من غزة إلى كردستان وباكستان تحوّلات جديدة في المشروع الإيراني

عبد الباسط سيدا

الحرب الإسرائيلية المتوحشة، بقيادة أكثر الحكومات اليمينية المتطرفة التي حكمت إسرائيل منذ تأسيسها، مستمرة رغم مرور أكثر من 100 يوم على اندلاعها بحجة الانتقام من حماس والقوى المتحالفة معها بعد عملية «طوفان الأقصى». والحروب عادة تكون لها أهداف سياسية، ما عدا هذه الحرب التي لا تفصح سوى عن روحية الانتقام والهروب إلى الأمام، والتصرف بعجرفة لم، ولن، تخدم المساعي الرامية إلى تحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة لمصلحة سائر شعوبها.

ومن الواضح أن النظام الإيراني يحاول استغلال إنشغال العام بحرب غزة وأوكرانيا والتوترات المتصاعدة في شرق آسيا، إلى جانب الأزمة الاقتصادية العالمية، والانتخابات الأمريكية، وغير ذلك من المتغيرات والمنغّصات، ليحقق مكاسب استراتيجية عمل، ويعمل، من أجل تحقيقها على مدى أكثر من أربعين عاماً.

فبعد أن تمكن هذا النظام من زعزعة استقرار جملة من مجتمعات المنطقة ودولها، يسعى اليوم لتوسيع دائرة نفوذه البحري عبر محاولة التحكم بالمضائق والممرات المائية الاستراتيجة (مضيق هرمز وباب المندب) وتهديد التجارة العالمية والبحر المتوسط، وربما مستقبلاً يحاول الوصول بالتعاون مع الروس وغيرهم إلى السواحل الأفريقية، ليثبت نفسه لا قوة إقليمية محورية فحسب، بل قوة لها وزنها على المستوى العالمي.

وقد اعتمد هذا النظام بصورة مستمرة منذ سيطرته على الحكم في إيران سياسة الاستثمار في الميليشيات المحلية التي أسسها من (الباب إلى المحراب)، لتصبح تابعة له عضوياً في كل شيء، وتكون مستقبلاً بديلاً عن الدول المأزومة. هذا ما فعله في لبنان وفي اليمن والعراق وسوريا وفلسطين. وغالباً ما يكلّف النظام المعني أذرعه بالمهمات الخارجة عن نطاق القوانين الوطنية والدولية، ليتدخل هو بنفسه لاحقاً، وفي الوقت المناسب، بغية استخدام النقاط التي سجلها الوكلاء-الأدوات على مائدة التفاوض مع القوى الدولية المؤثرة على المستويين الإقليمي والدولي، ومع الولايات المتحدة الأمريكية تحديداً.

ولكن الأمر الذي أثار الانتباه واستوجب التمعن، هو أن هذا النظام تجاوز مؤخراً هذه القاعدة، وأعلن على الملأ بأنه هو الذي هاجم أربيل عاصمة كردستان العراق. وفي سعي واضح لخلط الأوراق، ادعى نظام ولي الفقيه في الوقت ذاته بأنه هاجم مواقع الإرهابيين المتطرفين والإسرائيليين في كل من سوريا وباكستان، وذلك انتقاماً من الهجوم الذي تعرضت له كرمان خلال مراسيم إحياء الذكرى الرابعة لمقتل قاسم سليماني.

وفي أجواء تصاعد غضب شعوب المنطقة والعالم نتيجة الحرب الإسرائيلية على المدنيين في غزة التي تسببت في قتل آلاف الأطفال والنساء وتشريد نحو مليوني إنسان، وتدمير البنى التحتية، وتسوية المناطق السكنية مع الأرض؛ في هذه الأجواء خرج علينا النظام المعني بزعم مفاده أنه ضرب مقراً للموساد في أربيل، في حين تبين لاحقاً، وبالأدلة القاطعة أن الهدف كان منزلاً يمتلكه رجل أعمال كردي عراقي (بيشرو دزيي) معروف بمؤهلاته العالية في مجال العمران المتميز. وتسبب القصف في مقتل صاحب المنزل نفسه مع ابنته التي لم يتجاوز عمرها 11 شهراً إلى جانب ضحايا آخرين، وعدد من الجرحى من بينهم زوجة المغدور نفسه.

وجاءت تصريحات المسؤولين الأمنيين العراقيين التابعين للحكومة العراقية الاتحادية بعد زيارتهم لمكان القصف، لتميط اللثام عن التلفيق في المزاعم الإيرانية، ورفعت الحكومة العراقية شكوى إلى مجلس الأمن ضد الهجوم الإيراني المعلن الغريب، ودعت إلى اجتماع خاص لمجلس الجامعة العربية، بخصوص ما حصل، وكل ذلك أحرج النظام الإيراني.

ولكننا إذا عدنا إلى جملة التطورات التي حدثت، والمواقف التي اعلنت من قبل القوى المحسوبة على إيران في الدولة العراقية، سنرى أن الضربة الإيرانية لأربيل هي نتيجة منطقية للحسابات الإيرانية بخصوص مستقبل العراق. فبعد مقتل القيادي في حركة النجباء العراقية التابعة بشكل كامل للنظام الإيراني (أبو تقوى) بضربة أمريكية، أعلنت الحكومة العراقية، وتحت الضغوط الإيرانية، عن رغبتها في خروج القوات الأمريكية من العراق، وهو الأمر الذي لم يكن موضع ارتياح الكثير من العراقيين على اختلاف مكوناتهم، وفي مختلف المناطق؛ لأن خروج هذه القوات، وقبل تشكل مؤسسات دفاعية عراقية ملتزمة بولائها العراقي، قوية قادرة على مواجهة المخاطر الداخلية والخارجية، معناه تسليم ما تبقى في العراق للنظام الإيراني الذي يريد الهيمنة الكاملة على العراق بكامل موارده الطبيعية والبشرية، ليكون الأخير مصرفاً يضخ الأموال لتغطية تكاليف المشاريع التوسعية الإيرانية في المنطقة، ويوفر المقاتلين لصالح تلك المشاريع.

ولكن مع صدور مواقف واضحة من قبل المسؤولين في إقليم كردستان أعلنت عدم وجود مصلحة عراقية راهنة بخروج القوات الأمريكية من العراق؛ وقد استندت هذه المواقف إلى ما يعرفه الجميع بشأن دور المايسترو الإيراني المؤثر في الفوضى الشاملة التي تعيشها المنطقة؛ كان الهجوم الصريح على أربيل بعد سلسلة من الهجمات بالمسيرات نسبت إلى ميليشيات ولائية أو إلى قوى مجهولة الهوية.

القصف الإيراني المكشوف لكردستان العراق وباكستان ومنطقة إدلب في سوريا إنما هو بداية مرحلة جديدة يؤكد فيها النظام الإيراني استعداده لتجاوز قواعد الاشتباك على مستوى العراق والإقليم، وربما ما هو أبعد من الإقليم. فأن يتحرش هذا النظام بدولة نووية ذات علاقة وثيقة مع الولايات المتحدة الأمريكية، ويوجه صواريخه الباليستية نحو إدلب، ويقصف أربيل في إقليم كردستان الذي يحظى بوضع قانون دستوري ضمن جمهورية العراق، كل ذلك يكشف النقاب عن رسائل متباينة يريد النظام المذكور توجيهها إلى الجوار العربي، والغرب عموماً، مفادها بصورة عامة بأنه ربما قد امتلك، أو بات على بعد خطوات من امتلاك، القنبلة النووية، وأن صواريخه قادرة على نقلها وتوجيهها نحو الأهداف التي يريدها رغم المسافات الطويلة، وبأنه قد دخل مرحلة جديدة من المساومات الاستراتيجية بفضل جهود أذرعه التي تمكنت من شل دول المنطقة، وخلخلة مجتمعاتها، وتهديد طرق الملاحة والتجارة العالمية، ومن دون أن يتسبّب ذلك كله في نشوب معركة واحدة على الأرض الإيرانية.

المنطقة بصورة عامة في حاجة إلى التهدئة بعد سنوات طويلة من الصراعات الخفية والعلنية والحروب بجميع أنواعها والكوارث التي ترتبت على ذلك. ومثل هذه التهدئة تستوجب الالتزام بقواعد حسن الجوار والمعاهدات والاتفاقيات الدولية، والتوصل إلى حلول عادلة للقضايا العالقة الملتهبة في المنطقة منذ نحو قرن. ويشار هنا إلى القضيتين الفلسطينية والكردية على وجه التحديد، إلى جانب قضايا حريات شعوب المنطقة بصورة عامة.

ولبلوغ هذه التهدئة قد تكون فكرة انعقاد مؤتمر دولي جديد يساعد بجدية في معالجة قضايا شعوب المنطقة جديرة بالدراسة، وذلك بعد أن أثبتت دول المنطقة فشلها على جميع المستويات. وهذا الفشل هو حصيلة عقود من الاستبداد والفساد. فهذه الدول تعيش اليوم أزمة كبرى لا تستطيع إخراج نفسها منها من دون مساعدة دولية إقليمية، على أن تكون الدول العربية هي الوازنة المؤثرة في الميدان الإقليمي.

هذا مع التأكيد بأنه في جميع الأحوال لا بد من التوافق بين المكونات المجتمعية الوطنية ضمن كل دولة من دول المنطقة على امكانية العيش المشترك، وأهمية تحسين الشروط والظروف التي تعزز الثقة بين مختلف المكونات، فمن دون هذه الشرطين على المستوى الوطني سيكون المؤتمر الدولي المقترح نوعاً من العبث، أو أنه قد يكون فرصة جديدة للدول المؤثرة على المستوى العالمي والإقليمي لضبط الأمور بما يتناسب مع حساباتها ومصالحها.

هل العالم مستعد للتخلي عن المصالح الآنية الأنانية، ليعمل على تعزيز الأمن والاستقرار في منطقتنا الأمر الذي سيساهم في تعزيز الأمن والاستقرار على المستوى العالمي؟ فمعالجة المشكلات في الشرق الأوسط بعقلية بعيدة النظرة تعتمد حلولاً واقعية ممكنة مستدامة ستكون لها انعكاسات إيجابية على صعيد خفض التوترات على المستوى العالمي، وتمهيد الطريق أمام انتعاش اقتصادي عام، يمكّن من معالجة القضايا الحيوية الكبرى التي تواجه البشرية اليوم، مثل قضايا البيئة والأوبئة والفقر والأمية، والآفات الناجمة عن الأزمات الإقليمية، إلى جانب المشكلات الناجمة عن صناعة وتسويق المخدرات؛ وكل ذلك لو تحقق سيضمن حياة أفضل للأجيال المقبلة.

*كاتب وأكاديمي سوري

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى