في حين أنّ الاستراتيجية هي الفعل والحركة والديناميكية، وتحديد الفرص والتحديات، وحشد الإمكانيات والطاقات، واحتوائها في مشروع وهدف، ووضعها في إطار خطة لها مسارات محددة، فإنّ الوضع الاستراتيجي العربي في حالة سكون مدمِّر، أظهرته بشكل واضح الكارثتان السورية والفلسطينية. وقد أثبتت مداولات ووثائق القمم العربية حجم المأزق الذي وصل إليه العمل العربي المشترك، ومحدودية تأثيرنا كعرب في منطقتنا الممتدة من شواطئ الأطلسي إلى ساحل الخليج العربي.
إنّ المأزق العربي يتمثل في غياب بدائل لدى العرب خارج إطار السلام كـ ” خيار استراتيجي ” وحيد دون بدائل أخرى، واستعصاء العمل العربي المشترك وعدم تطوير آلياته، ما يجعل الطرف العربي في موقع الحلقة الأضعف بالمقارنة مع القوى الإقليمية الأخرى مثل تركيا وإيران وإسرائيل، التي تتمتع كدول قوية باستراتيجيات قابلة للتنفيذ.
وفي محاولة البحث عن أسباب هذا العجز العربي نجد أنّ النظام الإقليمي العربي تقاومه المصالح وتعطِّله الامتيازات والعادات والمجاملات، بل تحبطه ثقافة سياسية امتهنت التسويف، وتخشى النخبة فيه التصريح بما هو حقيقي مسايرة للجمهور الذي يحب أن يسمع الكلام المعسول والأماني الوردية و” هزيمة العدو شرَّ هزيمة “، وتسكره أحلام اليقظة وبشائر الوهم. وهذا النظام يبدو في حالة ضعف ووهن شديدين فيجد نفسه عاجزاً عن التعاطي المجدي مع الأزمات الكبرى التي تواجه الدول العربية، وإزاء ذلك تبدو الحاجة ماسة لإعادة صياغة النظام ومؤسساته، بما يتوافق والأوضاع الجديدة التي أضحت تمثل تحدياً كبيراً للأمة العربية ومستقبلها السياسي وكينونتها في الخريطة العالمية.
ولابدَّ أن نعترف أننا نفتقر رؤية واقعية للمستقبل، إذ لا يوجد لدينا مشروع موحِّد نجتمع حوله ونسعى لتحقيقه، وتلك هي المشكلة الكبرى التي نعاني منها وندفع فاتورة غالية ثمناً لها، بسبب العشوائية في القرار والارتجال في التفكير، فضلاً عن قصر النظر وغياب الرؤية.
إنّ أخذ هذه المعطيات والحقائق بالاعتبار يساعدنا على تحديد أولويات العمل العربي المشترك بدقة أكبر، ويوفِّر على جامعة الدول العربية الهروب إلى الجوار بدلاً من أن تركِّز جهدها على العلاقات العربية – العربية.
ففي الوقت الذي حققت فيه مجموعة من الدول إنجازات اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية كبرى، في كل من أوروبا (الاتحاد الأوروبي) وأمريكا (الآنديز) وآسيا (النمور الآسيوية)، فإنّ الدول العربية، على الرغم من الإمكانيات البشرية والاقتصادية المتاحة، فشلت في بناء تنظيم إقليمي قادر على التعاطي المجدي مع التحديات الداخلية والخارجية، مما يجعلها ضمن أكثر الأنظمة الإقليمية عرضة للتأثر السلبي بالتحوُّلات الدولية الحاصلة، على الأصعدة السياسية والاقتصادية والثقافية والعسكرية، خاصة بعد ما ستفرزه ” محرقة غزة “. فجامعة الدول العربية، التي تأسست قبل ظهور الأمم المتحدة والمجموعة الأوروبية، وصلت إلى حالة حرجة من التردِّي وعدم الفعالية، تعكس في العمق الأوضاع المزرية التي تعيشها الدول العربية. فاتخاذ القرار العربي المشترك يغلب عليه الطابع المركزي، وحتى القرارات المتخذة تظل في غالبيتها حبيسة الرفوف ولا تتاح لها إمكانية التنفيذ. والجامعة ما هي، في واقع الأمر، إلا تجسيد وتعبير مصغَّر عن الواقع المرير الذي تعيشه الدول العربية من نزاعات بينية وصراع على المصالح الضيقة، وغياب لممارسة ديمقراطية حقيقية.
إنّ إصلاح هذه المؤسسة، باعتباره أمر ملح وحيوي في عالم لم يعد فيه مكان للدول الوطنية بمفردها، يظل مرهوناً بإدخال مجموعة من الإصلاحات القاضية بدمقرطة اتخاذ القرارات فيها وتفعيلها، وباعتبار الدول الأعضاء أنّ الانتماء للجامعة ضرورة استراتيجية تفرضها التحدِّيات الداخلية والدولية لا ترفاً تقتضيه المجاملات الديبلوماسية، والتركيز أيضاً على التعاون والتنسيق، في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، باتجاه تعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان والرفاه الاقتصادي والاجتماعي للمواطن العربي.
إنّ التقدم له طريق واحد، يبدأ من نقطة الاتفاق على هدف، وأن تكون للهدف فلسفة يُبنى عليها، وما الذي نريد أن نصل إليه ونحقِّقه؟ وما هي إمكاناتنا ومواطن القوة والضعف لدينا؟ وما الذي ينقصنا؟ وكيف نعوِّضه ببدائل لدينا أو لدى غيرنا؟ وذلك في إطار منظومة عمل لها مدى زمني، تُرَاجَعُ فيه خطوات التنفيذ، ويُرَاجَعُ تقويم الأشخاص المكلَّفين بها.
إنّ الذين يعملون من أجل التقدم وفق مفهوم المشروع الحضاري العربي، يربطون عملهم قوة وصلابة بموقفهم في مكافحة التراخي، وضياع الحماس، والفتور، والتكاسل، وتضييع الوقت، وتقديم المصلحة الشخصية للقائم بالعمل – في مجاله – على المصلحة العامة، والتردد عن دعم جهد ودور الآخرين في مجالات عملهم الأخرى. وإنّ من أراد ألا يضيع منه الهدف، لابدَّ أن يحمل إصراراً استراتيجياً على بلوغ أهدافه، مهما تكن الصعوبات.
ومما يؤسف له أنه ليس للنظام العربي الرسمي مفاهيم موحَّدة حول موقع المنطقة وثرواتها وحاضرها ومستقبلها ولا حتى لماضيها، وليس له ما يخاف منه أو ما يقلق عليه، وليس لأطرافه الأولويات نفسها ولا حتى مجرَّد الهواجس والأمنيات نفسها.
إنّ ما يجب أن يقال وينفذ إلى صميم الوعي العربي الرسمي والشعبي، أنه لن يكون تقدُّم للعرب في هذا العصر، ولا تحسين لموقفهم حيال التحديات الإسرائيلية والدولية وحيال عصرهم كله إلا بعمليات إصلاح جذري وشامل لأوضاعهم الداخلية في كل مجتمع عربي. إنّ معركة إنقاذ فلسطين من براثن الصهيونية هي معركة إصلاح كل بنية عربية، من المحيط إلى الخليج، بالحرية وبالتنمية وبالكرامة، هذه حقيقة أصبحت ملحَّة وصارخة برسم كل حاكم عربي ومواطن عربي ولا بدَّ أن تنعجن بخبزنا اليومي كعرب إذا أردنا الفاعلية في صراع البقاء.
إنّ المرحلة القادمة تقتضي دون شك شحذ الوعي الاستراتيجي العربي بمفاهيم وأساليب وآليات جديدة للتعامل مع أزمات غير مسبوقة، وتحوُّلات نوعية متسارعة، وتحديات غير مألوفة، ذلك أنّ الأمر لا يتعلق بترميم نظام متداعٍ، وإنما بالاستعداد للانتقال المتأخر من مناخ المعادلة الدولية المندثرة، إلى آفاق معادلة دولية أخرى قيد التكوين.
