لطالما كانت القدس وفلسطين بوصلة العرب والمسلمين على طول المدى، وهي المحدد والمعيار لكل التحركات العربية الشعبية والرسمية، وعلامة من علامات مصداقية وصحة التوجه السياسي، واحتمالات نجاحه ووصوله إلى مبتغاه، ولقد أمسكت الأنظمة العربية دائمًا بهذه الأيقونة واشتغلت عليها في سياقات المزايدة المستمرة أمام شعوبها، لأنها تدرك مدى أهمية القدس والمسجد الأقصى المبارك وكل فلسطين لدى كل الشعوب العربية والمسلمة.
لكن إسرائيل ونتيجة قراءاتها العميقة لأوضاع الأنظمة العربية المتهالكة، والتي لم تعد ترجو إلا بقاءها ووجودها السلطوي، واستمرار تحكمها برقاب البلاد والعباد، ثم وضعها لكل بيضها وقرارها السيادي في سلة الخارج، وتحت رحمة الدول الكبرى ومصالحها الذاتية، جعل الكيان الصهيوني وحكومات إسرائيل المتتابعة وخاصة المتشددة واليمينية منها، تركن إلى مقولة مفادها أن كل شيء يمكن فعله في الواقع الفلسطيني والشعب الفلسطيني وحتى المقدسات الإسلامية ولن يكون بمقدور أي نظام عربي التحرك في مواجهته، بل إن بعض الأنظمة العربية مابرحت تهرول إلى إسرائيل تطلب ودها وترجوها من أجل فتح المزيد من العلاقات والتحالفات الإبراهيمية وسواها حفاظًا على كياناتها الآيلة للسقوط، وخوفًا من التمدد والأطماع الإيرانية في المنطقة بعد أن أصبحت إيران/ الملالي العدو الثاني للعرب، وما زالت تطمح إلى إعادة السيطرة على المحيط الإقليمي العربي وإعادة (مجد) المشروع الفارسي الطائفي والهيمنة على الدول العربية، وهو ما أنجزت منه الكثير وسط غياب واضح لأي مشروع عربي يواجهه أو يحد منه ومن طموحاته.
لم تدرك هذه النظم المهرولة نحو إسرائيل طالبة ودها وحمايتها من تمدد إيران، أن إسرائيل هي الأخرى صاحبة المشروع الخطير كذلك، الذي يستهدف كل الأمة وكل المحيط، وبدعم بيِّن وعلني من الأميركان والغرب عمومًا، وأن المستجير بإسرائيل لحمايته كالمستجير من الرمضاء بالنار، وأن إسرائيل لن تحمي أي نظام عربي، ولن يوقف عسفها وقمعها وقضمها للمقدسات العربية الإسلامية أي تحالف أو اتفاق، طالما أن هذه النظم ضعيفة، وغير قادرة حتى على مطالبة إسرائيل بوقف اعتداءاتها.
ولعل الاقتحامات الإسرائيلية المتتالية خلال شهر رمضان المبارك من قبل قطعان المستوطنين للمسجد الأقصى ضمن حماية مباشرة من قبل القوات الإسرائيليىة، وصولًا إلى اعتداءات يومية على المعتكفين العرب المسلمين داخل المسجد الأقصى يشي بأن إسرائيل تدرك تمامًا مستوى وحالة العجز العربي المقيم، والشلل الرسمي العربي الذي وصل إليه واقع النظام العربي الرسمي على مواجهة ذلك، أو حتى مجرد المطالبة بالحد منه، أو حماية المصلين الفلسطينيين من هذه الاعتداءات، ومن ثم حماية المقدسات المهمة جداً لكل المسلمين في العالم.
إن ما جرى من استمرار الاعتداءات الإسرائيلية على المعتكفين في المسجد الأقصى المبارك يعتبر جريمة من أبشع الجرائم، ويفترض ألا تمر دون توقف عندها ومعاقبة للأيدي الآثمة الإسرائيلية التي لايبدو أنها تكترث لكل تلك النداءات العربية والدولية الخجولة والتي لا ترتقي إلى مستوى وحجم الاعتداء الإسرائيلي، كما أنها تؤكد أن جلّ التفاهمات التي حصلت قبل ذلك في العقبة، وكذلك شرم الشيخ، عاجزة هي وكل من وقعها أو انتمى إليها من العرب على إيقاف هذه الاعتداءات.
