يعرف الفلسطينيون جيدًا أن المعركة الحالية ستعني إما مواجهة نكبة جديدة، مثل التطهير العرقي الذي تعرضوا له في العام 1948، أو بداية تقويض تداعيات تلك النكبة ذاتها وعكس وجهتها – كخطوة على الطريق في عملية تحرير الشعب الفلسطيني من نير الاستعمار الإسرائيلي.
* * *
فاجأت الأحداث الدراماتيكية المدمرة في فلسطين التي بدأت في 7 تشرين الأول (أكتوبر) الكثير من الناس. لكنها لم تكن مفاجأة بالنسبة للمراقبين اليقظين.
قليلون هم الذين توقعوا أن يهبط المقاتلون الفلسطينيون بالمظلات في جنوب إسرائيل في 7 تشرين الأول (أكتوبر). وأنه بدلاً من أسر جندي إسرائيلي واحد -كما حدث في العام 2006- سيجد مئات الإسرائيليين، بمن فيهم العديد من الجنود والمدنيين، أنفسهم أسرى في غزة المحاصرة.
ومع ذلك، كان السبب وراء “المفاجأة” هو نفسه الذي يجعل إسرائيل ما تزال تترنح تحت وقع الصدمة الجماعية: الميل إلى إيلاء اهتمام وثيق للخطابات السياسية والتحليلات الاستخباراتية التي تصدر عن إسرائيل ومؤيديها -مع إهمال الخطاب الفلسطيني إلى حد كبير.
ومن أجل تحقيق فهم أفضل لما حدث، دعونا نعُد إلى البداية.
الشرارة
دخلنا العام 2023 مع بعض من البيانات المحبطة والتنبؤات المظلمة حول ما كان ينتظر الفلسطينيين في العام الجديد.
قبل بداية العام مباشرة، قال مبعوث الأمم المتحدة للشرق الأوسط، تور وينسلاند، إن العام 2022 كان الأكثر عنفًا منذ العام 2005. وقال وينسلاند لمجلس الأمن الدولي: “الكثير من الناس، معظمهم من الفلسطينيين، قتلوا وأصيبوا”.
لكن هذا الرقم -171 قتيلا ومئات الجرحى في الضفة الغربية وحدها- لم يحظ بالكثير من التغطية في وسائل الإعلام الغربية. ومع ذلك، أحدث عدد الضحايا المتزايد أثرًا كبيرًا بين الفلسطينيين وحركات المقاومة المنتمية إليهم.
وبينما استمر الغضب والدعوات إلى الانتقام بين الفلسطينيين العاديين في التصاعد، استمرت قيادتهم في لعب نفس دورها التقليدي -تحييد الدعوات الفلسطينية إلى المقاومة، مع الاستمرار في “تنسيقها الأمني” مع إسرائيل.
واصل رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس (88 عامًا) إعادة صياغة اللغة القديمة حول حل الدولتين و”عملية السلام”، بينما قامت قوات “السلطة” بقمع الفلسطينيين الذين تجرأوا على الاحتجاج على قيادته غير الفعالة.
واضطر الفلسطينيون، الذين كانوا بلا حماية ولا دفاع في مواجهة حكومة إسرائيلية يمينية متطرفة ذات أجندة مفتوحة لسحق الفلسطينيين، وتوسيع المستوطنات غير القانونية، ومنع إقامة دولة فلسطينية، إلى تطوير استراتيجياتهم الدفاعية الخاصة.
تزايدت القوة والقبول اللذان تحظى بهما “عرين الأسود” -مجموعة المقاومة الفلسطينية متعددة الفصائل التي ظهرت أول الأمر في مدينة نابلس في آب (أغسطس) 2022. وظهرت مجموعات أخرى، قديمة وجديدة، على الساحة في جميع أنحاء شمال الضفة الغربية، بالهدف الوحيد المتمثل في توحيد الفلسطينيين حول أجندة غير حزبية، وفي نهاية المطاف إنتاج قيادة فلسطينية جديدة في الضفة الغربية.
دقت هذه التطورات أجراس الإنذار في إسرائيل. وتحرك جيش الاحتلال الإسرائيلي بسرعة لسحق التمرد المسلح الجديد، فداهم المدن والمخيمات الفلسطينية الواحدة تلو الأخرى، على أمل تحويل هذه الثورة الوليدة إلى محاولة فاشلة أخرى لتحدي الوضع القائم في فلسطين المحتلة.
وحدثت أكثر التوغلات الإسرائيلية دموية في نابلس في 23 شباط (فبراير)، وأريحا في 15 آب (أغسطس)، والأهم في مخيم جنين للاجئين. ويذكِّر الغزو الإسرائيلي لجنين في 3 تموز (يوليو)، من حيث الخسائر البشرية وحجم الدمار، بالغزو الإسرائيلي لذلك المخيم بالذات في نيسان (أبريل) 2002.
ومع ذلك، لم تكن النتيجة هي نفسها. في تلك المرة الأولى في العام 2002، اجتاحت إسرائيل جنين، إلى جانب مدن ومخيمات فلسطينية أخرى، ونجحت في سحق المقاومة المسلحة هناك لسنوات مقبلة.
أما هذه المرة، فقد أشعل الغزو الإسرائيلي شرارة ثورة أوسع في الأراضي الفلسطينية المحتلة، مما خلق المزيد من الانقسام في العلاقة المتدهورة أصلًا بين الفلسطينيين من جهة، وعباس وسلطته الفلسطينية من جهة أخرى.
في الحقيقة، بعد أيام فقط من إنهاء إسرائيل هجومها على المخيم، خرج عباس مع الآلاف من جنوده لتحذير اللاجئين الثكالى من أن “اليد التي ستمتد إلى وحدة الشعب وأمنه وأمانه واستقراره ستقَص من جذورها”.
مع ذلك، ومع استمرار الثورة الشعبية في بناء الزخم في الضفة الغربية، بدأت تقارير الاستخبارات الإسرائيلية تتحدث عن خطة أعدها نائب رئيس المكتب السياسي لـ”حماس”، صالح العاروري، لإشعال انتفاضة مسلحة.
كان الحل، بحسب صحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية نقلاً عن مصادر إسرائيلية رسمية، هو قتل العاروري.
في الواقع، كان انتباه إسرائيل واستراتيجيتها المضادة يتركزان بقوة على الضفة الغربية، حيث بدت “حماس” في غزة في ذلك الوقت، من وجهة نظر إسرائيل، غير مهتمة ولا معنية بخوض مواجهة شاملة.
ولكن، لماذا توصلت إسرائيل إلى مثل هذا الاستنتاج؟
سوء حسابات
وقعت العديد من الأحداث الكبرى، من النوع الذي يُفترض أن يكون من شأنه أن يدفع “حماس” إلى الرد، من دون أي ردّ مسلح جدِّي من قبل المقاومة في غزة.
في كانون الأول (ديسمبر) الماضي، أدت حكومة إسرائيل الأكثر يمينية في التاريخ اليمين الدستورية لتولي السلطة. ووصل الوزيران اليمينيان المتطرفان، إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، إلى المشهد السياسي بأهداف معلنة تتمثل في ضم الضفة الغربية، وفرض السيطرة العسكرية على المسجد الأقصى وغيره من الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية الفلسطينية -وفي حالة سموتريتش، إنكار وجود الشعب الفلسطيني نفسه.
وسرعان ما تُرجمت تعهداتهما إلى أفعال تحت قيادة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. كان بن غفير حريصًا على إرسال رسالة إلى دائرته الانتخابية مفادها بأن استيلاء إسرائيل على المسجد الأقصى أصبح وشيكًا.
وفي الوقت نفسه، اقتحم بنفسه مرارًا -أو أمرَ بشن غارات على- المسجد الأقصى بوتيرة غير مسبوقة. ووقعت أعنف هذه المداهمات وأكثرها إذلالًا في 4 نيسان (أبريل)، عندما تعرض المصلون الفلسطينيون للضرب على أيدي الجنود أثناء الصلاة داخل المسجد خلال شهر رمضان المبارك.
وعلى الأثر، هددت جماعات المقاومة في غزة بالانتقام. وفي الواقع، تم إطلاق عدة صواريخ من غزة باتجاه إسرائيل، وكان ذلك مجرد تذكير رمزي بأن الفلسطينيين متَّحِدون، بغض النظر عن مكان وجودهم في الخريطة الجغرافية لفلسطين التاريخية.
ومع ذلك، تجاهلت إسرائيل الرسالة، واستخدمت التهديدات الفلسطينية بالانتقام، و”هجمات الذئاب المنفردة” العرَضية -مثل هجوم مهند المَزارعة في مستوطنة “معاليه أدوميم” غير القانونية- كرأسمال سياسي لتحريض الحماسة الدينية في المجتمع الإسرائيلي.
