سباق أميركي – روسي في سورية بين قانون قيصر و”أم 4″

جو معكرون

يمثل الطريق السريع “أم 4″، الذي يمرّ عبر أكثر المناطق الاستراتيجية في سورية، رمزية صراع القوى الأجنبية على بلد مزقته الحرب، إذ تمتلك كل من روسيا والولايات المتحدة وتركيا حصة من السيطرة على هذا الطريق الذي تجهد فيه هذه الدول لتهدئة التوترات العسكرية وضبط إيقاع التنافس. بالنسبة إلى روسيا، ازدادت أهمية إعادة فتح هذا الطريق أمام التبادل التجاري والمسافرين بهدف توطيد سيطرتها على سورية وإيجاد توازن مع النفوذ الأميركي الذي يسعى لفرض معادلة جديدة عبر عقوبات “قانون قيصر” على النظام السوري الذي دخل حيز التنفيذ في 17 يونيو/ حزيران الحالي.

يربط طريق “أم 4” الحدود العراقية شرق سورية بالسهل الساحلي غربها، ويعتبر شرياناً حيوياً للتجارة الإقليمية ولضمان عدم الانهيار الاقتصادي في المناطق الواقعة تحت سيطرة النظام. يتم عبر هذا الطريق شحن النفط الخام من منطقة الجزيرة السورية بشمال شرق البلاد، كما يتم نقل القمح والقطن من مناطقها الزراعية الخصبة. بالنسبة لروسيا، تأمين “أم 4” يعني توطيد نفوذها عبر إعادة إحياء الاقتصاد، والتمهيد لمسار إعادة الإعمار والتبادل التجاري مع دول الجوار. وتضمنت تكتيكات موسكو حتى الآن مزيجاً من المفاوضات والوساطة مع الأطراف المعنية عبر تقديم إعادة فتح “أم 4” على أنه صيغة مربحة للجميع، لكن في الوقت نفسه انخرطت روسيا بمواجهات عسكرية كبيرة وقصف مكثف على المدنيين لإعادة فتح هذا الطريق السريع.

طريق “أم 4” حيوي أيضاً للمناطق الخاضعة للنفوذ الأميركي في شرق الفرات، عبر “قوات سورية الديمقراطية” (قسد)، وبالتالي استقرار هذا الطريق مصلحة أميركية ويوفر بيئة مستقرة لحقول النفط في منطقة الجزيرة. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ أنقرة أيضاً لاعب رئيس له دور حاسم في تحديد مصير هذا الطريق الحيوي. تقاطع المصالح الأميركية – التركية يغيّر الدينامية في الصراع على سورية، لكن سيبقى دعم واشنطن لـ”قسد” نقطة خلافية بين الطرفين. مع تحقيقها تقدماً عسكرياً في شرق الفرات، تظلّ أولوية أنقرة القصوى السيطرة على الطرق الرئيسية التي تربط المناطق التي يسيطر عليها الأكراد في شرق سورية، وبالتالي تقويض بروز إدارة ذاتية كردية مترابطة على الحدود الجنوبية لتركيا. قدرة تعطيل طريق “أم 4” في أي وقت تمنح أنقرة ورقة مساومة في التفاوض مع موسكو، وخصوصاً حول مصير محافظة إدلب. ومن المتوقع أن تعقد روسيا وتركيا وإيران اجتماعاً في الأسابيع المقبلة لمناقشة تعاونهما في سورية، وهذا الطريق السريع سيكون بالتأكيد على جدول الأعمال، لأنّ إعادة فتحه كانت من الأهداف الرئيسية لمسار أستانة الذي لا يزال يجمع هذه القوى الثلاث. لكن هذه الحماسة الروسية المتجددة لفتح طريق “أم 4” السريع أصبحت الآن جزءاً من السياق الأكبر للتنافس الأميركي الروسي في سورية.

خريطة القوى على طريق “أم 4”

للمرة الأولى منذ أكثر من سبعة أشهر، تمكّنت روسيا في 25 مايو/ أيار الماضي من إعادة فتح الطريق السريع الذي يمتدّ جغرافياً من بلدة اليعربية على الحدود العراقية عبر محافظات الحسكة (القامشلي وتل تمر)، والرقة (عين عيسى)، وحلب (منبج والباب ومدينة حلب)، ليتقاطع بعدها “أم 4″ و”أم 5” بين حلب وسراقب (محافظة إدلب)، قبل أن ينقسم في سراقب إلى طريقين: الأول يؤدي إلى اللاذقية على الساحل السوري عبر أريحا وجسر الشغور، والثاني يتجه إلى دمشق وينتهي بمحافظة درعا على الحدود الأردنية في الجنوب السوري. ويمكن تقسيم هذا الطريق إلى جزأين يختصران توازن القوى فيه، طريق الحسكة-حلب وطريق حلب-اللاذقية.

