كشفت الأحداث التي توالت منذ هجوم السابع من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي في غلاف قطاع غزة عن كم كبير من الحقائق والأوهام، كما أظهرت مناطق القوة والضعف لدى كل من اللاعبين في ساحة الشرق الأوسط، وتحديداً لدى محور الممانعة الذي تقوده إيران وخصومه. فقبل هذه المرحلة ليس ولن يكون كما بعدها بعدما ظهرت للرأي العام مكانة كل جهة وأفعالها مقارنة بأقوالها. كما تكشف حجم التناقض لدى القوى الدينية اليمينية المتشددة على جبهتي الصراع ومدى حاجة كل منها للآخر من أجل بقائها وزيادة حجم قاعدتها الشعبية. فهي جميعها أجمعت على رفض حل الدولتين كمسار أساسي لإنهاء حرب غزة وما رافقها من اشتباكات في المنطقة والانتقال إلى حل سياسي. ويبدو أن كلاً منها اليوم تتساءل عن دورها إذا نجحت قوى دولية وإقليمية في فرض مسار السلام القائم على حل الدولتين ووضع قطاع غزة والضفة الغربية تحت إشراف السلطة الفلسطينية بدعم أممي. فسيناريو كهذا سيسهل استئناف عملية التطبيع بين إسرائيل والدول العربية. واليمين الإسرائيلي المتشدد سيفقد زخمه وينتقل ضعيفاً إلى المعارضة، فيما إيران وميليشياتها ستبحث من زوايا وأسس جديدة تبرر سياساتها وعملها العسكري.
فلقد كشفت تصريحات مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل عن عمق العلاقة بين اليمين الإسرائيلي بقيادة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وقيادة “حماس”، إذ إن الأول كان يعتمد على وجود حركة المقاومة الإسلامية لإبقاء انقسام القيادة الفلسطينية وعزل غزة عن الضفة الغربية من أجل تبرير عدم تطبيق اتفاق أوسلو. وهو أمر أكده مسؤولون في السلطة الفلسطينية وقيادة منظمة التحرير في لقاءات صحافية أخيراً أشاروا فيها إلى أن السلطات الإسرائيلية كانت تسهل دخول الأموال إلى “حماس” في غزة وتجري تفاهمات معها حول شؤون القطاع وسكانه. كما أن “حماس” وفي عرضها الأخير لإسرائيل اشترطت وقف إطلاق النار وسحب قواتها من القطاع وإعطاء ضمانات باستمرارية حكمها للقطاع كشرط لإطلاق الأسرى الإسرائيليين جميعهم. أي أن “حماس” تخلت عن شرط إطلاق الأسرى الفلسطينيين الذي كانت تطالب به سابقاً واستبدلت به شرط بقائها في السلطة في غزة.
لكن نتنياهو رفض هذه الشروط، وهو أمر غير مفاجئ نظراً إلى الورطة السياسية الداخلية التي يجد نفسه فيها نتيجة أحداث 7 تشرين الأول وتدني شعبيته واتهامه بسوء إدارة الحرب، وإصراره على رفض إقامة الدولة الفلسطينية لتجييش مشاعر القاعدة الشعبية لليمين يقابله تنامي مطالب القوى الغربية بحل الدولتين، الأمر الذي يعطي دفعاً للحراك الداخلي لإسقاط حكومته. والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: هل يناسب نتنياهو واليمين المتشدد إنهاء سيطرة “حماس” على قطاع غزة، الأمر الذي سيسهل عودة السلطة الفلسطينية اليها؟ ما هي الخطوات الذي سيأخذها اليمين ليعطل أي حل سياسي للقضية الفلسطينية في مرحلة ما بعد حرب غزة، وكيف تلاقيه القوى الدينية من الجانب الآخر بتحقيق ذلك؟
أما على الجبهة اللبنانية، فلقد كشفت الأحداث الأخيرة أن حسابات “حزب الله” تغيرت عما كانت عليه عام 2006، وباتت اليوم تأخذ بالحسبان الرأي العام اللبناني، بخاصة بيئة الحزب. فلقد بات “حزب الله” داخل مؤسسات الدولة اللبنانية وباتت له علاقات مباشرة ضمن هذا الإطار مع المجتمع الدولي تعطيه دوراً رئيسياً في عمليات التفاوض ويستفيد جداً من نتائجها، كما كانت الحال في ترسيم الحدود البحرية. فهو من جهة يحاول ممارسة دوره كلاعب أساسي ضمن محور الممانعة ومن جهة أخرى يريد التصرف كجهة رسمية داخل الدولة مسؤولة عن أمن المواطنين. فجاءت معادلة فتح الجبهة الجنوبية ضمن ضوابط صارمة لم تهزها الاستفزازات الإسرائيلية المتتالية باغتيال قادته الميدانيين ومسؤولي حرس الثورة الإسلامية في سوريا. وبالنسبة إلى “حزب الله”، فإن إبقاء مزارع شبعا وكفرشوبا خارج إطار أي تفاهم في المستقبل القريب على تثبيت الحدود البرية مع إسرائيل سيبقي شرعية امتلاكه للسلاح والعمل المقاوم في مرحلة ما بعد انتخاب رئيس جديد للجمهورية، التي قد تسبق انتهاء حرب غزة أو تليها مباشرة.
من الحقائق التي تكشفت أخيراً هو هشاشة الوجود العسكري للحرس الثوري الإيراني في سوريا، حيث تتلقى طهران الضربة تلو الأخرى من دون أي قدرة على الدفاع عن نفسها أو الرد مباشرةً. حتى أن ما وصفته طهران بالرد عبر استهداف ما تدعي أنه مركز للموساد في أربيل العراقية لم يكن مقنعاً بل كشف خشيتها من مواجهة إسرائيل وأميركا مباشرةً. وجاءت مواجهاتها مع باكستان لتكشف أكثر حجم خشيتها من دخول أي حرب مباشرة. فالرد الباكستاني الفوري والحاسم في عمق الأراضي الإيرانية كشف ضعف دفاعاتها الجوية ومنظومات الإنذار المبكر. كما أظهرت خوفها من أي مواجهة عسكرية مباشرة مع خصم بقدرات عسكرية كبيرة مثل باكستان، وهو يمكن أن ينطبق أيضاً على إسرائيل وأميركا. وربما تشكل هذه الحادثة سابقة تشجع دولاً أخرى على كيفية الرد على إيران إذا ما تعرضت لأي اعتداء عسكري انطلاقاً من أراضيها. فالردع الناجح يكون عبر الرد الفوري بالمثل على أي اعتداء عسكري أجنبي.
أما في اليمن، فالميليشيات الحوثية تبحث عن نصر مقنع في مواجهة عسكرية لم تنتظرها. فعملية إسناد “حماس” في حرب غزة عبر قصف بعيد المدى ضد إسرائيل لم يحقق أي شيء بعد فشل جميع الهجمات. وقرارها باستهداف السفن التي لها علاقة بإسرائيل تحول إلى مواجهة عسكرية مع القوى الغربية تتصاعد حدتها وبدأت تؤثر على قدراتها العسكرية. وقد تسعى الميليشيات الحوثية إلى توسيع هجماتها ضد قواعد غربية في المنطقة، الأمر الذي قد يؤدي إلى ولادة تحالف يضم قوى الشرعية اليمنية يهدف إلى طرد الحوثيين من الحديدة والمناطق الساحلية المطلة على البحر الأحمر. فأفضل وسيلة لمنع الحوثيين من تهديد الملاحة في البحر الأحمر هي في حرمانهم من أي منفذ مائي على هذا البحر، وهذا يطبق فقط عبر عملية برية. الإسناد الجوي-البحري الغربي قد يساعد قوات الشرعية اليمنية مدعومة من قوى الجنوب على تحقيق ذلك. كما أن الدور الإيراني في اليمن لم يعد مشكوكاً فيه من أي جهة غربية، الأمر الذي يؤثر سلباً على نظرة هذه الدول إلى الحوثيين والدور الذي يلعبونه في اليمن اليوم، وما قد يقومون به مستقبلاً.
