تـــذكـــيــــر الـــفـــتـــحــــاويــيـــن ب ” فـــتـــــــح ” الـــســــوريــــــــة!

ترى هل تذكر قادة فتح الحاليون وهم يرتبون لعقد مؤتمرها السابع دعوة شخصيات عربية ممن ارتبطت الحركة بهم، وارتبطوا بها في مسيرتها النضالية الطويلة ( 1959 – ) بدل الاكتفاء بدعوة ممثلي بعض الأنظمة العربية ..؟

حركة التحرير الوطني الفلسطيني – فتح لم تكن منظمة فلسطينية فقط، بل كانت منذ تأسيسها عربية الهوية والانتماء , وعربية الخط السياسي , وستبقى كذلك , بحكم العوامل التي تجعل فلسطين قضية عربية , ولا يمكن تغيير هذه الطبيعة العضوية .. أو الحقيقة الأزلية تحت أي ظرف .

وقد يتجاهل البعض عمدا , وقد لا يعرف بعض آخر نتيجة مرور الزمن أن حركة فتح منذ تأسيسها ضمت أعضاء وكوادر ليسوا فلسطينيين بمعيار الجنسية , وتوسع هذا البعد بعد انطلاقة الرصاصة الاولى عام 1965 . كان فيها سوريون واردنيون ولبنانيون وعراقيون وجزائريون ومصريون , وأكراد واتراك وسريان وأرمن , بل وكان فيها أجانب أوروبيون وآسيويون .. إلخ , وهو أمر يسلط الضوء على أحد عوامل قوة فتح وتاريخيتها .

على سبيل المثال .. سأسرد بعض ذكرياتي مع فتح , كعضو عامل فيها لاكثر من عشرين سنة , وكانت أول تنظيم سياسي انتسبت له في حياتي .

كان للحركة مكتب رسمي في حلب , يقع في مركز المدينة ( العبارة ) اغلقته السلطة بعد انقلاب حافظ الاسد 1970 , قصدته أواخر عام 1967 وكنت لا أتجاوز 16 سنة إلا أني كنت كغيري متأثرا بالجرح العميق الذي أحدثته في ضمائرنا هزيمة 1967 , ومنفعلا بالعمليات الفدائية لقوات العاصفة الجناح العسكري لحركة فتح , التي بدأت تزداد وتقوى في تلك الفترة الحالكة , وشكلت اشعاعات أمل لنا في نفق الهزيمة التي منيت بها جيوش ثلاث دول عربية .

قابلت الاخ ( ابو صالح ) وقدمت له تبرعا ماليا معتبرا بمعايير ذلك الوقت وبالنسبة لشاب صغير , اردت به ترجمة مشاعري الفياضة تجاه عمليات الحركة ضد العدو الاسرائيلي , وبعد تبادل الحديث سألته عما اذا كان يحق لي الانتساب للحركة , فرحب بي .

في يونيو 1970 دعتني الحركة للمشاركة في أول دورة تدريبية لما دعي حينها (الجبهة المساندة) فلبيت الدعوة . جرت الدورة في قرية زملكا في الغوطة الشرقية قرب دمشق واستمرت اسبوعين وشملت التدريب العسكري الشاق في النهار وحوارات سياسية مع كبار القادة في مساء كل يوم , وأذكر أن ابا عمار افتتح الدورة , وشارك في المحاضرات قادة مثل ابو الهول وابو عمار سعد , وكان جميع المشاركين عربا من لبنان , ومصر والكويت , والجزائر , وفرنسا .

بعد تلك الدورة بثلاثة شهور وقع الصدام العسكري بين الثورة والسلطة الاردنية ( ايلول الاسود ) , ودعينا ثانية للالتحاق بدورة عسكرية مكثفة وسريعة في درعا قبل الدخول الى الاردن حيث تموضعنا في اربد التي كانت تحت سيطرة المقاومة الفلسطينية .

في عام 1971 طلبت مني قيادة الحركة في حلب ( الأخ ابو السعيد ) أن أبدأ بتنظيم شباب سوريين للحركة , وأن اعقد لهم اجتماعات دورية وأوصل لهم نشرات الاعلام واشرح لهم مواقفها , وكان الهدف ايجاد تنظيم سوري لفتح .

في صيف 1972 دعينا لدورة سياسية في معسكر قرب( مصياف) استمرت اسبوعين , وبعد أن اختتمت الدورة بيوم واحد أغارت طائرات اسرائيلية على المعسكر .

