في سوريا، شدّد وزير الخارجية السوري، وليد المعلم، خلال مؤتمر صحفي عقد يوم أمس الثلاثاء 23 يونيو، على ضرورة “تحويل قانون قيصر إلى فرصة للنهوض بالاقتصاد الوطني، وتحقيق الاكتفاء الذاتي، وتعميق التعاون مع الأصدقاء والحلفاء في مختلف المجالات”.
لعل أكبر مصدر للصدمة ثم الدهشة من تصريحات المعلم هي تلك الصورة التي نقرأها في كلماته عن الوضع في سوريا، الذي يبدو طبيعيا للغاية. فلا يوجد أي دمار أو مهجّرين في الداخل والخارج، والدولة تقوم بواجبها على أكمل وجه، وملتزمة بدفع الرواتب لجميع الموظفين والعاملين في مؤسساتها، ولا يعاني الشعب السوري من غلاء المعيشة وانخفاض القيمة الشرائية للرواتب.. وكل الجلبة المثارة حول “قيصر” لا يراها المعلم سوى “فرصة للنهوض بالاقتصاد الوطني، وتحقيق الاكتفاء الذاتي”، فسوريا معتادة على “التعامل مع العقوبات الأحادية التي فرضت (عليها) منذ 1978 تحت مسميات عدة وصولا إلى ما يسمى قانون قيصر”.
هكذا بكل بساطة وأريحية!
لكن المعلم لم يخبرنا أن راتب المعلم أو الطبيب وصلت قيمته إلى ما يعادل 15 دولارا أمريكيا، بينما أصبح راتب العقيد في الجيش العربي السوري لا يتجاوز 40 دولارا شهريا. وتعامل الوزير مع الوضع السوري الراهن وكأن حاجة الشعب تقتصر على ربطة الخبز ، متجاهلا غياب الحد الأدنى من البنى التحتية من ماء وتدفئة وسكن ورعاية صحية، بعد أن دمرت 70% من هذه الخدمات.
إلا أن ما يلفت الانتباه حقا في المؤتمر الصحفي، ما يقرأه المرء من تعبيرات الدهشة والذهول على وجوه الصحفيين، الذين كانوا كمن يتابعون رائد فضاء عاد لتوه من كوكب القمر، بينما يحكي لنا عن حياة لا نعرفها، في مكان ما ووقت ما، ليس هنا والآن بالتأكيد.
إن كليشيهات المؤامرات الخارجية المحاكة ضد سوريا، والمزايدات الإنشائية حول دور “الصمود والمقاومة” لم تعد تسمن أو تغني من جوع. ولم تعد غالبية الشعب السوري تقتنع بها أو تقبلها. فالغالبية العظمى من الشعب السوري أصبحت على قناعة تامة بأن المخرج الوحيد لإنقاذ سوريا وشعبها هو الانتقال إلى سوريا جديدة بنظام آخر يشارك فيه الجميع على قدم المساواة لبناء اقتصاد وطني جديد، يحسن من أوضاع الشعب السوري، من أجل الخروج من الحالة الكارثية التي يعيشها الآن.
لقد تكلّس النظام الذي استمر حوالي 50 عاما، وآن أوان التغيير الحقيقي لنظام الحكم في سوريا.
ولأكون صريحا، فإن هذا النظام لم يعد مقبولا من غالبية الشعب السوري، وكل محاولات عرقلة النظام لتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 2254، أو الالتفاف حوله، أو إيقاف عجلة التاريخ عند لحظات بعينها، لن تطيل من عمر النظام أكثر من بضعة أشهر. وما نقرأه من المؤتمر الصحفي لوليد المعلم هو أن النظام في دمشق لا ينوي القيام بأي خطوات جدّية للمشاركة في الانتقال إلى مرحلة جديدة في سوريا كما نصّ عليها قرار مجلس الأمن رقم 2254، وأن الوضع الحالي مريح ومناسب بالنسبة لهذا النظام.
يتوهّم القابضون على زمام الحكم في دمشق أن روسيا ستضطر لدفع المليارات لدعم النظام في دمشق أمام مواجهات التحديات الأمريكية، ممثلة في القيود الاقتصادية الجديدة التي ينص عليها “قانون قيصر”، بل إن بعض الشخصيات السورية في دمشق تعتقد أن من واجب روسيا ضخ تلك المليارات ثمنا للدور الكبير الذي قدمته القيادة في دمشق لخدمة توجهات السياسة الخارجية الروسية، والتي أعادت لروسيا مكانتها على الصعيد الدولي، بفضل سوريا وسماحها باستخدام ميناء طرطوس كقاعدة عسكرية لتأمين احتياجات الأسطول الروسي في البحر الأبيض المتوسط؟!