السلطات القمعية الاحتلالية الإسرائيلية مع حكومة (نتنياهو) الأكثر تطرفًا ويمينية، تصر وتعمل بشكل ممنهج على الاستمرار في إنجاز اقتحاماتها للمسجد الأقصى خلال شهر رمضان المبارك، ضمن إدراك واضح لمستوى العجز العربي الرسمي، وهي لم ولن تحترم أماكن ومقدسات إسلامية تعتبر ثالث أقدس مكان قدسي ومهم للمسلمين بعد مكة المكرمة والمدينة المنورة، لأنها تعرف مستوى غياب الرد العريي والإسلامي الحقيقي.
ويبقى السؤال قائما ماالذي يجعل من إسرائيل متنمرة وعدوانية إلى هذا الحد؟ ومن ثم يخلق منها الكيان الذي لا يمكن إيقاف اعتداءاته على المصلين والأماكن المقدسة ؟ والجواب بكل بساطة: إنه العجز العربي المقيم، والذي لايملك من أمره شيئًا وهو منشغل بما هو مصلحي نفعي من أجل الحفاظ الأهم لديه على مكتسباته في إبقائه متربعًا على رمل سلطاته وحكوماته حتى لا تسقط كما سقط بعضها على وقع مظاهرات وهبَّات الربيع العربي في العقدين الأخيرين.
كما أن عودة النظام العربي الرسمي إلى خطب ود إيران والتفاهم معها وصولًا إلى التطبيع الأمني والدبلوماسي، وتحقيق متطلباتها ومصالحها في المنطقة العربية، وتمظهر ذلك أمام الصهاينة على أنه عجز وتهالك وضعف أمام المشروعين الأخطر في المنطقة تجاه العرب، وهما المشروع الإيراني والمشروع الصهيوني، كل ذلك يخلق البيئة المواتية كي تعبث إسرائيل وقطعان مستوطنيها عبثًا يوميًا بالمعتكفين من الرجال والنساء الفلسطينيين والدخول قسرًا إلى الحرم والاعتداء على المصلين دون أي حراك عربي جدي في مواجهة ذلك.
كما تدرك إسرائيل أنها قد أصبحت في ظل الاتفاقات مع بعض الدول العربية وتوجه الآخرين نحو إنجاز علاقات تطبيعية جديدة معها، أصبح قاب قوسين أو أدنى من الإنجاز، يدفع إسرائيل إلى الاستمرار مرتاحة في كل جبروتها وممارساتها الإرهابية ضد المصلين، وهي أي إسرائيل تعي تمامًا أن صواريخ حزب الله الخلبية، وصواريخ أخرى غبية، انطلقت من الجنوب اللبناني أو من الجولان، هي مجرد حركات لحفظ بعض ماء الوجه، وأن إيران التي تدعم حزب الله والنظام السوري غير قادرة وليست جادة في عملية فتح أي معركة مع إسرائيل كما أن إسرائيل لا تريدها الآن وسط حالة التفكك الداخلي الإسرائيلي، وبالضرورة فإن كلّ هذه التحركات المتكاذبة ليست جدية تجاه إسرائيل لأن إيران تتلقى الضربات الإسرائيلية اليومية مع نظامها الأسدي التابع، في كل الجغرافيا السورية، دون القدرة على التصدي، ولا النية في ذلك، فمعركتها ليست مع إسرائيل بل مع الشعوب العربية التي لم تعد تهادن إيران، وتعرف جيدًا أن الخطر الإيراني يوازي الخطر الصهيوني إن لم يكن يتقدم عليه.
إن عجز النظام العربي الرسمي عن الوقوف إلى جانب الفلسطينيين والأماكن المقدسة أضحى واقعًا يدركه القاصي والداني، وهو يؤكد يوميا ألا أمل يرجى بكل سياسات النظم العربية التي تتحدث عن حل ما للقضية الفلسطينية، هي أعجز من أي إمكانية لتطبيقها، أمام انحياز عالمي وأميركي إلى جانب إسرائيل، وفقدان وغياب المشروع العربي القوي الذي كان يفترض منه فيما لو وجد الاشتغال عمليًا على مواجهة إسرائيل وإيران، كخطرين داهمين يهددان مستقبلات العرب، بدلًا من الهرولة حثيثًا نحو التطبيع البائس مع إيران تارة، ومع النظام السوري المجرم تارة أخرى، ومع الكيان الصهيوني تارة أخرى وأخرى.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا