ليس من قبيل التندر ولا الصدفة أن نتوقف قليلاً أمام أنفسنا، ويقوم كل منا بمراجعة للثورة في شتى مراحلها وتحولاتها، خصوصاً بعد الارتجال الذي وسم تطوراتها الأولى المدفوعة بتصور أن الدول التي ساعدت في إسقاط الأنظمة الشمولية في تونس ومصر وليبيا؛ ستساعد الشعب السوري في انتفاضته ضد الأسد، وسرعان ما اتضح أن الأسد جزء من منظومة مشتغل عليها بدقة، وأن بقاءه ليس أزمة تواجه القوى الدولية بقدر ما هو أزمة يراد استثمارها وإدارة مصالح دولية كبرى عبرها، وهنا يصبح التفكير بين السوريين بالتأسيس الداخلي للحريات والحقوق ورتق الجراح بعيدا عن موجات الإعلام والتسويق والتحشيد ضرورةً حتمية؛ بل ثورةٌ حقيقية تطال الفكر والممارسة وروح العمل الجماعي المتطلب تأسيسها أو تنقيحها مما شابها.
وكي لا نسقط في فوهة التنظير علينا أن نتلمس وبعد اثني عشر عاماً من الثورة؛ مسيرة أخطائنا و عثراتنا ومناقشة عوامل العطالة الذاتية لمحاولة تجاوزها، فقد خبا صوت الرصاص، وصوت الإعلام التحشيدي لرفع المعنويات؛ تلك التي كانت تشعل المظاهرات وتستجيب لها أرواح شبابنا كأعلى مثال عن العين التي تقاوم المخرز وتهزمه بالصراخ والهتاف، كما قد توقفت بطريقة ما طاقات التمويل والدعم النظيف التي تبنت حراك الإعلام ونسيت حراثة الفكر وتحرير الثقافة ومنهج البناء، وصار لزاماً على ذاك الدعم أن ينحسر إلى سد رمق الأرامل وذوي الشهداء والمعتقلين.
وفي أطر العمل السياسي والثقافي ذي المدلول السياسي كان هناك نظرياً الكثير من شعارات التعدد والحريات وتمكين المرأة، ورغم أهمية الشراكة السياسية والثقافية التي لابد وأن تبدو انعكاساً لذاك الحراك المدني في المظاهرات والذي اشترك فيه الجميع، لكن الحراك السياسي في مؤسسات الثورة اتخذ شكلا آخر ربما كان للقوى الدولية الأثر الوازن فيه؛ مما حكمه بالبعد عن الشارع وإمكاناته والطوباوية السياسية وربما الشطح الذي لم يحدث أثراً لا في العير ولا في النفير، ولعل مروراً بسيطا على حق اشتراك المرأة في التمثيل السياسي والعمل الثوري، وربما اشتراطه في بعض الأحيان يؤكد كونه محكوما برغبة دولية أو رؤية تسويقية، لكننا نلحظ في المحصلة نشوء حركة نسوية بعجرها وبجرها صارت تتحرك في فضاءات مختلفة وتنتشر بين الناس ويتبناها المثقفون في شتى المواقع والمواقف، وقد بدا كأن الأمر يتطلب اتخاذ موقف رمزي يزكي حملته ليجعلهم في موقف الثقافة والتنوير.
كما أن جرداً بسيطاً لمسيرة العمل السياسي توصلنا إلى بنية هشة واحتكارية عاشتها الكتل السياسية فيما بينها وعاشتها كل كتلة داخلياً فيما بين شخصياتها كما أوضحها د. برهان غليون في شهاداته في كتابه “عطب الذات”، غير أن أحدا لم يفكر في جهد الشباب الذي بنيت عليه الثورة، وأن أطفال الثورة قد غدوا شبابا وأن شبابها قد غدوا متقاعدين عن روح شبابهم؛ بسبب تزاحم متقاعدي السياسة وحكمائها على التصدر والاستئثار؛ رغم إمكان أن يكونوا شيوخها الكهول بما في تجربتهم من حكمة ورصانة.
إن الشعوب التي تجاوزت نخبها في الربيع العربي في المظاهرات والمطالب الإنسانية التي علت على عقد الطوائف والمذاهب والتشتت والتطييف، عانت من تحييد الطاقة الحقيقية التي كانت وقود الثورة وهي جيل الشباب فهل صار عليهم العمل لتشكيل حركة شبابية أو ظاهرة تشبه الحركة النسوية تستخدم ضخاً إعلامياً واهتماماً حقيقياً ليصار إلى إنصافهم، أو تكليفهم بما هم منذورون له، وإعطائهم فرصة أن يعبروا عن طموحهم ورؤاهم وأفكارهم بلا وصاية من أحد؟، لاشك أن رفع حالة الإزاحة التي مورست ضدهم ستكون مثمرة لأنها ستفرز فيما بينها نخبا جديدة تستوعب تطورات المرحلة وآلامها وشتى احتمالاتها وهي التي ولدت من رحم الثورة ورفعت صرحها بالدماء.
إن التصلب الفكري المبني على التفرد باتخاذ القرارات والتحزب وضعف الرؤية وضيق الأفق واحتكار العمل السياسي وادعاء نخبويته ونخبوية العاملين فيه، أساس لما نشاهده من انقسامات فكرية سياسية ومدنية محلية تشكل العائق الأكبر للنهوض بالمؤسسات المدنية والأهلية والسياسية وتقف سدا بوجه جيل من الشباب السوري الواعي الذي يسعى جاهداً لاستيلاد مرحلة وطنية.
فلنواجه أنفسنا بوضوح وشجاعة، سورية التي بذلنا لأجلها خيرة أبنائنا وأعمارنا تنتهك الآن من شتى القوى الدولية وتحتضر، وهذا الكلام واقعي منطقي لا يختلف عليه اثنين؛ ومن هنا لا بدا لنا من إشراك الشباب السوري في عملية إنقاذية لا مهرب منها، بهدف إنعاش الواقع الذي تمر به المرحلة الراهنة في المشهد السوري، ولا بد لنا من التيقن بنجاح المساعي الشبابية المبنية على فكرة النهوض بدولة قوية ذات سيادة وطنية منتعشة اقتصادية متلاحمة، فهم وقود الدول وقوتها وحماتها الذين يبذلون الغالي والنفيس في سبيل تحقيق أهدافهم السامية، التي من شأنها نقل أي بلد محطم مدمر منهار بكل ما تعنيه الكلمة إلى بلد مزدهر، وهم الوحيدون القادرون أن يحولوا هذا البلد إلى قصة نجاح تتوج كل هذه التضحيات، آلاف الخريجين الجامعين من حملة شهادات العلوم السياسة، والحقوق، والاقتصاد، والإدارة وغيرها، الكثير ممن يحملون الفكر الثوري، والقادرون على تغيير الوضع الراهن في حال أتيحت لهم الفرصة للخوض فيما هو دور لهم، من شبابنا خريجي جامعات الشمال السوري المحرر كخريجي جامعة حلب الحرة الذين حصلوا على شهاداتهم بجدارة، وبقيت ملقاة في صناديق مكاتبهم المنزلية أو معلقة على حائط دون العمل بها، ولعل بعضهم علقها على حائط الخيمة لئلا يمحي حبرها مطر الشتاء.
وقد يقول قائل بضرورة وجود تجربة العمل الثقافي والسياسي لدى الشباب، لكن المقولة تشابه مقولة من يصرح بأن شعوبنا ليست مؤهلة للديمقراطية ويريد قيادتها، في حين أن العمل السياسي والديموقراطي يحتاج ثقافة ديمقراطية وبنية عمل مؤسسي، وبيئة تداول للأفكار بتعبيراتها مختلفة، ومجالات العمل عليها؛ لتشارك في عملية حيوية تفرز خبرات وأنساقا من المهتمين بالعمل الوطني، غير المنفيين في المنافي أو على الأرض خارج أطر التمكين في إبداء الرأي والتعبير وطرح الحلول؛ التي مهما بدت شاطحة ستكون تجارب تصقل أبناءنا وتعمل على تهيئتهم، مثلما واجب كل الآباء تربية الأبناء وتهيئة البيئة والمجتمع ووسائل الحياة الحقيقية لهم ليقوموا بواجبهم تجاه شعوبهم وأوطانهم، وهم ليسوا بحركة انقلابية تقصي أحدا بقدر ما هم ذخيرة لابد من تهيئتها عبر تبادل الخبرات وصقل مهاراتهم بدلاً من التشرد في المنافي أو الاعتزال الكلي مادام الاحتكار سيد الموقف.
إن تمكين الشباب السوري هو المسار الوحيد الكفيل بالقضاء على نهج النظام وأجهزته، وإحكام السيطرة على مفاصل الدولة بكل قوة وثقة وحزم في اليوم التالي لمغادرة الأسد، إذ لا يخفى على الساسة أن هذا النوع من الحكومات أنفع ما يكون في وقت الأزمات، أو بعد الحروب والثورات، وإن أردنا إثبات نجاح التكنوقراطية؛ فسنغافورة من البلدان التي طبقت هذا النوع من الحكم لتحصل على المرتبة 11 في التنمية البشرية للأمم المتحدة في عام 2019. كما أن أيًا من قادتنا وساستنا سيحلم أو ينظّر لبناء سورية القادمة ويستفيد من تجربة رواندا التي خرجت من حرب أهلية مثقلة ومنهكة ونهضت كقوة إقليمية وصناعية واقتصادية بجهود أبنائها؛ ولا شك لا يمكن له أن يتجاوز قيمة الشباب وطاقاته للبناء القادم، وإن كان من أحد يدعي أبوته للثورة فإن الثورة أحق بأبنائها وأحوج.