كذلك هناك من يراهن من السوريين على أن مناطق شمال وشرق سوريا ستنتعش اقتصاديا بسبب ضخ الولايات المتحدة الأمريكية وتركيا أموالا ضخمة لدعم سيطرتهم عليها، بينما ترزح بقية الأراضي السورية تحت وطأة البؤس والفقر والمشاكل التي ستنفجر جنوب البلاد، وبدأت بوادرها تطفو على السطح فيما نراه من مظاهرات يومية في السويداء، واعتقال 8 نشطاء سياسيين، بالإضافة إلى بعض التوترات في مناطق حوران ومدينة درعا، بل إني أعتقد أن المظاهرات التي اندلعت، الأحد 21 يونيو، أثناء تشييع جثامين 9 شباب قتلوا بحادث تفجير بالقرب من درعا، قد تكون شرارة لن تهدأ بعدها الأحوال في الجنوب السوري، إلا بعملية تغيير حقيقة. على الجانب الآخر هناك من يرى أن مسؤولية تمويل هذه المناطق، حفاظا على سيطرة النظام في دمشق، تقع على عاتق روسيا وإيران، وبالتالي فلا داعي لإجراء أي تغييرات في سوريا، والاستمرار على النهج الحالي، حتى لو أدى ذلك إلى تقسيم سوريا إلى ثلاث أو أربع دول، مقابل مصالح سياسية أو حتى شخصية ضيقة. أي ألم وأي حسرة تصيبني وأنا أكتب هذه العبارة! لكنه، ومع الأسف الشديد، الواقع الذي تعيشه سوريا، وقد وصلتني رسائل بهذا المضمون من شخصيات متواجدة في دمشق، تسعى لتوريط روسيا، وجعلها رهينة للأزمة السورية، متجاهلة كل ما قدمته روسيا من موارد وجهود وأرواح، وكل ما قامت به بمشاركة مجموعة أستانا، وهو ما حمى سوريا ولا زال يحميها من مصير الدولة الفاشلة.
إن سوريا لن ترى بريقا لأي أمل بتحسين وضعها وإنهاء معاناة شعبها دون شروع فوري في عملية الانتقال السياسي، ما يسمح للمجتمع الدولي بالبدء في المشاركة الجماعية الدولية في ضخ المليارات لإعادة إعمار سوريا، وعودة الأمور إلى طبيعتها. وكل ما هو دون ذلك ليس سوى انتحار للنظام الحالي في دمشق وإطالة أمد معاناة الشعب السوري.
في ليبيا، تتأزم الأوضاع بشكل أساسي لرفض قائد “الجيش الوطني الليبي”، المشير خليفة حفتر، التوقيع على اتفاق وقف إطلاق النار، 14 يناير الماضي، بعد أن بادرت القيادة الروسية بدعوة أطراف النزاع الليبي إلى موسكو، ولا أريد الدخول في تفاصيل المبادرة الأخرى التي قامت بها برلين بعد ذلك، ولكن من الواضح أن رفض حفتر التوقيع في موسكو، على الرغم من المحاولات المكثّفة والمضنية التي قامت بها شخصيات روسية مسؤولة إلى وقت متأخر في الليل بالفندق الذي تواجد فيه وفد حفتر، كان له أثر واضح في تدهور الأوضاع بالنسبة للمشير. فمنذ ذلك التاريخ (ما يقرب من ستة أشهر الآن) والمعارك مستمرة، في ظل تطورات سياسية وعسكرية على الأرض، بعد أن دخلت مذكرة التفاهم بين تركيا وحكومة الوفاق الوطني الليبية بشأن التعاون الأمني والعسكري حيز التنفيذ الفعلي على الأرض. وذلك في الوقت الذي تحظى فيه حكومة الوفاق الوطني عمليا باعتراف من قبل مجلس الأمن، وعلى الرغم من اختلاف وجهات النظر، إلا أن تلك تبقى حقيقة تجعل من الصعب توجيه اللوم إلى تركيا بمخالفة مبادئ وقوانين الأمم المتحدة في بناء علاقات مع الدول الأخرى. بل أضيف أن أولوية استفادة تركيا من علاقاتها مع جارتها ليبيا على البحر الأبيض المتوسط تعود إلى عدة أسباب، من بينها أسباب تاريخية، وأخرى دينية، وكذلك فإن تركيا، التي لا تتوفر على أراضيها آبار للنفط، في أمس الحاجة إلى علاقات اقتصادية مع جارة غنية بالنفط مثل ليبيا، وكذلك الحال بالنسبة لمصر، وعلى أقل تقدير فإن لتركيا ومصر الأولوية عن فرنسا أو إيطاليا أو حتى الولايات المتحدة الأمريكية للتنافس على علاقات اقتصادية متميزة، وعلاقات حسن الجوار على جميع الأصعدة مع ليبيا.
وقد أظهر السياسيون في حكومة الوفاق الوطني، مطلع هذا العام في موسكو، مرونة وانفتاحا، بتوقيعهم على اتفاق وقف إطلاق النار، بينما رفض حفتر، لتصبح النتيجة خسارته الكثير من المواقع والأراضي التي كان يسيطر عليها، وأصبحت من بين نتائج تعنته صعوبة إقناع الطرف الآخر بوقف إطلاق النار في ظل الظروف الميدانية الجديدة، وبعد أن أصبح السراج يحظى بتأييد ودعم لا سقف له من حليف قوي مثل تركيا، الدولة الإقليمية الكبرى.
اليوم يتعين على حفتر وضباطه أن يدركوا أن ميزان القوى لم يعد في صالحهم، ويجب ألا تخدعهم أوهام بناء تحالف عربي يمكن أن يغيّر موازين مسرح العمليات العسكرية على الأرض. لابد للمشير خليفة حفتر ورفاقه أن يسعوا للتصالح فورا ودون أي شروط مسبقة مع الطرف الآخر، بغرض خلق أرضية لمصالحة وطنية في ليبيا، تشارك فيها أيضا العشائر والقبائل، لإنهاء معاناة الشعب الليبي. فهل يعقل أن يتعرض الليبيون إلى الموت من برد الصحراء الشتوي وليبيا من أغنى بلدان العالم بالنفط الخام. أتصور أن على رأس الأولويات التي يتعيّن على جميع القيادات الليبية وضعها في الاعتبار هي إنقاذ الشعب الليبي، الذي يعاني الفقر والموت اليومي من المرض والجوع، بينما يمتلئ باطن أراضيهم بكنوز هائلة.
في فلسطين، يبرز الوضع الجديد الذي حل بالقضية الفلسطينية نتيجة لإعلان الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، عن صفقة القرن، 28 يناير الماضي، ثم خطة نتنياهو لضم المزيد من الأراضي الفلسطينية، التي ينوي البدء بتنفيذها، وكل ذلك ليس جديدا على الفلسطينيين. فمخططات تصفية القضية الفلسطينية والنيل من حقوق الشعب الفلسطيني قديمة ومستمرة. لكن الجديد في تاريخ النضال الفلسطيني هو ذلك الانقسام الفلسطيني المؤلم الذي نراه اليوم، والعجز عن استعادة الوحدة الفلسطينية، وأؤكد هنا أن هذا الانقسام وما يجري على الساحة الفلسطينية هو أخطر بكثير من كل المخططات الأمريكية والإسرائيلية التي تحاك ضد القضية الفلسطينية. فثوابت القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني مثبتة دوليا بقرارات الأمم المتحدة، ومهما تم التعدّي على الأراضي الفلسطينية أو اقتطاع أجزاء منها، فإن الحق الفلسطيني سيعود يوما ما للشعب الفلسطيني. لكني لا أعرف كيف ستسجل القيادات الفلسطينية سلوكها الحالي في تاريخ النضال الفلسطيني، بينما تعجز في ظل الظروف العصيبة الراهنة عن تجاوز الخلافات، واستعادة اللحمة الوطنية الفلسطينية. وأكتفي هنا بالقول بأنه لا يوجد أي مهمة أو نشاط على جميع الأصعدة الدولية لمواجهة مخاطر المرحلة الراهنة أهم من استعادة الوحدة الفلسطينية.
في اليمن، يعيش الشعب اليمني أكبر مأساة إنسانية في العالم، وبدلا من الخوض في تفاصيل وتحليلات للوضع وتاريخه والأسباب التي أدت إلى ما آلت إليه الأوضاع الراهنة، سوف أكون صريحا لأبعد الحدود.