منطقة طريق الحسكة – حلب تخضع بشكل أساسي لسيطرة “قسد” إلى جانب قوات النظام السوري والمعارضة، وهي تمتد من اليعربية على الحدود العراقية إلى غرب مدينة منبج، وهي منطقة فيها قوات عسكرية أميركية وروسية وتركية. أدى التوغل العسكري التركي في شهر أكتوبر/ تشرين الأول عام 2019 إلى تعديل الدينامية في هذه المنطقة حيث لم يعد هناك وجود حصري للقوات الأميركية في شرق الفرات، بالإضافة إلى الاتفاق الأميركي-التركي بعد زيارة نائب الرئيس الأميركي مايك بنس لأنقرة في تلك الفترة وما تلاها من اتفاق روسي-تركي بعد زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى موسكو.

تمت ترجمة هذه التحولات العسكرية بثلاث نواح: انتقال النفوذ الروسي إلى مدينة منبج التي كانت سابقاً قضية خلافية بين القوات الأميركية والتركية، تعايش جديد للقوات الأميركية والروسية في محافظة الحسكة على طول الحدود مع تركيا، ودخول النفوذ التركي للمرة الأولى إلى شرق الفرات. نتيجة ذلك، انتشرت المعارضة المدعومة من تركيا على طول الحدود بين عين عيسى وتل تمر بعد انسحاب القوات الكردية 30 كيلومتراً بعيداً عن الحدود التركية، وبالتالي أصبحت وحدات النظام السوري قوة عازلة بين “قسد” وقوات المعارضة السورية على طول هذا الجزء من “أم 4”.

بعد توتر عسكري بينهما منذ بداية العام الحالي، بدأت القوات الأميركية والروسية في 27 مايو/ أيار أول دورية مشتركة على الطريق الذي يمرّ عبر أبرز حقول النفط في شرق الفرات، في السويدية ورميلان في محافظة الحسكة. هذا التنسيق العسكري يهدف إلى تخفيف التوترات الأخيرة بين الجانبين في شرق نهر الفرات، وعلى الأرجح سيستمر على الرغم من دخول قانون قيصر حيّز التنفيذ. في الوقت الذي تسعى فيه القوات الأميركية والروسية والتركية إلى التعايش على طريق الحسكة-حلب، يمكن أن ينهار وقف إطلاق النار في أي وقت. على سبيل المثال، لا تزال المنطقة الواقعة بين عين عيسى ومنبج عرضة للهجمات التركية بالنظر إلى نيّة أنقرة دفع مقاتلي “قسد” بعيداً عن حدودها وسعيها لتمديد المنطقة العازلة من عين عيسى إلى منبج. كما زعمت قوات النظام السوري أنها منعت القوات الأميركية من المرور عبر مناطق شمال غرب محافظة الحسكة مرتين هذا الشهر، وهذا الأمر لا يحدث على الأرجح بلا موافقة روسية.

على طريق حلب-اللاذقية، هناك انتشار للقوات الروسية والتركية والإيرانية على طول هذا الجزء من طريق “أم 4” الذي يتكون من أربعة أجزاء رئيسية. الأول حول مدينة الباب في محافظة حلب تسيطر عليه قوات المعارضة المدعومة من أنقرة، والثاني تسيطر عليه المليشيات المدعومة من إيران من حلب إلى سراقب، ويمتد الثالث عبر مناطق خاضعة لسيطرة “هيئة تحرير الشام” مروراً بأريحا وجسر الشغور، والجزء الأخير ينتهي في محافظة اللاذقية، معقل نفوذ النظام السوري والأصول العسكرية الروسية، على وجه الخصوص قاعدة حميميم الجوية. بعد الجولة الأخيرة من الأعمال العدائية، اتفقت روسيا وتركيا على وقف إطلاق النار في إدلب في مارس/ آذار الماضي، واختتمت منذ ذلك الحين 17 دورية على هذا الجزء من الطريق السريع. لكن وقف إطلاق النار لا يزال هشاً، ما يجعل الطريق السريع عرضة لموجات جديدة محتملة من العنف قد تؤدي إلى إغلاقه مرة أخرى. والمنطقة الأكثر حساسية تبقى إدلب، حيث تتعاون قيادة “هيئة تحرير الشام” لتأمين وإعادة فتح الطريق السريع لمصلحتها الاقتصادية، لكن تتحداها مجموعات إسلامية أخرى تتهمها بالتواطؤ مع التوافقات التركية-الروسية، الأمر الذي يترك حالة من عدم اليقين حول الطريق السريع “أم 4” عبر محافظة إدلب. التعزيزات التركية والروسية تزيد في هذه المنطقة، وتوحي باحتمال تصعيد التوتر العسكري بين الطرفين وقد تقلب موسكو الطاولة عبر شن هجوم على جسر الشغور وأريحا.