وحتى وفاة السجين السياسي الفلسطيني، خضر عدنان، في 2 أيار (مايو) لم يبدُ أنها غيرت موقف “حماس”. بل إن البعض أشاروا إلى وجود خلاف بين “حماس” و”الجهاد الإسلامي الفلسطيني” بعد وفاة عدنان نتيجة إضرابه عن الطعام في سجن الرملة.
في ذلك اليوم نفسه، أطلق مقاتلو “الجهاد الإسلامي في فلسطين” الصواريخ على إسرائيل، حيث كان عدنان أحد أبرز أعضاء الحركة. وردَّت إسرائيل بمهاجمة مئات الأهداف داخل غزة، معظمها من منازل المدنيين والبنية التحتية، مما أسفر عن مقتل 33 فلسطينيًا وجرح 147 آخرين.
بعد ذلك تم إعلان هدنة في 13 أيار (مايو)، مرة أخرى من دون مشاركة مباشرة من “حماس”، مما منح مزيدًا من الطمأنينة لإسرائيل إلى أن هجومها الدموي على القطاع حقق أكثر من غرَض عسكري -ما يشار إليه غالبا باسم “جز العشب”- وإنما حقق هدفًا سياسيًا أيضًا.
ومع ذلك، ثبت أن التقدير الاستراتيجي الإسرائيلي خاطئ، تشهد على ذلك هجمات “حماس” المنسقة جيدًا في 7 تشرين الأول (أكتوبر) في جنوب إسرائيل، والتي استهدفت العديد من القواعد العسكرية والمستوطنات والمواقع الاستراتيجية الأخرى.
ولكن هل كانت “حماس” تستخدم الخداع؟ إخفاء أهدافها الاستراتيجية الفعلية تحسبًا لهذا الحدث الكبير؟
”فيضان هادر”
يُظهر فحص سريع لتصريحات “حماس” الأخيرة وخطابها السياسي أن الحركة الفلسطينية كانت بالكاد تتوخى السريّة بشأن عملها المستقبلي.
قبل أسبوعين من بدء العام 2023، في مهرجان أقيم في غزة في 14 كانون الأول (ديسمبر)، وجه زعيم “حماس” في غزة، يحيى السنوار، رسالة إلى إسرائيل: “سنأتيكم بطوفان هادر وبصواريخ دون عد، وبطوفان جنود دون حد، وبملايين من أمتنا مدًّا بعد مد”.
كان الرد الفوري على هجوم “حماس” في تشرين الأول (أكتوبر) هو التضامن الأميركي الغربي المتوقع مع إسرائيل، والدعوات إلى الانتقام، والتدمير الكامل وإبادة غزة، والخطط المنشطة الارامية إلى تهجير الفلسطينيين من غزة إلى مصر -وفي الحقيقة، من الضفة الغربية أيضًا، إلى الأردن.
أسفرت الحرب الإسرائيلية على القطاع، التي بدأت أيضا في 7 تشرين الأول (أكتوبر)، عن إيقاع خسائر غير مسبوقة مقارنة بجميع الحروب الإسرائيلية السابقة على غزة، بل في الواقع على الفلسطينيين في أي وقت في التاريخ الحديث.
وسرعان ما تم استخدام مصطلح “الإبادة الجماعية” لوصف ما يحدث، في البداية من قبل المثقفين والناشطين، وفي نهاية المطاف من قبل خبراء القانون الدولي.
في 13 تشرين الأول (أكتوبر)، كتب الأستاذ المشارك في دراسات الهولوكوست والإبادة الجماعية في جامعة ستوكتون، راز سيغال، في مقال بعنوان “حالة مثالية للإبادة الجماعية”. أن “هجوم الإبادة الجماعية الإسرائيلي على غزة صريح تمامًا، ومفتوح ولا يخجل”.
وعلى الرغم من ذلك، لم تستطع الأمم المتحدة أن تفعل شيئًا. وقال الأمين العام، أنطونيو غوتيريس، في 8 تشرين الثاني (نوفمبر) إن الأمم المتحدة “لا تملك المال ولا السلطة” لمنع إبادة جماعية محتملة في غزة.
في جوهره، عنى ذلك فعليا تعطيل الأنظمة القانونية والسياسية الدولية، حيث قامت الولايات المتحدة وحلفاء إسرائيل الغربيون الآخرون بعرقلة كل محاولة بذلها مجلس الأمن للمطالبة بوقف فوري ودائم لإطلاق النار.
ولكن، حتى مع ارتفاع عدد القتلى بين السكان الذين يتضورون جوعًا في غزة -حيث جميع المواد الغذائية غير متوفرة وفقًا لتقديرات برنامج الأغذية العالمي في 28 تشرين الثاني (نوفمبر)- قاوم الفلسطينيون في جميع أنحاء قطاع غزة.
ولم تقتصر مقاومتهم على مهاجمة الجنود الإسرائيليين الغزاة أو نصب الكمائن لهم فحسب، بل كانت في الواقع مبنية على صمود أسطوري لشعب رفض تهجيره السماح لعزيمته بأن تضعف.
الصمود
وقد استمر هذا الصمود، حتى عندما بدأت إسرائيل في الهجوم بشكل منهجي على المستشفيات والمدارس وكل مكان يُنظر إليه، في أوقات الحرب، على أنه “أماكن آمنة” للسكان المدنيين المحاصرين.
في الواقع، في 3 كانون الأول (ديسمبر)، قال مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان، فولكر تورك، إنه “لا يوجد مكان آمن في غزة”. وكرر هذه العبارة في كثير من الأحيان مسؤولون آخرون في الأمم المتحدة، إلى جانب عبارات أخرى مثل “غزة أصبحت مقبرة للأطفال”، كما أشار المتحدث باسم “اليونيسف”، جيمس إلدر، لأول مرة في 31 تشرين الأول (أكتوبر). ولم يترك هذا الواقع لغوتيريس أي خيار آخر سوى أن يستحضر في 6 كانون الأول (ديسمبر) المادة 99 من ميثاق الأمم المتحدة، التي تسمح للأمين العام “بلفت انتباه مجلس الأمن إلى أي مسألة قد تهدد في رأيه حفظ السلم والأمن الدوليين”.
كما امتد العنف الإسرائيلي والصمود الفلسطيني إلى الضفة الغربية أيضًا. وإدراكًا منه لإمكانية اندلاع مقاومة مسلحة في الضفة الغربية، سرعان ما شن الجيش الإسرائيلي غارات كبيرة ومميتة على عدد لا يحصى من المدن والقرى ومخيمات اللاجئين الفلسطينية، مما أسفر عن مقتل المئات وجرح الآلاف واعتقال آلاف آخرين.
لكن غزة ظلت مركز الإبادة الجماعية الإسرائيلية. وباستثناء هدنة إنسانية قصيرة من 24 تشرين الثاني (نوفمبر) إلى 1 كانون الأول (ديسمبر)، مصحوبة ببضع من عمليات تبادل الأسرى، فإن المعركة من أجل غزة -بل في الحقيقة من أجل مستقبل فلسطين والشعب الفلسطيني- ما تزال مستمرة بثمن لا مثيل له من الموت والدمار.
يعرف الفلسطينيون جيدًا أن المعركة الحالية ستعني إما مواجهة نكبة جديدة، مثل التطهير العرقي الذي تعرضوا له في العام 1948، أو بداية تقويض تداعيات تلك النكبة ذاتها وعكس وجهتها -كخطوة على الطريق في عملية تحرير الشعب الفلسطيني من نير الاستعمار الإسرائيلي.
في حين أن إسرائيل مصممة على إنهاء المقاومة الفلسطينية مرة واحدة وإلى الأبد، من الواضح أن تصميم الشعب الفلسطيني على الفوز بحريته في السنوات المقبلة يظل أكبر بكثير.
*رمزي بارود صحفي ورئيس تحرير مجلة “وقائع فلسطينية”. وهو مؤلف لخمسة كتب. أحدث أعماله هو “هذي السلاسل سوف تُكسر: قصص فلسطينية عن النضال والتحدي في السجون الإسرائيلية”These Chains Will Be Broken: Palestinian Stories of Struggle and Defiance in Israeli Prisons (مطبعة كلاريتي، أتلانتا). وهو زميل باحث أول غير مقيم في مركز الإسلام والشؤون الدولية (CIGA)، جامعة زعيم اسطنبول (IZU).
*نشر هذا المقال تحت عنوان: ‘We Will Come to You in a Roaring Flood’: The Untold Story of the October 7 Attacks
المصدر: الغد الأردنية/(كاونتربنش)