إن حل مشكلة اليمن بيد مجلس التعاون الخليجي وحده. فالمجلس هو من بإمكانه إنهاء معاناة الشعب اليمني، والتوصل إلى اتفاقات بين جميع الأطراف اليمنية، بما في ذلك العشائر. قطعا سوف يحتاج ذلك إلى موارد مالية ضخمة، إلا أن المجلس لديه تلك الإمكانيات، وباستطاعته وقف نزيف الدم المستمر هناك لسنوات. ولن تتحرك قضية اليمن قيد أنملة دون توفر إرادة سياسية خليجية ترغب في وضع حد للأزمة اليمنية. لقد آن الأوان لإنهاء حالة العداء والتوتر مع إيران، والسعي لبناء علاقات حسن جوار على أساس الاحترام المتبادل، ما سيساهم في حل الكثير من الأزمات في اليمن والعراق وسوريا ولبنان وغيرها من الأزمات التي تخص دول الخليج أيضا.
أما في الجامعة العربية، فقد لفت انتباهي خبر يفيد بأن مصر طلبت عقد اجتماع طارئ لمجلس جامعة الدول العربية بشأن ليبيا!
كان مثار الدهشة في أن مبادرة كهذه لم تحدث بشأن مواجهة مخططات الضم الإسرائيلية للضفة الغربية، أو لمساعدة الشعب السوري لمواجهة الآثار الكارثية لـ “قانون قيصر” على تدهور أوضاعه المعيشية، أو لمعالجة الأزمة المالية الكارثية التي تواجهها لبنان اليوم. وبدلا من أن تبادر مصر بعقد اجتماعات وجلسات طارئة حول القضايا الحيوية الملحة لملايين العرب في فلسطين وسوريا واليمن ولبنان والعراق، تحاول أن تزج بالجامعة العربية في صراع جديد مع تركيا. فأي منطق هذا؟
من الواضح أن الدفع نحو توتر العلاقة مع تركيا اليوم سوف ينعكس بشكل مباشر على توتر العلاقات بين الدول العربية، وستكون له تبعاته الإقليمية والدولية. وأشير هنا إلى المبادرة الأخيرة التي طرحها الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، للمصالحة بين الأطراف المتصارعة في ليبيا، والتي لاقت تأييدا من موسكو، وقبلها محاولة برلين بهذا الصدد.
إن مثل هذه المحاولات الدبلوماسية، والاعتماد والتركيز على الأرضية التي وضعتها هيئة الأمم المتحدة لحل الأزمة الليبية لابد وأن تكون الطريق الوحيد للبحث عن حلول لهذه الأزمة. أما أن تتحول الجهود حال فشلها إلى مناوشات إعلامية، وتلاسن على مواقع التواصل الاجتماعي، ثم حشود عسكرية على الحدود فهذا أمر خطير ومرفوض، وقد تكون عواقبه وخيمة على كل القارة الإفريقية ومنطقة الشرق الأوسط بأسرها.
تعليق على مقال رامي الشاعر.
د. مخلص الصيادي
الكاتب هو رامي محمد الشاعر الفلسطيني السوري والحامل للجنسية الروسية، والمسمى في موسكو خبيرا في شؤون المنطقة، وهو بحدود ما يمثل وجهة نظر القيادة الروسية فيما يجري في منطقتنا، أو بشكل أدق، يمثل وجهة النظر التي تريد موسكو تصديرها للقوى السياسية العربية، بغض النظر عما إذا كانت هي بالفعل وجهة النظر التي تلتزمها أم أنها للتصدير فقط.
ومن هذه الزاوية فالكاتب روسي الرؤية، لذلك فأساس موقفه من النظام السوري في هذه المرحلة موقف ناقد، وليس معارض، وهو يقيم علاقات تجارية ومالية مع أطراف النظام. وبالتالي فهو جزء من المنظومة المالية التي تتغذى من سياسات بوتين.
القراءة له، ومتابعة ما يكتب مهم من هذه الزاوية، فهو بالتأكيد صوت من أصوات بوتين ولا يصدر عنه أي نقد أو مراجعة أو تشكيك لمواقف سيد الكرملين.
ما يقدمه في هذا المقال مهم لأنه مقدم في مرحلة حرجة في محيط الأزمات العربي، وفي كلها فإن لليد الروسية وجودها وأثرها المباشر أو غير المباشر