طريق “أم 4″ و”قانون قيصر”

مع تدهور الوضع الاقتصادي في لبنان والضغوط الأميركية على بيروت لوقف التهريب إلى سورية، أحد تداعيات “قانون قيصر” قد يكون اعتماد النظام السوري بشكل متزايد على طريق “أم 4” كمنفذ اقتصادي لتأمين المواد والبضائع اللازمة للأراضي الواقعة تحت سيطرته. المعابر الداخلية مع “قسد” وقوى المعارضة على طول الطريق السريع، تعتمد فرض الرسوم الجمركية والتهريب كمصدر رئيسي للإيرادات للأطراف المعنية، وسيستمر هذا الأمر بعد قانون قيصر الذي يستثني بعقوباته تجارة السلع الأساسية. علاوة على ذلك، ليس لـ”قانون قيصر” نفسه آليات تنفيذ قوية، لا سيما عندما يتعلق الأمر بالتهريب داخل سورية. سيتعين على الولايات المتحدة الاعتماد على التعاون التركي والكردي الكامل لفرض مثل هذه الإجراءات.

على مستوى التنافس السياسي، تحاول روسيا تعزيز التقارب بين النظام السوري و”قسد”، لكن قد يصطدم هذا الأمر بالفيتو الأميركي إذا وصل هذا الحوار إلى مراحل متقدمة. كما تسعى موسكو إلى توسيع وجودها العسكري في شرق الفرات عبر بناء علاقات مع العشائر في محافظة الحسكة لتشكيل قوة عسكرية موالية لها، ما يثير قلق المسؤولين الأميركيين، مع أنّ فرص نجاح هذه الجهود الروسية محدودة. في المقابل، تتوسط الولايات المتحدة بين تركيا و”قسد” من دون أي اختراق متوقّع، نظراً للعداء بين الطرفين، كما تسعى واشنطن للتوفيق بين الأحزاب الكردية في سورية لتعزيز نفوذها في شرق الفرات ومنع روسيا من بناء تحالفات محتملة مع الأحزاب الكردية.

وبينما تستخدم القوات الأميركية المعبر الحدودي مع كردستان العراق لإرسال تعزيزات عسكرية ولوجستية إلى المنطقة الخاضعة لسيطرة “قسد” في القامشلي بسورية، هناك تساؤلات حول كيفية استخدام الولايات المتحدة لهذا المعبر على الحدود العراقية-السورية. تدفع واشنطن مجلس الأمن الدولي للسماح للمساعدات الإنسانية بدخول سورية عبر هذا المعبر الخاضع لسيطرة “قسد” لتجاوز عقبات التعامل مع روسيا. ومع انتهاء صلاحية قرار الأمم المتحدة لاستخدام هذا المعبر في 10 يوليو/ تموز المقبل، يمكن لموسكو (وربما بكين) الاعتراض على فتح مناطق حدودية لا تخضع لسيطرة النظام السوري أمام المساعدات الإنسانية، وهذه خطوة قد تكون رداً روسياً على قانون قيصر. تريد موسكو أن تقوم هذه المناطق الحدودية الخاضعة لسيطرة “قسد” وقوى المعارضة، بتحفيز التجارة الداخلية مع الأراضي التي يسيطر عليها النظام السوري، بدلاً من الاعتماد على التجارة عبر الحدود العراقية.

علاوة على ذلك، أدخلت أنقرة الليرة التركية إلى المناطق السورية الخاضعة لسيطرتها في ظلّ انهيار العملة السورية وفرض عقوبات أميركية جديدة على دمشق. تهدف تركيا إلى ربط هذه المناطق باقتصادها بدلاً من أجزاء أخرى من سورية. قد تعزز العقوبات الأميركية الأخيرة هذا المسار، لكن هناك تحديات اقتصادية مقبلة إذا تم اعتماد الليرة التركية في ظلّ التفاوت في الأسعار مع الليرة السورية. في الصورة الأوسع، هناك سباق بين فرض عقوبات قانون قيصر وإعادة فتح طريق “أم 4″، والضحايا سيكونون مرة أخرى هم السوريون أنفسهم الذين سيتحملون أعباء هذه المرحلة الجديدة.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى