صارت عملية طوفان الأقصى بمثابة حدثٍ تاريخيٍّ، يُحدّد من قبله وما بعده. كانت النظرية السائدة في محور المقاومة هي وحدة الساحات، وفُعِلت نشاطاتها بشكلٍ يشكّك بتماسكها عبر مناوشاتٍ، كما على الحدود في لبنان، وإطلاق بعض الصواريخ في اليمن، ومحاولة احتجاز السفن طالما غزّة محاصرة وتُقصف، وهذا مهم، وإلى ضرباتٍ صاروخية محدودة في العراق على القواعد العسكرية الأميركية، ولكن المفاجأة كانت الساحة السورية، فهنا بالكاد سمعنا عن صواريخ أُطلقت باتجاه دولة الاحتلال من بلدات درعا أو القنيطرة وبعضها ضد القواعد العسكرية الأميركية من شرق سورية، ولم تتأخر تلك الدولة بقصف مواقع تلك الصواريخ، والاستمرار بإخراج مطاري دمشق وحلب عن الخدمة برسالةٍ واضحة ودقيقة، لن نسمح لإيران باستخدامهما، وأنّ أيَّ تورطٍ بالحرب ستكون نهايته إسقاط النظام، وهدّدته بذلك.
يعلم النظام اليقظ للغاية لوضعه الهشّ أنَّ تماسك وحدته مرتبط بالتبعية لإيران أولاً ولروسيا ثانياً، وليست لديه أيّة مصادر للتماسك وللشرعية من السوريين، لا سيما أن “حاضنته” من العلويين بصفة خاصة أصبحت تفضّل الصمت أو الهجرة، كما بقية السوريين، وأوضاعها الاقتصادية والاجتماعية لا تسمح بأكثر من ذلك. النظام هذا لم يستفد من مبادرة العرب للاتجاه نحو التصالح معهم ومع المجتمع، والحفاظ عليه، كما لم يستفد من الضغط الروسي للتقارب مع تركيا؛ إن سياسته محدّدة بالعودة إلى حكم سورية كما قبل 2011، وتدعم ذلك إيران، التي استفادت من سماح أميركا لها بالتمدّد إلى المنطقة العربية بعد غزو العراق 2003، وحتى بعد الثورة السورية 2011، ومحاولة فرض سيطرة كاملة على سورية، كما في العراق ولبنان واليمن.
النظام المتعفّن هذا متعفنٌ لأنّه غير قادرٍ على إحداث أيّ تغييرٍ في الوضع الاقتصادي أو الاجتماعي، أو استعادة أيّة منطقة تَفرض الدول المتدخلة سيطرتها عليها، “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، الفصائل، هيئة تحرير الشام، وإن فَعَلَ فبموافقة تلك الدول، والآن خرجت السويداء من يده، ولا تزال درعا غير مستقرّة، وفي الأيام الأخيرة فرض حصاراً وللمرّة العاشرة على بلدة جاسم، والمقصد هنا أنه لا يمتلك أيّة سياسة أو إمكانية للنهوض بأيّة منطقة في سورية؛ ونوضح أكثر، فلو قرّرت الاحتلالات الانسحاب من سورية، وفُتحت صنابير المال للنهوض، فلن يتحقّق النهوض؛ فبنتيه محكومة بالفساد والنهب والقمع، وهذه أصبحت بمثابة قانون يُسيره. وبالتالي، لا بد من تغييره لتنهض سورية؛ هذه الحقيقة، أصبحت ممسوكة بيد الدول المتدخلة بالشأن السوري، ولهذا نجده صَمت عن العدوان على غزّة، إذ إن أيّ تهديدٍ جديٍّ، ومن أية دولة، كفيل بإنهائه سريعاً، وتظلُّ المشكلة أن تغييره أصبح قضية إقليمية ودولية.
أصدر الرئيس السوري، أخيراً، مرسوماً يتضمّن تشكيل الأمانة العامة لرئاسة الجمهورية، وكالعادة اختلف المعارضون في تفسيرها، إيجاباً، حيث رأوا أن التغيير بدأ منها، وسلباً، حيث رأوا أنّها لا تقدّم ولا تؤخّر، والأخير هو صحيح؛ فهو من جملة المراسيم التي أصدرتها الرئاسة السورية منذ عام 2000، أي لصالح تعزيز موقع الرئاسة؛ فمن رَفض المبادرات المصمّمة لإنقاذه بالمعنى الدقيق، العربية والروسية، وحتى سوتشي، واللجنة الدستورية، لن يُصدر مرسوماً لتفكيك سلطته. وفي حال تمَّ ذلك، سيكون عبر وجود أجنبي في القصر الجمهوري نفسه، وسوى ذلك من الأوهام، التي لطالما غرّدنا بها، نحن السوريين، جماعات وأفراداً. وبالتالي، لا يستحق هذا المرسوم أية قراءة إيجابية، كأن يقال إن أوامر الصرف أصبحت بيد الأمين العام للأمانة العامة، وتمَّ إبعاد المستشارين أو أهمية إلغاء منصب وزير شؤون رئاسة الجمهورية منصور عزام، وسواه.