في عام 1976 وعلى اثر الصدام العسكري بين الثورة الفلسطينية والنظام السوري في لبنان ,اصبح نشاطنا في حلب محفوفا بالخطر , فطلب مني الاخوة في قيادة الحركة بتجميده مؤقتا ريثما تنجلي الأمور , وأعلموني أن المخابرات السورية اعتقلت بعضهم وحققت مع آخرين , وأنها تراقب حركتهم واتصالاتهم يوميا , وحرصا علينا نحن السوريين يجب تجميد نشاطنا .

استمرت علاقتي بفتح طوال السنوات التالية بصفة فردية, وخاصة خلال فترة اقامتي في لبنان 1981 – 1982 , ثم في اليونان لمدة ثماني سنوات . وهناك توثقت العلاقة مجددا مع اخوة اعزاء من كوادر فتح الكبار , وزرت تونس والتقيت ببعض القادة الشهداء رحمهم الله وخاصة المرحوم الاخ صلاح خلف أبو اياد رحمه الله ومساعده المرحوم عاطف بسيسو , وقابلنا عرفات في اثينا خلال احدى زياراته , ثم قابلته لآخر مرة في ليبيا في نهاية 1990 رحمهم الله جميعا .

كان للحركة طوال تلك السنين مواقف واضحة من نظام حافظ الاسد ردا على سياسته العدائية لفتح وقيادتها , ولا سيما المرحوم ابو عمار . ولا يمكن لي أو لنا كسوريين معارضين اغفال أنه أول زعيم عربي تبنى سياسة علنية مناوئة للأسد بينما كان هذا في ذروة قوته داخليا وخارجيا , مما خلق تنافرا دائما بين الطرفين , تطور الى صراع ثم الى صدام عسكري في لبنان عام 1976 ثم 1983 , وصراع سياسي مستمر في المحافل والقمم العربية الأمر الذي دعاني لأن أكتب ذات مرة مقالا عنونته ب ( عرفات أول معارض سوري ) !

وقد كشفت سابقا أني أرسلت رسالة له عام 1989 عبر بعض الاخوة طالبا المساعدة المالية لاعالة عائلات مائتي معتقل لنا في زنازين الاسد فلم يخذلنا ولم يتأخر. ولم يكن هذا شيئا استثنائيا , فهو يرعى عشرات المعارضين السوريين شيوعيين واسلاميين وبعثيين واكرادا , وسيأتي يوم تتكشف فيه اسرار هذه العلاقة القوية التي ربطت أبا عمار بالمعارضة السورية ودفاعه عنها, وما قدمه لها, وهو غير قليل . ولا أريد الخوض فيها لأني لست المخول بها , ولكني أعلم أن بعضهم ما زال لليوم يعيش في كنف فتح , ويتلقى مساعدات شهرية منتظمة بحكم العلاقات التي ربطت الطرفين طوال اربعين سنة على اسس اخلاقية ونضالية وقومية بحتة .

وحين عاد أبو عمار الى غزة نتيجة اتفاق أوسلو عام 1993 , وعاد معه الآلاف من كوادر فتح العسكريين والسياسيين , انتقل معه من تونس أيضا عدد من المعارضين السوريين , كالمرحوم خالد الجندي الذي مات لاحقا ودفن في غزة , واصبح أول سوري يموت ويدفن في تراب فلسطين في العقود الاخيرة .

أمام هذه العلاقة الجدلية الازلية بين أم الحركات الفلسطينية المقاومة والمعارضة السورية لا يسعنا إلا أن نشعر بألم وأسف شديدين بسبب التراجعات المنهجية والمبدئية التي طرأت على خط فتح ومواقفها من القضية السورية في السنوات التي اعقبت وفاة القائد الرمز , ورئاسة السيد محمود عباس , لأن هذه التراجعات مثلت انقلابا جذريا عن سياسة ابو عمار المبدئية من نظام دمشق المعادي للشعب الفلسطيني والحليف لاسرائيل . ويسجل لعرفات أنه اول من صاغ نظرية تحالف المصلحة بين الطوائف الثلاث: اليهودية الصهيونية – العلوية والشيعية الفارسية – والمسيحية الانعزالية . وتنبأ منذ بداية الثمانينات بصعوده على حساب المكون العربي – السني .

بطبيعة الحال لم تكن مواقف عرفات من الاسد ونظامه شخصية أو مزاجية أو مرحلية , بل مواقف مبدئية كرستها تجاربه مع الاسد الذي قتل من الشعب الفلسطيني ربما أكثر مما قتلت اسرائيل في سورية أو لبنان, واعتقل الالوف منهم سنوات طويلة وخاصة بين 1982 – 1993 , وسعى بشكل ثابت لشق الوحدة الوطنية الفلسطينية , والسيطرة على قرارمنظمة التحرير لكي يساوم به اسرائيل واميركا . ولذلك يشكل الانقلاب عليها انقلابا على تراث أبي عمار وخط فتح العربي الثوري , خصوصا أن هذا الانقلاب تجاوز كل الحدود المقبولة بعد ثورة الشعب السوري عام 2011 وما ارتكبته قوات الاسد من جرائم ضد الفلسطينيين في مخيمي اليرموك وفلسطين بدمشق , وفي مخيمات اللاذقية وحلب وحماة . فقد ارسل ابو مازن رسالة تأييد وتملق واسترضاء للسفاح عام 2014 تزخر بعبارات تملق لا تليق برئيس فلسطيني, ومتجاهلا جرائم المخيمات الاخيرة , أو جريمة الاسد الاب في مخيم تل الزعتر 1976, ثم حرب المخيمات 1985 ومحاولات اغتيال الزعيم الفلسطيني الخالد التي كررها الاسد مرات ومرات .

للأسف لا بد أن نقول إن الذين اغتالوا أبا الشعب الفلسطيني ومؤسس ثورته وحركته الوطنية المعاصرة ليسوا اسرائيليين فقط بل إن بعضهم فلسطينيون جمعتهم مصلحة فاسدة بالاجهزة الاسرائيلية . ونخشى أن يغتال هؤلاء حركة فتح بعد اغتيال قائدها , وأن يصفوا ارثها ونهجها .

حركة فتح تعاني من ازمات بنيوية ومشاكل مزمنة , لن نخوض بها لأن اعضاء الحركة وكوادرها أولى بها وأقدر , وهي لا زالت وستبقى ركيزة الحركة الوطنية النضالية الفلسطينية . أما نحن فلم يكن يهمنا سوى أن ينجح مؤتمرها السابع في معالجة أزماتها وتجديدها , واعادة هيكلتها وبناء مؤسساتها الشرعية , وتصحيح خطها السياسي , ونؤكد على ثلاثة عناوين واستحقاقات مهمة :

الأول : تحاشي التحول الى ” حزب سلطة ” بينما الاحتلال ما زال جاثما على الضفة الغربية .

الثاني : عدم تصديق خيار السلام مع العدو , وتجهيز الحركة للعودة للنضال الثوري المسلح .

الثالث : التأكيد على هوية فتح العربية وعمقها القومي الثوري , وخاصة مع الشعب السوري باعتبار العلاقة معه لا مع نظام السفاح شأن استراتيجي ومصيري للطرفين .

إن مستقبل فتح يعد أولوية لكل القوى الثورية العربية , وفي صدارتها القوى السورية الوطنية والثورية التي سبق أن ربطت مصيرها بمصير المقاومة الفلسطينية , وهي تقاتل الآن محور الاسد – ايران – روسيا لتعزيز وتثبيت هذا التوجه في سورية بديلا عن خط نظام الاسد الحارس الامين للعدو والذي حول بلادنا بوابة للاجتياح الفارسي للدول العربية وهو حليف موضوعي واستراتيجي لهذا العدو .

ونحن على يقين أن القائد الشهيد الخالد لو كان حيا عام 2011 وما بعدها لزج بنفسه وبفتح في غمار ثورة شعبنا السوري بلا تردد , ودعمها وساندها بكل قوته , ولكن غيابه لا يمنعنا من تذكره والتذكير بمنهجه ومبادئه وخطه لعل وعسى أن يخرج من أجيال فتح الشابة من يعيد للحركة التاريخية الام وهجها القومي ومنهجيتها الثورية الناصعة , وإنقاذها من محاولات البعض لتحويلها حزب سلطة لاضفاء الشرعية على مجموعات الفساد والسلطة التي تعشش في انساقها العليا , خدمة لفئة من الفاسدين ورجال الاعمال والمساومين على القضية الفلسطينية .

.. هذا حتى لا يغتال عرفات مرتين.

تاريخ نشر المادة 3_ ديسمبر 2016

المصدر: صفحة محمد خليفة على الفيسبوك