المهم أن تفهم القيادات العربية أنّ لا مناصَّ من تغيير جذري في نوعية حكمها وتحكُّمها، وأن تفهم الشعوب العربية أنّ حقبة التذمُّر ولوم الآخرين حان زوالها، وأن تفهم تيارات التطرف أنها لن تكون قادرة على إلحاق الهزيمة الماحقة بالغرب، وأن تفهم تيارات الاعتدال أنّ هناك فرصة لها لتوظيف المنطقة الرمادية بين الواقعية والوقوعية.
إنّ الإشكالية التي نحن بصددها وليدة بُنى اجتماعية وفكرية مأزومة في الأساس، عكست مأزقها على صعيد السياسة وأنتجت إفرازاتها بتلاوين وعناوين مختلفة حسب البلدان، تتآلف وتتنازع على السلطة وتتنافس على المقدس ومفاتيح الجنة.
كفى تيمناً بمستجدات واهية وتذرُّعاً بالمؤامرات والأطماع الخارجية ستراً للعيوب وهروباً من معاينة المرض الذاتي المتفشِّي وضعف المناعة المتأتي من أسر التقليد والعيش على الأمجاد، وما المباهاة برفعة مزعومة بمواجهة الآخر المشيطن إلا حجاب أمة في خوف وانفصام. فعلى أهمية ميزان السياسة، من الوهم والتعويل على متغيِّراتها إلى الاكتفاء بالبحث والنقاش حول مدى صوابيتها، للخروج من نفق الأزمة البنيوية المتجذرة في ماضينا، حيث أنّ المعالجة الجادة تنطلق من جذور المسألة، وتحتِّم قراءة نقدية للمنظومة الاجتماعية/الفكرية السائدة وتخلُّفها الحاد عن مقتضيات الحداثة.
ومن خلال ما هو واضح وقائم يبدو أنّ معظم دولنا العربية تتعامل مع المستجدات يوماً بيوم من دون وجود خطة أو رؤية أو استراتيجية، وإلا لما كان وضعنا العربي في مثل هذه الحال من الهشاشة والتراخي والضعف والتمزق. وبالتالي فإنّ عدم وجود استراتيجية عربية واحدة تتعامل مع التهديدات التي نتعرض لها، وترك الساحة العربية في حال من الفراغ الاستراتيجي، سهَّلا على القوى الأخرى أن تتقدم وتضع أقدامها تحقيقاً لمصالحها.
فمتى يستحضر العرب مشروعاً جامعاً يوظف عناصر القوة العربية الكامنة، ويستفيد من تراجع الآخرين والتعامل الجاد والجماعي مع التحدِّيات للتعاطي المجدي مع أجندات ومشاريع الآخرين على أرضنا؟
يبدو أننا أمام خيارات حاسمة: إما أن نختار صراع الغابة، أو نختار دفء المجتمع المدني، إما أن نتقاتل في الشوارع أو نتخاصم في أروقة البرلمانات الديمقراطية والقضاء العادل، إما أن نتبادل القتلى والمشوهين والأسرى أو نتبادل الكتب وأجهزة الكومبيوتر، إما أن نختار صناديق الانتخاب أو نختار زنازين السجون، إما أن نجامل وننافق كل متطرف أو أن نواجه ونقول الحقيقة ونتحمل المسؤولية!! هذا ليس وقت التردد!! هذه لحظة الحقيقة.
غياب المشروع العربي الجامع لتوظيف عناصر القوة العربية الكامنة، والاستفادة من تراجع الآخرين والتعامل الجاد والجماعي مع التحدِّيات للتعاطي المجدي مع أجندات ومشاريع الآخرين على أرضنا ، لأن معظم الانظمة العربية تتعامل مع المستجدات يوماً بيوم لغياب خطة أو رؤية أو استراتيجية ذو بعد عربي ، لذلك يجب استحضار مشروعاً عربياً جامعاً يوظف عناصر القوة الكامنة والاستفادة من تراجع الآخرين والتعاطي المجدي مع أجندات ومشاريع الآخرين على أرضنا .