أيضاً، وكعادة الجماعات المتنفذة في “قسد”، ونقصد قيادات حزب الاتحاد الديموقراطي، بإطلاق البرامج والنشاطات الجديدة، فقد أطلقوا عقداً اجتماعياً جديداً، وغيّروا تسميات المناطق والبلدات واسم الإدارة الذاتية، وباتجاهٍ ظاهريٍّ، يزيد من “ديموقراطية الشعوب والمكوّنات”، بينما يبتغون مزيداً من السيطرة على شمال سورية وشرقها، وبما يقترب من حالة “الاستقلال والانفصال”، كاستخدام مصطلحات الكونفدرالية، والفدرالية، نافين أية أشكال من التقارب بين سكان تلك المناطق وبقية المحافظات السورية، ومؤكّدين، في وثيقتهم الجديدة، أنّها شعوب ومكوّنات. وغير ذلك، أتت خطوتهم تلك، بدون النقاش مع أحزاب المجلس الوطني الكردي، ومن جماعة حزبية، وهي خطوة غير قانونية بالتأكيد، كما كل مؤسّسات الإدارة باعتبارها قوة مؤقتة، ونتاج استعصاءات الوضع العام في سورية، وأنَّ أيَّ تغييرٍ في شكل الحكم، أو علاقة المركز بالأطراف، يجب أن تخضع للاستفتاء الشعبي في كل المدن السورية، لا أن يكون خياراً خاصاً بهذه المدنية أو تلك، وغاب عن تلك الوثيقة المصطلح المتفق عليه تقريباً في وثائق المعارضة، وهو تطبيق اللامركزية الإدارية، والتي تُتيح هامشاً أكبر للأطراف ومراقبة دقيقة من المركز، وأن ذلك يستلزم بالضرورة الانتقال الديموقراطي. ولهذا، تُكرِّس قيادة حزب التجمّع الديموقراطي، الكردي، الابتعاد بين السوريين على أساس قومي أولاً، وتفرض، في الوقت ذاته، تحكّماً “قانونياً” على بعض ثروات البلاد مستفيدة من وجود النفط والغاز والأراضي الزراعية الخصبة في محافظات تلك المنطقة، ثانياً. إن ممارسات هذا الحزب ونشاطاته مرفوضة من الأغلبية السورية، ومن النظام كذلك.
تبدو سورية متجهة نحو مزيد من التعفن، وتظلُّ الانتفاضة في السويداء الوحيدة التي ترفض سياق التعفّن هذا، وهناك بعض الحركات والنشاطات في المناطق الخارجة عن سلطة النظام والرافضة للسلطات القائمة خارجها، والمتعلقة بالاحتجاجات الشعبية لمسائل مطلبية أو لرفض الخطف أو القتل أو نصرة لغزّة وفلسطين أو تضامناً مع السويداء. رغم ذلك، يُلحظ بعض التراجع بالخطاب الاقتصادي والاجتماعي في السويداء لصالح الخطاب السياسي، وتكريس نشاطاتٍ مناطقية أكثر فأكثر، كتشكيل قوى أمنية أو عسكرية جديدة، وتراجع أعداد المتظاهرين في أيام الجمع، وهذا غير مرتبط بقسوة الشتاء.
أذعن النظام لرسائل دولة الاحتلال فصمت، ولم ينفتح اتجاه محاولات احتوائه عبر مسار أستانة ومناطق خفض التصعيد في 2018، ولا تجاه المبادرات الإقليمية، فأضاع الفرص، ولأنّه لا يمتلك أيّ خياراتٍ خارج سياق المزيد من التعفّن، فإنّه في أضعف حالاته، ولكن الشعب أيضاً في أسوأ الأحوال، وبالتالي، تغرق سورية أكثر فأكثر في الأزمات واليأس والإحباط و”المراسيم والعقود”، وفي مختلف أشكال الانقسام، الراهنة، والتي يمكن أن تنفجر بشكلٍ أسوأ في حال زوال النظام من دون مخططٍ دقيق للانتقال الديموقراطي ومن دون إشرافٍ دوليٍّ، وهذا ما يخيف السوريين كثيراً، وربما هذا ما أعاق انضمامهم إلى انتفاضة السويداء، وأصبحت نجمة وحيدة في سماء سورية وأرضها.
المصدر: العربي الجديد