (حرب كل عشر سنوات تقريباً) سد الطريق على إمكانية هذا البناء، كما قطع الطريق على إمكانية التواصل بصورة إيجابية مع المنظومة الغربية، ومن ورائها المنظومة الدولية التي يسيطر عليها الغرب.
ومن المؤكد أنّ العدوانية الصهيونية والمطامع الأجنبية ليست هي المسؤولة الوحيدة عما نعيشه من تردٍّ وانحطاط مهما كانت خططهما محكمة، بل يقع وجه المسؤولية الرئيسية على عاتق القوى الفاعلة في بؤر الصراع، على درجة وعيها لحقيقة الشروط القائمة وتحفِّزها لتصويب برامجها وأساليب عملها.
وهكذا، يشترك العرب والقوى الغربية الكبرى سوية في إيصال وضع المنطقة العربية إلى الكارثة التي تعيشها الآن. ولا يعادل فشل العرب في تغيير واقع التبعية المطلقة التي فرضت عليهم سوى إخفاق الغرب أيضاً في تكييف مصالحه مع الحدِّ الأدنى من مصالح الشعوب العربية، فبقدر ما بقيت مشروعاً أجنبياً ووكالة للسيطرة الخارجية وقناة للنفوذ وتنفيذ الخطط والسياسات الدولية، تحولت الدولة العربية، حسب توصيف الدكتور برهان غليون، إلى أداة غريبة سالبة للمجتمع وخارجة عليه. ولأنها أصبحت كذلك افتقدت ديناميات تطورها ونموها المعنوي والقانوني والمادي معاً.
وفي المقابل نحن نعيش حالة مأزومة وشديدة الحساسية، بل ملتهبة في عدائها للآخر، وفي الوقت نفسه غير قادرة على الإنجاز والتوجُّه نحو عمل إيجابي بنَّاء يخرجها من المأزق ويعزِّز قدرتها على حل مشكلاتها. كما أنه من غير الممكن تصوُّر إنقاذ مشروع الدولة من دون تغيير جذري في سياسات القوى الغربية تجاه المنطقة، وتحكُّمها بالقرار الفعلي فيها، وهو ما يستدعي تغييراً جوهرياً في استراتيجية السيطرة الغربية يمكِّن الغرب من تكييف مصالحه، أو ما يعتقد أنه مصالح استراتيجية، مع مصالح شعوب المنطقة، بعد أن بقي ينظر إليها حتى الآن كنقيض لها، ومن دون اعتراف العرب أيضاً بتداخل المصالح الدولية، والقبول بفتح مفاوضات جدِّية حول تبادل المصالح، بما يعني إعادة تعريف واضح للمصالح العربية وضمان الاعتراف بها. فإما أن يحصل تفاهم بين العرب والغرب يقود إلى تعاون يضمن مصالح الجميع ويفتح أمام المنطقة أبواب العدل والتنمية والبناء والاستقرار، أو أن تتحول المنطقة إلى ساحة حرب واسعة وتقبل بأن يكون مصيرها الدمار والخراب الشامل، مع ضياع مصالح الجميع، العرب والغربيين على حد سواء. ولعلَّ تداعيات كارثة غزة تفتح الأفق لتوافق غربي – عربي، قائم على المصالح المشتركة في الأمن والاستقرار والتنمية لشعوب الشرق الأوسط.
هل الأمة العربية أخفقت ؟ أم الأنظمة العربية اللاديمقراطية المتسلطة أخفقت؟ ونقلتنا من إخفاق إلى إخفاق لنعيش لحظة لقاء النهاية مع البداية، إمتداداً بجذورها بعمق التاريخ العربي الحديث، قراءة موضوعية ، ولا ننسى دور الأنظمة الغربية بهذه الإخفاقات بسعيها لتحقيق مصالحها وما وصلنا اليه لتكون المنطقة ساحة حرب للمصالح .