وأسوأ ما يمكن أن تكون حققته هجمات الحوثيين بالنسبة إلى إيران هو إبقاء الدور العسكري الأميركي-الغربي في المنطقة، وربما زيادة حجمه. فأميركا التي سحبت الحاملة جيرالد فورد من المنطقة تسعى اليوم إلى تعزيز وجودها العسكري وربما إرسال قوات إضافية لحماية قاعدتها في جيبوتي ومساندة “تحالف الازدهار” وتقليص قدرات الحوثيين العسكرية. ففي سنة انتخابات من المتوقع أن تسعى إدارة الرئيس جو بايدن لتجنب أي مواجهات عسكرية. لكن للسبب ذاته لا تستطيع تجاهل خطر ضد ممرات مائية حيوية وتحد من قبل ميليشيا لهيبة ردعها. وليس من المستبعد أن تقدم أميركا على تهديد السفن الحربية الإيرانية في منطقة باب المندب والبحر الأحمر بسبب تزويدها الحوثيين بإحداثيات السفن العابرة لاستهدافها. وقد تتطور الأمور إلى مواجهة بحرية لن تستطيع إيران الفوز فيها للفرق الشاسع في ميزان القوى. وقد تتغير حسابات واشنطن في ما يخص تفادي أي مواجهة مباشرة مع إيران لأسباب عديدة، ومنها تجربة باكستان الأخيرة.
أما في العراق، فإن الهجمات الإيرانية المباشرة أبرزت أهمية وجود القواعد الأميركية بالنسبة إلى شريحة مهمة من العراقيين لا يمكن لحكومة بغداد أن تتجاهلها. وبالتالي، فإن عمليات ميليشيات الحشد ضد القواعد الأميركية لم تؤد الغاية المطلوبة بإنهاء وجودها، وجاء القصف الصاروخي الإيراني الأخير ليعقد ذلك. فلا مؤشرات جدية توحي بأن واشنطن بصدد سحب قواتها من العراق أو سوريا. كما أن الحكومة العراقية لم تعد تخفي انزعاجها من واقع الانتهاكات الإيرانية لسيادتها وتأثير هذا على استمرار الوجود العسكري الأميركي.
وبناءً على كل ما تقدم فإن طهران قد تكون أظهرت حجم تأثيرها في المنطقة عبر تحريك ميليشياتها على الجبهات كافة من أجل الحصول على مكاسب سياسية وإنقاذ “حماس”، إلا أن الأمور لا يبدو أنها تسير كما تشتهي، بخاصة أن الهجوم الإسرائيلي على غزة لم يتأثر وطال أكثر بكثير مما كان متوقعاً. فإعلام قوى الممانعة يظهر إسرائيل دائماً على أنها دولة ضعيفة لا تحتمل الحروب الطويلة. لكن الحرب، المدعومة أميركياً، تجاوزت المئة يوم ولا أحد يعلم متى ستنتهي. وعليه، فإن الجبهات الأخرى المفتوحة في لبنان والعراق واليمن قد تتصاعد تصاعداً خارج حسابات طهران وبما لا يخدم مصالحها. فهل هذا يدفع طهران وحلفاءها باتجاه استعجال الحل السياسي، ولو على بعض المحاور، أم ستبحث هذه الجهات عن مكاسب قد تنتجها الفوضى والحرب؟
المصدر: النهار العربي
هل مواقف حلف المقاولة والمماتعة من حرب غزة هو نتيجة لضعف المحور وسوء حسابات ؟ أم خذلان ضمن شعار “الصبر الاستراتيجي” ضمن فقه “التقية” ما جرى ويجرى أظهر بأنه لا وجود لوحدة الساحات ولا لحلف الممانعة ، قراءة وتحليل موضوعي .